ربّ حسنة تمحو معظم السيئات

(هتلر) مات منتحراً في قبو من أقبية برلين بعد دخول قوات التحالف إليها، و(موسوليني) أُعدم من قبل شعبه في ميدان “دونجو” بميلانو، و(ستالين) قضى مسموماً بعد أن دسّ له أحد وزرائه السمّ في طعامه، و(صدّام) أُسقط بواسطة قوّات الاحتلال الأمريكية ثم أُعدم بعد أن تسبب في جلب الاستعمار والدمار لبلاده، و(محمد رضا بهلوي) مات على فراش الذلّ مريضا في مصر بعد أن طُرد من إيران إثر قيام الثورة الإسلامية فيها.

“لقد توفي مصاص دماء القرن العشرين”، هكذا أعلنت وسائل الإعلام الإيرانية خبر وفاة شاه إيران قبل تسع وعشرين عاماً، ويُنقل عنه أنه قال في آخر مقابلة معه: “ما الذي سآخذه معي إلى القبر .. لا شيء .. ولا حتى بدلة، ربما قطعة قماش أبيض فقط، فما سآخذه إذاً هو التاريخ، والتاريخ فقط”، ورغم أنه كان أكبر حلفاء أمريكا والغرب إلاّ أنه بعد ما طُرد من إيران قبل ثلاثين عاماً لم ترضَ أيٌّ من أمريكا أو بريطانيا أن تستقبله، فقضى فترة من الزمن في بنما إلى أن ساءت حالته الصحية وكان بحاجة إلى عناية خاصة فـ(سمح) له الرئيس الأمريكي جيمي كارتر بالقدوم إلى أمريكا لتلقي العلاج فقط، وما أن استقرت حالته طلبت منه الحكومة الأمريكية مغادرة أراضيها خوفاً من تنامي الضغوط عليها إذا استمرّ بقاؤه فيها، فظلّ بقية عمره غير مرحّب به في الكثير من الدول التي كان حليفاً استراتيجيا (أي عبداً مطيعاً) لها، إلى أن استقبله أنور السادات فبقى في مصر حتى مات.

لست بصدد ذكر مثالب هذا الطاغية فالكتب والأفلام وكذا المواقع الالكترونية مليئة بها، وهو وإن أخذ أعماله معه إلى قبره إلاّ أن تاريخه محفور في ذاكرة من احترقوا بنار ظلمه، ومحفوظ في الوثائق لمن يريد أن يقرأ ويستفيد، ولكن ثمة تلازم وثيق بين الاحتفالات بذكرى انتصار الثورة في إيران قبل ثلاثين عاماً وخاتمة إمبراطورية جثمت على صدرها عقوداً إن لم يكن قروناً، إذ استطاع الشعب بوعيه وإرادته، وتضحياته الجسام، وحكمة قيادته الروحانية أن يتجاوز عشرات السنين من القمع، ومحاولات مسخ الهوية، ونهب الثروات، والعمالة للغرب، ليغدو اليوم رقماً لا يمكن تجاوزه في المعادلات الدولية، ولا تهميشه في مباحثات السلم أو الحرب، رغم ما فُرض عليه من حصار اقتصادي وشُنّت عليه من حروب مذ انتصار الثورة إلى اليوم.

لا أحد يدّعي أن النظام الحالي خالٍ من النواقص والأخطاء، أو أنه يمكن نعته بأنه (ليس بالإمكان أفضل مما كان) ولكن تقييم الحالة الإيرانية بميزان الربح والخسارة يفضي إلى أنّ ما ربحته إيران بتحرّرها من الهيمنة الغربية، وامتلاكها حرية قرارها السياسي بعيداً عن أي نفوذ خارجي مهما تعاظم خطره، أكسبها حسنة أذهبت الكثير من سيئاتها، فاستطاعت أن تعطي أبناءها شعوراً عميقاً بالعزّة والكرامة، فرغم اختلاف بعض فئات المجتمع مع نظامها القائم إلا أنهم التفّوا حول قيادتهم في قضايا عدّة، على رأسها حقهم في امتلاك المعرفة والطاقة النووية لأغراض سلمية، فكشفت لهم في احتفالها الثلاثين عن مدى تقدّمها التكنولوجي بإطلاق قمر صناعي بإمكانيات ذاتية، إلى جانب تطويرها صواريخ باليستية بعيدة المدى، وفي مجابهة الهيمنة والاستكبار العالمي، وفي مناصرة المظلوم، فتوحّدت إرادة الشعب والحكومة في قضايا مصيرية وبات من الصعب الإيقاع بينهم.

لأنها ملكت حرية القرار، فإن إيران اليوم حرّة في اختيار الطريقة التي تدعم بها المقاومة سواء في فلسطين أو لبنان، ولا يعنيها أبداً دعوتها إلى مؤتمر (إعمار غزة) أو تغييبها عنه، وما من أحد يمكنه أن يفرض عليها أن تقدّم مساعداتها للسلطة الفلسطينية المنتهية صلاحيتها، بل لها كامل الحرية في اختيار الطرف الذي تثق بنزاهته، وهي بالتالي ليست مضطرة للدخول في لعبة تسييس المعونات لغزة، ولا لابتزاز الفلسطينيين وتركيعهم لشروط تسلبهم أرضهم وكرامتهم وانتصارهم وهم في أمس الحاجة للمساعدة والنصرة، وبالتالي فهي مغيّبة من مؤتمرات حياكة المؤامرات ضد الشعب الفلسطيني مثل (مؤتمر منع تهريب السلاح إلى غزة)، ولكنها حاضرة بمشاريعها هناك، ولن تقبل ولاية أحد عليها، وكفى بذلك إنجازاً وشرفاً.

يُذكر أن رجلاً مصاب بمرض الرهاب النفسي كان يتصور أنه حبّة قمح، فإذا رأى الدجاج ذعر وارتبك لأنه كان يعتقد أنّ الدجاج سوف يأكله، وبعد أن عولج واقتنع أنه إنسان وليس حبة قمح، أخذه الطبيب إلى حظيرة دجاج ليتأكّد من شفائه فعاد له الرعب مرة أخرى، فسأله الطبيب ألم تقتنع بأنك إنسان، قال: نعم، ولكن من يقنع الدجاج بأني لست حبة قمح.

الأنظمة العربية وبالأخص دول الاعتدال – شفاها الله – يبدو أنها مصابة بداء الرهاب هذا فتتخيّل أنها حبة قمح، فأصبحت تخاف من كل شيء، تخاف من شعوبها، تخاف من المقاومة، تخاف من مفكريها ومعارضيها، وطبعاً لابد أنها تخاف من إيران، وسوريا، وشيئاً فشيئاً من قطر، ثم تركيا، لأنّ أعداءها الحقيقيين أقنعوها بأنها حبّة قمح سيأكلها هؤلاء، ولن تتعافى وتخرج من قبضتهم إلا إذا اقتنعت أنها دول حرّة وذات سيادة، لا حبّة قمح، لتتمكن من بناء تحالفاتها على أساس من القوة المتكافئة والندّية، لا الخوف والهلع من مغبة الأكل والابتلاع.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة