عندما يغيب المبدأ وتنسى الثوابت

بعد أن كانت الأحزاب الإسلاميّة الشيعيّة العراقيّة تطمح في إقامة دولة إسلاميّة تقيم العدل في الأرض إذا بها تنتكس فتدخل العراق مع دبابات الاحتلال، وتتعاون معه على إقامة حكم جديد في العراق، فهل بربك رأيت نهاية أسوأ من هذه النهاية، وهل سمعت بكارثة أدهى من هذه الكارثة.

هاهي الخيوط النهائية للكارثة بدأت تتكشف، أمريكا ستنسحب من العراق عاجلاً، وأخذت تضغط على العراقيين لتغيير سياستهم، فبعد لقاء بوش بالحكيم دعت الحكومة العراقية منتسبي الجيش العراقي السابق إلى الالتحاق بالجيش العراقي مجددًا، ووعدت أن تعيد النظر في الدستور العراقي الجديد، وفي قانون اجتثاث البعث، كما أعلنت الحكومة الأمريكيّة من جانبها عن استعدادها لمقابلة الشيخ حارث الضاري، وأدرك الشيخ الضاري أنَّ هذه الدعوة علامة هزيمة فاشترط حضور ممثل عن جامعة الدول العربيّة هذا اللقاء.

وإذا أضفنا لهذه المعطيات ما جاء في تقرير بيكر هملتون وما صرح به وزير الدفاع الأمريكي الجديد من أنَّ أمريكا لا تحقق نصرًا في العراق، وأنَّهم يوصون بأن تتباحث أمريكا مع إيران وسوريا بشأن العراق، وبحل مشكلة الشرق الأوسط وعودة لاجئي سنة 1948 إلى فلسطين أو تعويضهم تعويضًا مجزيًا، أدركنا عمق هزيمة أمريكا في العراق.

وإذا كان بإمكان أمريكا أن تفرَّ بجلدها وتطلق قنابل دخانية تموه هزيمتها كما فعلت في فيتنام، فإن العراقيين المتحالفين معها سيكونون الخاسر الأبدي كما كان الفيتناميين الجنوبيين الخاسر الأبدي من الانسحاب، لن يكون لهم موضع قدم في عراق ما بعد الانسحاب، لذلك فمن المرجح أن يحدث انقلاب عسكري بعد الانسحاب الأمريكي البريطاني يطيح بالحكومة العراقية المترنحة، أو تبدأ الحرب الأهليّة المدمرة رسميًا، فالمقاومة العراقية التي دحرت الاحتلال لن تقبل بمن تحالف مع الاحتلال شريكًا، بل ستجري عمليات تصفية على نطاق واسع لمن تحالف مع الاحتلال وسيضطر الشيعة للدفاع عن أنفسهم عندها سينفتح بركان الثارات في بلد الثارات الذي لن يهدأ لسنين إذا ما قدر له أن ينفجر.

هذه نتيجة مرّة من نتائج الإستراتيجية الخاطئة للحركات الإسلاميّة الشيعيّة، والقراءة الخاطئة للتاريخ، والسير مع مزاج الشارع، وعدم النظر في العواقب، وغياب المبدأ ونسيان الثوابت.

أمّا القراءة الخاطئة للتاريخ فهذه الحركات اعتقدت واهمة أنَّ المرجعية الدينيّة في ثورة العشرين أخطأت عندما تحالفت مع الدولة العثمانيّة ـ رغم ما أصاب الشيعة من حيف من العثمانيين ـ ؛ فقاومت وقاتلت قوات الاستعمار البريطاني سنة 1920، وأنَّ السنّة ظفروا بالحكم لمّا تحالفوا مع قوات الاستعمار كما توهموا، فالتاريخ يقول أنَّ الشيعة والسنَّة جميعًا قاوموا الاحتلال، وأن بريطانيا طرحت مرشحها الملك فيصل بن الشريف حسين لحكم العراق بعد استقلاله، لأنَّ والده الشريف حسين كان شريكها في تقويض أركان الدولة العثمانية قبل أي سبب آخر، وأنَّ الشيعة أرسلوا الشيخ محمّد رضا الشبيبي إلى الحجاز ليبلغ الملك فيصل موافقة زعماء الشيعة على تنصيبه ملكًا على العراق. ولمّا جاء فيصل إلى العراق جاء بمشروع بريطاني يعتمد “قاعدة فرق تسد”، وأنَّ “الحكم للأقلية” ليبقى البلد مضطربًا على الدوام، وأعانها على تنفيذ هذه السياسة الفتاوى التي تحرم العمل الرسمي في الجيش ومرافق الدولة الأخرى. فسياسة التفريق والفهم الفقهي الجامد جعلت السنّة متنفذين، والشيعة مهمشين، ثمَّ جاءت الانقلابات العسكرية، وقادتها كلّهم سنّة لأنَّهم تبوءوا أعلى المراتب في غياب الشيعة، فكرست الانقلابات نفس الواقع السياسي أيام الملكيين. اليوم جاءت الأحزاب الشيعيّة فقرأت التاريخ معكوسًا وطبقته على الواقع وظنت أنَّها إذا تحالفت مع قوات الاحتلال فستفوز كما فاز السنّة من قبل وأن الأمريكان سيسلمونها مفاتيح العراق.

وأمّا الإستراتيجية الخاطئة، فالخطاب الطائفي، من قبل لمّا كانت الدولة في العراق عربيّة قوميّة تعصب الأكراد لقوميتهم وقالوا نحن كرد لنا لغتنا وعاداتنا وتقاليدنا فنشبت الحرب بين الحكومات العراقية المتعاقبة والأكراد خمسين سنة من حكم عبد الكريم قاسم إلى عهد صدام حسين، ولو أنَّ هذه الحكومات قبلت بواقع العراق وتعدد أديانه وقومياته ومذاهبه، واستهدوا بهذه الآية الشريفة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)، ( لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ )، ولكنهم بدل أن يتعارفوا تقاتلوا خمسين سنة. وجاءت الأحزاب الشيعيّة اليوم لتعيد هذا الخطاب ولكن بنغمة طائفيّة نحن شيعة ونحن أغلبيّة ولنا كذا وكذا فتعصب الطرف الآخر فقال نحن سنّة ونحن أغلبية ولنا كذا وكذا، وانفتح باب الفتنة المدمر، وما كان للحركات الإسلاميّة أن تنجر لهذا الخطاب الطائفي المقيت لو أنَّها نظرت إلى أبعد من رجليها، وتذكرت ما فعله الاقتتال الطائفي في العراق أبان العصر العباسي والعثماني والصفوي، وما كان لها أن تقع في هذا المهوى السحيق لو أنّها امتلكت إستراتيجية صحيحة تقود بها الشارع وتحكم بها نوازعها النفسيّة، ولكن لما فقدت هذه الإستراتيجية أصبحت أسيرة الشارع فأصبح الشارع لها قائدًا، تغضب لغضبه وترضى لرضاه، كما أنستها معاناتها من ظلم صدام النظر في العواقب التحالف من أمريكا وبريطانيا والاستماع لنصح الناصحين.

لقد نصحهم السيد الخامنئي وحذرهم من التحالف مع أمريكا وبريطانيا وقال لهم سيكون مثلكم مثل من يستعين بالأسد ليخرج الذئب ليصبح الأسد المستوطن الجديد، وأنّ أمريكا تريد احتلال العراق لثلاثة أهداف حفظ أمن إسرائيل، والسيطرة على النفط العراقي، ومحاربة إيران، لا مصلحة العراقيين كما حذرهم السيد نصر الله، ولكن “لا رأي لمن لا يطاع”.

عموا عن نصيحة الناصحين وهم يرون ما تفعله السياسة الأمريكية والبريطانية في فلسطين، وما فعلته فيهم عندما دفعوا صدامًا ليحارب إيران فانصلوا بحرب دامت ثمان سنين، وما فعله الحصار الذي فرضته أمريكا بهم طوال عشر سنين، عموا عن كل ذلك لأنَّهم بدون إستراتيجية، وصار “ناصحهم فاضحهم”.

وأمّا عن عدم النظر في العواقب، فلو انتفعوا بكلمة علي (ع) “احذر المرتقى السهل إذا كان المنحدر خطيرًا”، لكان في هذه الكلمة حبل نجاة، ولكنَّهم لم يحذروا المرتقى السهل فانحدروا إلى منحدر سحيق، ظنوا العراق سيصفوا لهم إذا أسقط الأمريكان صدامًا، وأن الأمريكان سينصاعون لهم متى ما طلبوا منهم الجلاء، ناسين أن ليس للمحتلين ذمة ولا ميثاق وأنَّ الوطن العربي لم يسترد استقلاله منهم إلا بعد ثورات شعبيّة استشهد فيها مئات الآلاف بل الملايين كما حدث في الجزائر.

ما كان أغنى الشيعة عن مثل هذا التحالف المشئوم، ولكن لمّا غاب المبدأ ونسوا ثوابتهم تحالفوا، كان مبدأهم في الأوّل عندما أنشئوا أحزابهم تحرير العراق من الظلم والاستبداد، فلو بقوا على هذا المبدأ لوجدوا أنَّ محاربة المحتلين فرض عين عليهم لأنَّهم ظلمة مستبدون كما كانت محاربة صدام من قبل واجبًا عليهم لأنَّه ظالم مستبد، ولو قاوموا الاحتلال لتوحد العراق سنة وشيعة تحت راية المقاومة كما هو حال لبنان اليوم، ولحولوا الأزمة إلى فرصة للوحدة، ولكنَّ لمّا غاب المبدأ ونسيت الثوابت نزلت الكارثة.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة