رغم أن الأزمات تؤزّم الإنسان فتُضيّق عليه وتربك حياته وقد تقلب عاليها سافلها إلاّ أنها لا تخلو من فوائد وربما فوائد جمّة لا يمكن أن نحوزها إلاّ من خلال وضع متأزّم بشرط أن نعرف كيف ندير هذه الأزمة لكي نتجاوزها بأكبر قدر ممكن من الاستفادة. إن ما حدث مؤخّراً بشأن الإساءة لرسول الأمة (ص) خلق وضعاً متأزّما للمسلمين كافّة – شعوباً وحكومات – ووحّدهم جميعاً على قضية واحدة وتلك حدّ ذاتها فائدة تدلّنا على أن لدينا – نحن المسلمين – من الثوابت المشتركة إذا ما اجتمعنا عليها ووظّفناها التوظيف الصحيح لأستطعنا أن نسمع صوتنا للعالم ونرغمه على احترامنا واحترام مشاعرنا ومقدّساتنا. هذه الأزمة وحّدت قرارات الحكومات العربية والإسلامية الممثلة في القمة الإسلامية الاستثنائية التي عقدت في مكة المكرمة، والمنظمات الحقوقية المختلفة والأفراد من رجال دين وحقوقيّن وغيرهم وذكّرتنا بأننا يمكننا أن نقوم قيامة رجل واحد إذا ما مُسّت مقدّساتنا المشتركة.
من فوائد هذه الأزمة أنها بصّرتنا بمفهوم “حرية التعبير” التي يتحدّث عنها الغرب “المتمدّن” ومنافاتها لأدنى قواعد احترام الآخر والتعايش الإنساني السمح، وأكّدت المعايير المزدوجة التي تحكم ردود أفعالهم فتارة يحكمون بالسجن على من يُشكّك في الهولوكوست، وأخرى يرفضون الاعتذار عن الإساءة الصريحة لنبي الإسلام (ص)، وفضحت “اللامبدئية” التي توجّه سياساتهم، والعنصرية المتجذّرة في لا وعيهم والتي عبّرت عن نفهسا في كلمات كبرائهم ابتداء من ملكة الدانمارك ومروراً بتصريحات رؤساء بعض الدول الغربية وردود أفعال صحافتهم “الحرّة” (!) وانتهاء بتأييد كبيرهم (بوش) للموقف الذي اتّخذته الحكومة الدانماركية. ومن ناحية أخرى كشف حجم الإساءة التي ألحقها بعض المحسوبين على دين الإسلام المحمدي بممارساتهم الخاطئة وتعصّبهم المغلوط؛ تلك فائدة قيّمة شريطة أن تستُثمر بحكمة ووعي ومنهجية وذلك لتحقيق هدفين أساسيين، أولهما كشف مثالب الشعارات التي تطلقها الدول الغربية فتُبهر بها شبابنا وبعض النخب من مثقّفينا فيرون في حرية التعبير عن الرأي بالطريقة الغربية المنفلتة من القيَم والكرامة والضوابط الخلقية أنموذجاً مثالياً لابدّ أن يُحتذى به ويُطبّق في بلادنا الإسلامية والعربية، وثانيهما التعرّف على حقيقة قيمنا وسموّ مبادئنا الإسلامية والعربية وتصحيحها ومن ثمّ تعريف الآخر بها لا قولا بل فعلاً.
بكشف المثالب سنتمكن من رؤية الأشياء على حقيقتها، فنعترف بأن الغرب تقدّم علينا في تطبيق الديمقراطية وممارستها، ووسّع مساحة الحريات لمواطنيه، ولكن لا يغيب عنّا في الوقت ذاته أنه إنما فعل ذلك لينعم هو بالحرية وليس إيماناً منه بأن هذا حق طبيعي لكل إنسان، ولانكشف لنا الوجه الحقيقي لتلك الحريات المزعومة والتي تتعدّى فيها على حقّ الآخر بحجة ممارسة حرية التعبير عن الرأي. إذا استطعنا أن نكشف هذا الجانب المظلم في الادّعاء الغربي سنخلّص مجتمعاتنا وبالأخص شبابنا من الشعور بالنقص التي يشعر به تجاه “الغربي المتمدّن” وسيعود للبحث عن هويّته التي فقدها أو تنكّر لها عندما استلبته بهرجة الغرب ومظاهرهم الخدّاعة فرأى نفسه قزماً أمام عملاق، وجاهلاً أمام عالم، ومتخلّفاً أمام متحضّر (!)؛ وفي هذا مكسب ما بعده مكسب لأننا لو حاولنا استنفار عُشر من خرج مندّداً بالإساءة لرسول الله (ص) في مناطق العالم المختلفة بوسائل الاتصال الحديثة لما استطعنا ولكن هذا التصرّف غير المدروس والخارج عن قواعد الأدب واللباقة استطاع أن يجمعنا على أمر واحد ويكشف لنا حميّة أمّتنا على دينها ورمزه الكريم محمد (ص)، فاسحاً المجال أمام المؤسسات الدينية والثقافية والمنظمات الحقوقية لتقوم بدورها لتوجيه هذه الطاقة الوجهة الصحيحة ليكونوا كلّهم دعاة لمبادئ رسول الله (ص) ولكن لا بألسنتهم وإنما بأفعالهم.
وبالتعرّف على أصالة قيمنا ومبادئنا وسموّ الأخلاق الكريمة التي مارسها رسولنا الكريم (ص)، والتأكيد على التعامل بتلك الأخلاق التي تابى أن تُعامِل المعادي لها بالمثل، وترفض التعرّض لمقدّساته، وتندّد بمن يعبّر عن رفضه للإساءة بإساءة مثلها، وبممارسة تلك القيم السامية بأعلى درجات ضبط النفس حتى ليعرفنا العالم أجمع من خلالها يمكننا أن نأخذنا دورنا الريادي في المصالحة بين عالم المصالح المادية، وعالم القيم المعنوية بعد طلاق وانفصال دام عشرات العقود من السنين. فالغرب المغترّ بنفسه وبما توصّل إليه من تطور صناعي وتقدّم تكنولوجي فقد الكثير من فطرته السليمة وصفائه الروحي فضرب عرض الحائط تعاليم أنبيائه ورسله ومصلحيه، وكثير من المسلمين كذلك تركوا تعاليم دينهم الداعية للتسامح، والتوادّ، والتعارف وتمسّكوا بقشور الدين وانزووا في كهفهم وأصبحوا لا يرون العالم إلاّ من خلال فتحة هذا الكهف المظلم فنشب بينهم عداء أسّسه المتطرّفون من كل طرف.
إن استخدام سلاح المقاطعة كردّ فعل سريع وموجع لابأس به ولكن ليس هو الحل الأفضل لمنع تكرار أمثال هذه التجاوزات المسيئة والمشينة، كما أن الجهود الفردية والجماعية التي بُذلت في زمن قياسي من خلال تخصيص بعض المواقع الالكترونية صفحات للتعريف برسول الله (ص) بلغات مختلفة، واللقاءات التي عقدها السفراء العرب في بعض الدول الغربية والتحركات التي بادرت بها الأقليات في الدول الأوروبية المختلفة، ومطالبة الهيئات الدولية بسن قوانين تحمي المقدسات والأنبياء، كلّها جهود طيبة ولابدّ أن تترك آثارها ولكنها لا تصل إلى أصل المشكلة. الحلّ الأهم والأولى يبدأ بالبحث عن الأسباب الحقيقية وراء هذه الكراهية للإسلام ولنبينا الكريم، وكما كنّا نطالب أمريكا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر معرفة أسباب كراهية العرب والمسلمين لها، فاليوم علينا أن نطالب أنفسنا بمعرفة الأسباب التي تجعل الغرب يكرهوننا كمسلمين ويوصمونا بتلك الأوصاف المشينة، لا تبريراً لهم على إساءتهم بل نقداً ذاتياً لأنفسنا ولما ارتكبنا من أخطاء بحيث صوّر الإسلام ومن يمثّله (ص) بهذه الصور المزرية.
فرُبّ ضارّة نافعة إذا ما أحسنّا التصرّف وإذا ما تكاتفت الجهود الجماعية والمؤسسيّة لتصحيح صورة الإسلام التي أساء إليها شرذمة ممن أساؤا فهم تعاليمه وذلك باستخدام الطرق والأساليب التي يلجأ إليها الغرب أنفسهم من قبيل عقد المؤتمرات للتعريف بمبادئ الإسلام العالمية، وعقد لقاءات مع مثقّفيهم المنفتحين على الحضارات المختلفة، وبالمشاركة في المنظمات التي تشجّع التقارب بين الأديان وحوار الحضارات لنعرّف العالم بالإسلام الأصيل لا الإسلام الذي روّج له لأغراض مغرضة. والدور الأكبر يقع على عاتق رجال الدين وخطباء المساجد في التذكير بالأخلاق الإسلامية والحث عليها والتأكيد على ممارستها وتطبيقها بحيث يُعرف الإسلام بالمسلمين، أما الجري وراء الحكومة الدانماركية لتقديم الاعتذار على ما بدر من أجهزتها الإعلامية فقليل الجدوى، لأنها ربما تعتذر تحقيقاً لمصالحها المادية ولكن ما فائدة الاعتذار الظاهري والنظرة السيئة لازالت موجودة والكراهية مدفونة في الأعماق.