الأحداث التاريخيّة بعضها لا يبقى إلا لوقته وساعته، وبعضها يظلّ عصيّاً على النسيان والاندثار، بل قد يُصبح حدثًا فريدا لا توأم له ولا عقِب.
فـ(النجاشي) بعدله وحكمته في الحكم والتشاور وتعاطي السياسة وإيوائه أناساً للتوطّن بمعيارٍ توطينيّ فريد، هل كان حدثاً يتيما لا مسبوق ولا ملحوق؟ أم هو حدثٌ نموذج يجدر بالتاريخ أن يُوجد أمثاله؟!
حين اشتدّ العذاب والاضطهاد بأصحاب النبيّ (ص) في ديارهم بمكة، وأدركوا أن لا قدرة لهم على تحمّل البلاء المنكّل بهم، أشار عليهم رسول الرحمة (ص) بالهجرة إلى الحبشة، معلّلا تلك الوجهة بقوله (فإنَّ بها ملكاً لا يظلم عنده أحد حتى يجعل اللّه لهم فرجاً مما هم فيه).
إنّ هذا الوصْف النبوي لهذا الملك يُوجب تحليل شخصيته لاستلهام سرّ المقولة فيه، واستحقاق كونه ظاهرة تاريخية، فمن إشارة النبي دخل جعفر ابن أبي طالب وقومه أرض الحبشة، ولحق بهم وفد من المشركين ليردّوهم إلى مكة تحت سطوتهم، أشاعوا عنهم أفظع صور التشويه، أفزعوا مملكة الحبشة بهم، وصوّروا للمجتمع الحبشي أنه قد دهمهم أخطر جماعة على دينهم، يقولون منكر القول في عيسى وأمّه، ووصلت التهويلات قصر الملك، لجعل قساوسة الدين وبطارقته يمارسون الضغوط على الملك ليُحرِّم على اللاجئين (السياسيّين) جواز التوطّن هناك، فأحضر الخصمين معا: عندها اتّجه عمرو ورفيقه إلى النجاشي وطلبا تسليمهما (الفارّين) بدينهم، قالت البطارقة من حوله: (صدقا أيها الملك، قومهم أعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما)، إلاّ أنّ نخوة الملك وعدله وإباءه ظلم أحد عنده، جعلته يصرّ على سماع ردّ المستضعفين، فتقدّم جعفر الطيّار وقال: (أيُّها الملك، كنّا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منّا الضعيف، فكنّا على ذلك حتى بعث اللّه إلينا رسولاً منّا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى اللّه لنوحّده ونعبده، ونخلع ما كنّا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، … فلمّا قهرونا وظلمونا وضيَّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورجونا أن لا نُظلم عندك).
كان بمقدور النجاشي أن يترك الأمر إلى حاشيته ومشيريه، لكنه تدخّل بنفسه لقطع الهرج والمرج، وبعد إدراكه أن أمرًا بهذا الحجم لابدّ وأنه دُبّر بليل، لهدْر قيَم الإنسانية التي جاء بها المسيح تحت أقدام جشع السياسة، فكان بحق نِعم المنعوت بلسان محمد (ص)، كان أفقه وأعقل وأجلب للأمن والسلم من البطارقة ممّن حوله الذين أشاروا برأيهم الجائر، لم يُسلمهم ولم يُسلم نفسه إلى تمنيات المشيرين وهواجسهم وآرائهم بلا تمحيص، سمع المقالتين والحجّتين بأذنيه ووازن بينهما دون محاباة لأحد، قيّم مقالة جعفر بما تحمل من قيم إنسانية صرفة وجدها تعبق من روائح عيسى وموسى وإبراهيم (ع)، ولو دخل في التفاصيل والتمايزات الجزئية بعيدا عن منظومة القيم والأصول، لانعشى بها، ولألفاها جدارًا فاصلا تحجز شريعته عن شريعة محمّد (ص)، تحجزه عن الإعجاب بسموّ الملّة الخاتمة حين يقرأها بغشاوة عيون محجريْه وعيون قساوسة متحجّرين؛ وتبعًا لهذه النظرة القاصرة، والجهل بأبعاد الإسلام الجديد وأهدافه السامية، وإغماض العين عن آثار محمد (ص) في رقي الإنسانية زلّ مجداف (البابا بنديكتوس السادس عشر) هذه الأيام، وأبان عن ثقافة ما زالت تجهل ذاك السموّ الناصع، فليته يتملّى من دروس “النجاشي” ليقوم على ساقيه، ناشرا قيَم السلام.
لو استمع النجاشي إلى صوت التعبئة الطائفية التي راجت في تلك الفتنة لألغى النجاشي عقله، ولما نتج منه إلا التشنّج السلبي ضدّ أصحاب الدين السماوي الآخر، ولغابت مبادئ القيم المشتركة بين الملّتيْن من صدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الإجارة، والكفّ عن المحارم والدماء، والنهي عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، ولزالت أسس الدينيْن العظيمين في مهدهما وانحلّت عروتهما الوثقى.
لقد أدرك النجاشي دوافع اختيار المهاجرين للحبشة، فهم لم يساوموا على دينهم، وإن عُذّبوا واستبيحوا لآرائهم ومعتقداتهم، وأنّ هجرتهم من وطنهم لا من أجل مصلحة شخصية، ولا من أجل رزق، أو لهوٍ وتجارة، بل هي هجرة بالعقيدة والمبادئ الإنسانية، وفرارٌ عن الظلم والاضطهاد، وهم أهل الفضائل والقيم، وبالتالي هم يضيفون رقما مهمّا ورافدا للمجتمع الحبشي؛ لدعم قيم السلام والمحبة وعيش الحرّية والكرامة، هم يُشكّلون سموّاً للمجتمع السلمي ودعامة له لا تهديدًا، يتواصّون بالحق واحترام قوانين البلد المنزوح له ودينه وأعرافه؛ وهم بذلك أهل للتوطّن والأمان، فما كان من النجاشي إلا أن أُصدر مرسوما ملكيا بحرّية توطّن النازحين بأمن وأمان لا يمسّهم أحد بسوء.
لو كان النجاشي ممّن يرى نصر المسيح بتشجيع الاستعداء بين الطوائف، وإيقاد الخصام بينها، لراهن على بقاء المهاجرين وخصومهم في آنٍ، ليحتلب الاثنين؛ يستعدي مرّة هؤلاء ومرّة هؤلاء، ويبقى الطرفان ورقة سياسية يُلعب بها، كما هو رائجٌ في سياسات اليوم، وإذّاك لما احتفظ التاريخ بمأثرته ولربّما لعنه إلى الأبد، ولباءت مملكته بالفتن والعصبيات، إلا أنه أبى إلا فعل الجميل، فنصر المظلوم، ودفع الغَشوم، وهذا هو تماماً معنى السلام، وسبيله الوحيد.