يذكر أحد المشايخ بلهجة مصرية طريفة أنه في أحد دروسه الأسبوعية أتاه مجموعة من الناس يسألونه عن صحة ما يؤثر عن رسول الله (ص) بأنه كان لا يردّ الطيب ولا يردّ الدهن، فأكّد على صحته، فهلّل أحدهم قائلاً: ألم أقل لكم ذلك؟ فاحتج عليه آخر وأخذ يوضّح الأمر للشيخ بتفصيل أدقّ، فذكر إنّ هذا الرجل قد دعاهم لتناول الغذاء عنده فأتى لهم بشحمة الخروف بعد أن حمّرها بالسمن البلدي، وكان يقطّع لهم قطعاً منه ويطلب منهم أن يأكلوه، ويكرّر عليهم: تفضّلوا .. كلوا .. فقد كان رسول الله (ص) لا يردّ الدهن، وهم بما لديهم من عاطفة جيّاشة تجاه رسول الله (ص) حاولوا أن يأكلوا، ولكن ثقل عليهم أكل شحمٍ مقلي في زيت بلدي!! وقد سبّب لهم مضيّفهم حرجاً بتكرار الحديث عليهم وهو يدعوهم للأكل، فسألوه أكثر من مرّة: هل أنت متأكّد من صحّة ما تقول، فكان يقسم لهم بصحته، ما اضطرّهم أكل قطعاً من الشحم حبّاً في رسول الله (ص) رغم عدم رغبتهم فيه، ولكن لم يستطيعوا مواصلة الأكل فقرّروا الذهاب إلى هذا الشيخ وسؤاله فأخبرهم بأنّ ما أُثر عن رسول الله (ص) هو أنه كان لا يردّ الدهن أي لا يردّ دهن الطيب (وهو العِطر) إذا ما أُهدي إليه، فما كان منهم إلاّ أن قالوا لمضيّفهم بلهجتهم المصرية يا ابن الكلب، كنت حتموّتنا باسم النبي .. باسم النبي، وباسم الدين، وباسم القرآن، ولا يعلم إلاّ الله كم من جرائم ارتُكبت في حقّ الأمة.
ولعلّنا لو عرّضنا بعض الفتاوى لهكذا مساءلة لاكتشفنا فداحة الأخطاء التي وقعنا فيها في فهم الشريعة المحمدية السمحاء، وسلوك محجّته البيضاء، ولو استشهدنا بأمثال هذه الحكاية لنحتجّ على بعض المشايخ بأنهم ربما فهموا بعض أقوال رسول الله (ص) وسنّته مجتزأة وخارج سياقها التاريخي، لما قبلوا ذلك ولا اعترفوا به، وقد يتجرّأ بعضهم بتوجيه نتائج تلك الأخطاء بالقول بأنه لو مات أحدهم بسبب هذا الفهم الخاطئ لمات شهيداً في حبّ رسول الله (ص)!! والمصيبة أنّ هناك من يصدّق بسذاجة هذا التبرير السمج.
المرأة، أحد، وقد تكون أكبر، ضحايا الفهم الخاطئ لنصوص القرآن الكريم، والتصديق الساذج لما يُملى عليها من فتاوى ذكورية الأصل والمنشأ، ما أنزل الله بها من سلطان، أكثر اللّوم يقع عليها، وأيضًا مسئولية التغيير عليها، وإلاّ فمسكّنات المورفين التي تُزرق بها بين الفينة والفينة بأنها كلّ المجتمع، لأنها نصفه، ونصفه الآخر ترعرع في حضنها (!)، وأنّ (وراء) كل عظيم امرأة، وما إلى ذلك من (مهدّئات) تسعى للمحافظة عليها في حالة خدر دائم، لن يزيدها إلاّ تخلّفاً، وتبعية، وتأخّراً عن أداء دورها الإنساني غير المحكوم بجنسها، ولا المؤطّر بموروثاتٍ اجتماعية متكلّسة، وإليكم مثالاً من عشرات الأمثلة:
طلّقها زوجها في لحظة غضب (ثلاثاً) .. فانفصلا، ثم ندما وأرادا أن يستأنفا حياتهما الزوجية، فقيل لها (بحسب مذهبها) أنّه لا يحق لها الرجوع إليه إلا بعد أن تتزوّج رجلاً آخر ويُطلّقها، فسألت إحدى المجتهدات في أحكام الشريعة عن حكم رجوعها إلى زوجها ثانية، فأعلمتها بأنّ طلاق الغضب لغو، ويجوز الرجوع لزوجها دون الحاجة للزواج من آخر .. فرحت كثيراً ليسر الشريعة، ولكنّها … تردّدت في أخذ حكمها من (امرأة)، فسألت مَن أخبرتها بالحكم هل يمكنها أن تسمع هذا الكلام من رجل ليطمئّن قلبها؟ وبما أنّ المجتهدة تعلم مشكلة أكثر النساء في مجتمعاتنا بأنها لا تتقبّل أن تأخذ حكماً شرعياً من فم امرأة، فلم تطل معها كثيراً، ولبّت لها طلبها، فذهبت لأحد المراسلين العاملين في المؤسسة التي تعمل فيها ولقّنته الإجابة الصحيحة على سؤال المطلّقة، ثم طلبت منها أن تتصل به وتسأله لتسمع منه (رأي الشرع!) وفعلاً قبلت المرأة المطلقة نفس الإجابة من فم (رجل) جاهل لا علاقة له بالشريعة، ولم تقبل أن تأخذه من (امرأة) مجتهدة!! فمن ذا الذي برمجها على هكذا قناعة؟
طبعاً ليست كل النساء كتلك، فهناك القوية المستقلّة التي تعلم ما لها وما عليها، انظروا شاهداً أختنا الصحافية المقدامة لميس ضيف وهي تلقي حجراً تلو الحجر في مياه الفساد الآسنة لكشف الحقيقة وتدفع ثمن قلمها الحرّ ولا تبالي، وهناك غيرها ممّن أبين أن ينسحقن لرغبات وغطرسات رجال، فبعد أن ارتبطت إحداهنّ بزوج هو دونها ثقافة وعلما، إذ لم يكمل هو دراسته الثانوية وهي جامعية وموظّفة، وبمساندتها أكمل الثانوية والجامعة وتقلّد وظيفة مرموقة، وطوال سنّي دراسته كانت وراءه تدفعه للنجاح، وتتابع احتياجات الأبناء، وتحمّلت عناء بناء البيت الذي حمّلها الكثير من الأعباء المالية، إلا أنها كانت تشعر بسعادة وهي تكدح لراحة أسرتها، ومرّت السنون فإذا به يقرّر الزواج من ثانية بلا سبب مقنع، فعلمت زوجته بذلك، فما كان منها إلا أن داهمته يوم (خطوبته) فسلّمته الأولاد ليتكفّل بنفقتهم وتربيتهم وتعليمهم، ومنعته من العودة إلى البيت الذي لم يكن له نصيب فيه، وعندما علمت خطيبته بأنانيته ولؤمه مع زوجته وأولاده، رفضته، فخسر نفسه وزوجته وأبناءه والمدعوّة خطيبته، ثم، بعد عدةّ شهور، عاد إلى رشده وإلى أسرته بعد أن تصرّفت كلتا المرأتين بقوّة وحكمة، فلم يستضعف الأولى حبُّها لأبنائها والذي عادة ما يستخدمه الرجال لابتزاز المرأة عاطفياً، ولم تُخدع الثانية لمجرّد رغبتها في الزواج ولو على حطام أسرة أخرى.