قبل أكثر من مائة وعشرين عاما (1892) طُبع كتيب صغير عنوانه “علامات قيام الساعة الصغرى والكبرى”، تأليف يوسف إسماعيل النبهاني وأعيد طبعه عام 1987 وضع في آخره فهرس بعناوين كتب أصدرها المؤلف، كان أحدها “القصيدة الرائية الصغرى في ذم البدعة وأهلها ومدح السنة الغرّا”، هذه القصيدة خصت بالذم من مبتدعة العصر جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده المصري، ورشيد رضا صاحب جريدة المنار، وكان هؤلاء وقتها مازالوا على قيد الحياة، واليوم بعد مرور أكثر من قرن من الزمان أصبح هؤلاء (المبتدعون!) من أعلام النهضة الإسلامية، ويُصنّفون مع المصلحين الكبار، وتعاد طباعة كتبهم ليُنهل من أفكارهم، وذهبت التهم الموجهة إليهم مع أصحابها أدراج الرياح، وبقى ذكرهم وأثرهم الطيب إلى يومنا هذا، “فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ”.
يقول أحمد يوسف صاحب كتاب الميراث العظيم في مقدمة كتابه الذي يحاول فيه إبراز أولوية العرب في الحضارات الإنسانية العالمية “ولعلّ أغرب ما في الأمر هو أن الصدّ الذي يمكن أن يلاقيه مثل هذا الكتاب سوف يبرز في الأوساط الفاعلة من الناس المكرّس لمصلحتهم”، ويعلّل ذلك بأن “الأوساط الفاعلة في الأمم المعذبة تتطلع بشغف محموم إلى اللحاق بركب الحضارة العالمية السائدة، فإذا دعوتهم إلى التخلي عن هذا التطلع، والتحرر من عبودية هذه الحضارة فإنك سوف تثير حنقهم، وهذا يعود بالطبع إلى أن العبيد يستسيغون ويستمرئون عبوديتهم ودونيتهم مع مرور الزمن، فقد استقر الكثيرون عن قناعة آثمة في المواقع التي حدّدتها لهم تراتبية علم التاريخ الإمبريالي”.
ما بين هذين المعطيين ثمّة سؤال: متى سيصلح حال هذه الأمة، وكيف؟ إذا كان مصلحوها محارَبون مضطهدون، بينما عموم الناس يرزحون تحت نير عبودية الجهل بشتّى أنواعه الممارس عليهم من كبرائهم قبل أعدائهم، فلا معلم مصلح يسترشدون بهديه، ولا حرية تفكير متاحة!! أوليس الناس معذورين إن هم ركنوا لما هو متاح لهم من خيارات محدودة وضيقة؟ وهل يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها؟
فما جدوى العقل الذي أُعطيناه إذاً، وأين تاهت نداءات السماء بإعمال العقل، والتفكير، والتفكّر، والتدبر، والتأمل؟ فإذا كنا مدعوّين أن نتفكر في خلق السموات والأرض، وفي اختلاف الليل والنهار، والفلك التي تجري في البحر، وفي ما أنزل من السماء فأحيا به الأرض بعد موتها، وفي الأمم السالفة وما جرى عليها، وفي قصص الأولين والاعتبار منها، وفي القرى التي بادت، وفي الأمثال والأحداث، وفي السنن والشرائع، فكيف نكون معفيّين من إعماله لاختيار وجهتنا في الحياة وتقدير خواتيم أمورنا، ومن ذا الذي يدّعي صحة قاعدة “قلدها عالم واطلع سالم”، أّولا ترون أنها تتناقض مع قوله تعالى: “كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ”، ثم أيننا من الآيات التي تجعل كل فرد منّا أمام مسئولية مباشرة عن أعماله “وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً”، و”اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً”، و”هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ”، إلاّ أن نصنَّف مع من رُفع عنه القلم من المجانين والصبية وفاقدي الذاكرة، حاشانا.
لسنا بحاجة إلى مزيد من العلم ولكننا بحاجة إلى قليل من الضمير، وخاصة لدى الوعّاظ والخطباء الذين ينصحون مستمعيهم بقراءة القرآن وفهمه والعمل بتعاليمه، وهم يمارسون عليهم إرهابا فكريا ويشعرونهم بأنهم إن خالفوهم في فهم جزئية منه خرجوا عن الدين القويم، يقرأون عليهم: “وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ”، ويطالبونهم بمتابعتهم حذو النعل بالنعل، فيستثنون أنفسهم من الآبائية المرفوضة في القرآن الكريم والمدعوون لنبذها، وكأن آباء الآخرين هم المدانون فقط، ويكرّرون عليهم “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً”، في حين أنهم يطبّقون أشنع أنواع الاستعباد عليهم، ناسين أنهم بذلك إنما يفعّلون قانون نظام الله في الوجود “فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ” فسيذهب كلّ ألوان الاستعباد والاستبداد جفاء وإن طال الزمن، وما ينفع الناس ويصلحهم سيمكث.