من مبادئ سياسة الدول الغربيّة القوة المطلقة، كانت كلّ دولة من دول أوربا القديمة تسعى لأنَّ تكون هي القوة المطلقة ألمانيا فرنسا بريطانيا أسبانيا روسيا إيطاليا النمسا البرتغال أمريكا؛ لذا نشبت بينها حروب عسكريّة واقتصاديّة استمرت قرون، وما الحربين العالميتين الأولى والثانيّة إلا نتيجة لارتفاع حدة النزاع بين هذه الدول. بعد الحرب العالميّة الثانيّة ضعفت دول أوربيّة واستقوت أخرى فظهرت الأحلاف، حلف شمال الأطلسي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكيّة وضمَّ دول أوربا الغربيّة، وكوّن الاتحاد السوفيتي من نفسه والدول التي احتلها أثناء الحرب حلفًا آخر عرف بحلف وارسو، وكلا الحلفين حاول أن يكون القوة المطلقة، فبدأت نذر الحرب الباردة بينهما واستمرت إلى انهيار الاتحاد السوفيتي، وبدأ سباق التسلح إلى درجة الانتحار فلمّا عجز الاتحاد السوفيتي عن اللحاق بالولايات المتحدة الأمريكيّة وحلفائها انهار، وقامت روسيا على أنقاضه، وهاهي بعد أن تعافت تريد أن تعود لسابق عهدها قوة عسكريّة يحسب لها حساب في الصراعات الدوليّة على الأقل.
أخذ حلف الأطلسي يتمدد ليجمع إرث الاتحاد السوفيتي السابق فاحتضن دول أوربا الشرقيّة ودول البلطيق، فأصبح بضمه تلك الدول حلفان، دول الحلف الأولي، إذ السيطرة والفيتو والنفوذ السياسي والاقتصادي لها لا لسواها، والدول الملتحقة بالحلف التي تدور في الفلك. كان هدف دول الحلف الأولى المحافظة على الدول الملتحقة كي لا تفلت من القبضة فتنظم لتحالفات مستقبليّة هنا أو هنا ، وقبلت الدول الملتحقة أن تدخل طمعًا في مكاسب ماديّة أو تخلصًا من ضغوط روسيّة لتعيدها لمحورها ونفوذها، أو ورغبة في أن تنفتح على ديمقراطيّة العالم الغربي التي أغرتها وظنتها الملاذ الآمن من النظام الاشتراكي الذي أذاب منها الشحم واللحم وأخمد فيها جذوة الفكر والحريّة، ويا حسرتها بعد أن ذهبت السكرة وجاءت الفكرة إذ وجدت نفسها سوقًا لسياحة الغرب الفاجرة، وجدت أنَّ مستعبدها الجديد يتكلم لغة أخري هي بالتأكيد ليست اللغة الروسيّة، ولكنَّ الحال واحد،خرجت من الصياد فوقعت في فمّ الأسد، وتعددت الأسباب والموت واحد.
هذه سياسة الغرب سابقًا ولا حقًا ” أكون ولا يكون غيري” فإن تساوى طرفان أو أطراف في القوى تنازعوا كما تتنازع الذئاب الضارية على الفريسة ما دامت هناك فريسة فإن لم تكن هناك فريسة أكل المتنازعون بعضهم. ولكي يحسموا النزاع دون الحرب أوجدوا مجلس الأمن، فمجلس الأمن ما هو إلا نادٍ لفك النزاع بين الدول الخمس الدائمة العضويّة أوّلاً ولإضفاء الشرعيّة والقانونيّة على تحركاتهم وسياساتهم ثانيًا، وليسوقوا الدول الأخرى باسم القانون والشرعية الدوليّة بدل أن يسوقوهم بالعصا أمام الملأ ثالثًا.
كل دولة من الدول الخمس تدافع عن مصالحها فإذا لم تستطع أن تمنع قرارًا قاتلت بالفيتو، ولكنَّ الفيتو يستخدمه القوي، أمّا الضعيف المحتاج فيسكّـت ببعض الفتات، فالولايات المتحدة هي المتحكمة في مجلس الأمن وتكاد أن تكون المستخدم الوحيد “لهذا الحقّ” لأنَّها الأقوى، ما تريده يكون وما لا تريده لا يكون، ففي غزو العراق لم تستطع الدول المعارضة للغزو أن تتبنى قرارًا يمنع أمريكا من غزو العراق، ولم تستطع أمريكا أن تستصدر قرارًا يجيز لها ولبريطانيا غزو العراق فذهبتا للحرب لوحديهما بدون قرار، وتقبلت الدول الأخرى ذلك.
أمّا الدول غير الدائمة في مجلس الأمن فهي كما يقال “لتغليظ المرقة” لا تحل ولا تربط، والجمعيّة العموميّة للتنفيس ليس إلا، قل ما شئت ونحن نفعل ما نريد، هذه الحقيقة يجب أن نعيها جيدًا فمن كان ينتظر أن مجلس الأمن يعطيه حقًا أو ينتصر له من ظالم فهو واهم وفلسطين خير شاهد، استخدمت أمريكا الفيتو ظالمة ضد القضيّة الفلسطينيّة ولمصلحة إسرائيل 43 مرة.
لمّا علمت دول أوربا الغربيّة أنَّها مأكولة في مجلس الأمن وفق معطيات الحرب العالميّة الثانيّة اهتدت لتأسيس اتحاد مشترك بينها ” الاتحاد الأوربي” ليؤسس ويشرف على سياسة اقتصاديّة وعلميّة وثقافيّة واجتماعيّة تحمي اقتصاد وثقافة وأعراف وتقاليد هذه الدول من الاقتصاد الأمريكي العملاق والثقافة الأمريكيّة والأخلاق الأمريكيّة ويمكّنها من تحقيق نهضة علميّة تحميها من الهيمنة الأمريكيّة، لأنَّها تعلم علم اليقين أن حلف الأطلسي لا يحميها من أمريكا والدليل أنَّ كل دولة أوربيّة تسلح نفسها بأقصى ما تستطيع، والرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديجول عمل أن تكون لفرنسا قوة نووية خاصّة لأنَّه تعلّم درسًا بليغًا من حرب السويس” العدوان الثلاثي” سنة 1956 مفاده أنَّ القوة النووية الأمريكيّة في حال النزاع هي لأمريكا لا لفرنسا أو غيرها، فلا ضمان أن تستخدمها أمريكا ضدّها يومًا أو تهددها أو تبتزها بها. في حرب السويس أرغمت أمريكا بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على وقف الحرب والانسحاب من سيناء دون أن تحقق أي مكسب سياسي أو اقتصادي “فخرجت هذه الدول بخفي حنين” رغم أن الدولتين فرنسا وبريطانيا في حلف الأطلسي.
ثمَّ طورت الدول الأوربيّة تجربتها فكان لها برلمان مشترك وعملة مشتركة وسياسة أوربيّة مشتركة يتزعمها منسق أوربي يجول العالم ليحمي مصالح أوربا من أمريكا وليمكنها من القصعة ـ العالم العربي والإسلامي خاصّة ـ. السياسة الأوربيّة تتحرك في خط موازٍ للسياسة الأمريكيّة لضمان المصالح الأوربيّة الاقتصادية، يقدم الاتحاد الأوربي مساعدات اقتصاديّة كما تقدم أمريكا ليفتح القلوب والعقول لنفوذه في هذه الدول، ففرنسا وإيطاليا وأسبانيا عندما تشارك في قوات اليونفل في لبنان ليس لسواد عيون اللبنانيين ولا حتّى لسواد عيون الصهاينة وإنّما لسواد عيونهم هم “فالذئب لا يهرول عبثًا”.
فالغرب إذن يؤمن من رأسه إلى أخمص قدميه بالقوة المطلقة، فإذا حازتها دولة استعبدت الآخرين حتّى ولو كانوا أوربيين فضلاً عن غيرهم، أمّا الآخرون فيتعاونون ويتفاوضون ليضمن كلّ طرف نصيبه من الكعكة أو القصعة، وإلا فالحرب ولا غير الحرب.
فمجلس الأمن يا عرب ويا مسلمين ليس لضمان مصالحكم واسترداد حقوقكم والدليل أن فيه قسمت الأوطان، وفيه شرع لقيام الكيان العنصري الصهيوني في فلسطين، مجلس الأمن لاقتسام النفوذ والغنيمة، فضعفكم لن يحميكم وإنما يجعلكم غنيمة سهلة ولقمة سائغة لهؤلاء الأقوياء، هذا الكلام مهم ويجب أن نفهمه ونعرفه وإلا فإن الفشل سيلازم العالمين العربي والإسلامي في الحاضر والمستقبل كما لازمهما في الماضي. فلا مناص من التعاون المشترك الفعال علميًا وسياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا ودينيًا وقوميًا، لا بدَّ أن نكون قوة فعالة في هذه الحياة أمّا أن يظل هذا العالم العربي والإسلامي المترامي الأطراف جملا يقاد ويركب ويضرب وينحر ولا حول له ولا قوة فهذا حال لا يليق بأمّة رضعت قيم الشهامة والشجاعة والعزّة والكرامة والإباء والشرف والحرية وسائر مكارم الأخلاق قبل مئات القرون.
الغرب يريدنا بقرة حلوب يأخذ غازنا ونفطنا ومواردنا بكل سبيل، يريدنا ظهرًا يركبه في مؤامراته على بعضنا جيَّشنا على إيران فحاربناها ثمان سنين حتَّى أنهكناها وأنهكنا أنفسنا وها نحن نعيش معها اليوم في سلام. ألم تكن تلك الحرب إذن عبثًا حاربناها لمصلحة آخرين؟ وجيَّشنا على العراق ليحتله ويستعبد أهله وعندما احتله سكتنا لا نحرك ساكنًا لإطفاء هذا الحريق الهائل الذي يحرق بلاد الرافدين، وها هو اليوم يجيّشنا مجددًا على نووي إيران لنعاديها ونحاربها إمّا نيابة عنه أو بالاشتراك معه، بحجة أن إيران دولة نوويّة، فبالله عليكم من نصدق؟ مسئولي إيران المسلمين الذين يؤكدون ويقسمون بالأيمان الغليظة سلمية مشروعهم؟ أم بريطانيا التي كذبت على العرب قديمًا لتضعهم في وجه الدولة العثمانيّة بحجة تحريرهم وإقامة الدولة العربيّة الكبرى فلمّا صدقوها ودخلوا في حلف معها وإذا بهم إما دول مستعمرة أو محميّة أو تحت الانتداب، ولم يفيقوا من أحلامهم الورديّة إلا وفي فلسطين الحبيبة دولة صهيونيّة أريد لها أن تكون عدوة لدول المنطقة تسلب أمنها وتعطل نموها وسيفًا مشهورًا في وجهها مسلطًا عليها. وقد نجحت السياسة الغربيّة بامتياز فها نحن نتقاتل مع هذه الدولة المصطنعة أو مع بعضنا ستين سنة، نتخلف وهم يتقدمون، نتقاتل وهم آمنون، ثمَّ نذهب إليهم ليحلوا مشاكلنا معها ومع بعضنا فنعود بتبعية أكبر لنفوذهم، وخسارة أعظم لكرامتنا وعزتنا. هل نصدق بريطانيا التي لم تدخل منطقة إلا وورّثت أهلها معضلة لا تكاد تحل، وهذه فلسطين الشاهد الأكبر شعب شرد ليسكن الخيام يقتل كل صباح ومساء لستين سنة، وإذا ما طالب بحقوقه المشروعة اتهم بالإرهاب وإسرائيل هي دولة السلام الديمقراطية. وكشمير مثلاً ثانيًا سعَّرت بسببها أربع حروب بين الهند والباكستان استنزفت خيرات البلدين وها هما يعدان العدة لحرب نووية فإن وقعت لا سمح الله فلن تبقي ولن تذر، وإذا أردت المزيد فارمِ ببصرك مشرقًا ومغربًا في المناطق التي خضعت لنفوذ بريطانيا فستجد بالتأكيد في كل نزاع دسيسة إنجليزيّة، وصدق المرحوم الدكتور أحمد زكي عندما سمى بريطانيا “عقادة العقد، والدولة التي تولت عمل الشيطان فأراحته من العمل”؛ هل نصدق أمريكا التي استخدمت السلاح النووي وتمتلك من القنابل النووية ما يكفي لتدمير العالم مرات والتي نرى ونلمس إجرامها في كل مكان في هذا العالم الفسيح من إبادة الهنود الحمر في أمريكا، إلى جلب الرقيق من أفريقيا إلى استعباد السود، إلى حرب فيتنام وفلسطين وأمريكا اللاتينيّة وأفريقيا إلى حرب لبنان التي لا زالت أنقاض القصف الصهيوني بالقنابل الذكية الأمريكية ماثلاً للعيان. أنكذب إيران ونصدق من اكتوينا ونكتوي بنارهم.
هل وعينا دروس الماضي لنفهم الحاضر أم سنبقى حطبًا في يد الآخرين يوقدونه متى شاءوا وأنّى شاءوا، أو جملاً يركبونه في الفتن متى شاءوا وإلى حيث شاءوا، أو بقرة حلوب يحلبونها متى شاءوا ويذبحونها إذا شاءوا.