لكي لا نكون أمّة بلا تاريخ

إنّ أمة بلا تاريخ أمة بلا جذور .. والذين لا يعرفون تاريخهم ولا يستطيعون تذكّره محكوم عليهم بالعبودية والقهر لأنهم انفصلوا عنه فصار من السهولة بمكان خداعهم فيظن الجاهل بتاريخه أنّه وارث الجهل والتخلّف بينما كان آباؤه المعلّمين الأوائل، ويُتّهم بالظلم في حين أنه هو المظلوم، لذا فثمّة فوائد تُرتجى من إحياء ذكرى بعض الحوادث التاريخية المفصلية في حياة الأمة بشرط أن لا يكون ذلك محض اجترار للماضي لندب الحظ أو للتغنّي بأمجاد ولّت، بل لكي لا نُجتث من جذورنا، أو تُسلب منّا ذاكرتنا فنصبح أمة بلا ذاكرة، ولكي لا يُخطف منّا تاريخنا، كما خُطفت جواهر ديننا.

وكما أنه يمكن من خلال علم الحفريّات والآثار (أركيولوجي) الذي يُطلق عليه اسم “السجلاّت الصامتة” دراسة مسيرة الإنسان الحضارية بدراسة وتحليل وتفسير البقايا المستخرجة من المواقع الأثرية، فكذا يمكن لدراسة تاريخ كلّ أمة أن يكون سبيلاً للتعرّف على مكامن عزّتها ومزالق انحدارها، مع فارق رئيسي وهو سهولة التزوير في التاريخ المكتوب، وصعوبته (وليس استحالته) في علم الآثار، ورغم ذلك لم تسلم أيّاً من العلوم من أيدٍ عابثة تريد أن تغيّر مجرى التاريخ واللعب بمقدّرات الشعوب لأجل مصالحها.

من الأخطاء الجسيمة التي ارتُكبت بحقّ الأمم وتاريخها أنه (التاريخ) أُرّخ بحركة الساسة، وكُتب بيد المنتصر (سواء كان المحتل أو الحكومات المستبدّة) ثم فُرض على الواقع، فأصبح التاريخ المكتوب الذي بين أيدينا تاريخ الساسة والعساكر بالقوة والسطوة، لا التاريخ الحقيقي الذي يعبّر بصدق وأمانة عن مسيرة الأمة، لذا أصبح أبناء الأمة لا يعترفون به كثيراً لأنهم لا يرون أنه يعبّر عنهم، أو يمتّ إليهم بصلة، فبعضهم تبرّأ منه وأكثرهم لا يريدون أن يتذكروه، وهذه الحالة انتقلت من الآباء إلى الأبناء حتى نشأ جيل يجهل تاريخه الحقيقي إلاّ اللّمم منه، وجيل آخر لا يشرّفه أن يعرف تاريخه لأنه يظن أنه تاريخ تخلّف وبداوة وجهل فالتنكّر له أولى وأشرف!!

الثاني من نوفمبر (كان) من الأيام التاريخية التي لا يُمكن أن ننسى إحياء ذكره في المدرسة إمّا بدعوة من معلّمينا الذين لم يكن همّهم الوحيد شرح “المقرّر” بل كانت قضايا الأمّة وعلى رأسها قضيتنا “الأم” (قضية فلسطين المحتلّة) جزء لا يتجزّأ من حياتنا المدرسية، فمادة التاريخ تحدّثنا عن الوطن الأكبر والمصير المشترك وتعرّفنا باستبداد الاستعمار ومحاولاته لتفتيت الأمة، وجرائم اليهود في حقّ أبناء الشعب الفلسطيني فنعيش معهم في همّ واحد، والجغرافيا تعرّفنا بلاشرعية الاحتلال وبسبل التعاون الاقتصادي والتجاري لتزيد اللحمة بين أجزاء الوطن الأكبر، وفي حصة الإنشاء نطالَب بالبحث عن تفاصيل هذا الوعد المشئوم لبلفور وآثاره .. فإذا نسى معلّمونا الذكرى فنحن لا ننسى، كنا نساهم بمبادرات منّا بكتابة خاطرة لمجلة الحائط، أو قراءة قصيدة في الطابور الصباحي تحية لإخواننا الفلسطينين، أو تقديم أنشودة تمتدح عزّتهم وإبائهم، وكنّا نخاطبهم وكأنهم بيننا، (كان) هذا بالأمس وقبل عقدين أو ثلاثة عقود من اليوم.

فماذا عن ذكرى الثاني من نوفمبر (اليوم) وبعد مرور تسعين عاماً على هذا الوعد الظالم، هل يعرفه أبناؤنا؟ وهل يذكره معلّمونا؟ وهل مسموح لهم بذكره في مدارسنا الحكومية والخاصة (؟!) أم أن ذلك يتنافى مع معاهدات الصلح ودعوات السلام وانبطاحات الاستسلام؟ أو لعلّ ذاكريه يخافون أن يصنّفوا ضمن المحرّضين على الإرهاب والمعادين للسامية (!)

والأحرى أن نسأل (اليوم) كم قضية علينا أن نتذكّر ونذكّر أبناءنا بها، وأيها ذات أولوية أعلى؟ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وجرائمه من قتل وتشريد وتجويع لشعبه البريء، أم معاهدات السلام والاستسلام؟ أنحدّثهم عن الاحتلال الأمريكي للعراق وما صاحبه من إفساد في الأرض والعبث بتراثه وتفتيته وتقسيمه؟ أم عن احتلاله لأفغانستان وتهديده بضرب دولنا؟ أم عن محاولاته التأليب بين أبناء الطوائف المختلفة للنيل من وحدتهم الوطنية؟ عن النكسة وحرب الأيام الستّة؟ أو نحدّثهم عن الانتصار وقهر الجيش الذي لا يُهزم؟ عن قضية لبنان، أو السودان، أو الصومال، أو أفغانستان، أو تركيا، أو إيران، أو مصر، أو الجزائر أو المغرب، ففي كلّ بلد إسلامي وعربي توالدت عشرات القضايا الخلافية، وتكاثرت كالفطر فلم نعد نحمل همّاً واحداً فقط (تحرير الأرض المحتلة)، وتشعّبنا بعدد خلافاتنا، وأصبحنا بين باك يبكي على دنياه، وباك يبكي على دينه!!

فلو شئنا أن نختار من بين القضايا التي نريد أن نُحيي ذكرها لكان المعيار الوحيد هو مدى مساهمة هذه القضية في توحيد كلمتنا ضدّ عدوّنا الحقيقي “المحتلّ لأراضينا، والغاصب لثرواتنا، والمنتهك لحرماتنا، والموقظ للفتنة بين أبنائنا” فنوجه جهودنا للتركيز على القضايا التي تجمعنا ونؤجل القضايا التي تفرّقنا، ولو قُيّض لنا أن نمحو من ذاكرة الأمة الاقتتال العربي العربي، والفلسطيني الفلسطيني، والشيعي السني، والإيراني العربي، لفعلنا ذلك، وبما أن ذلك غير متاح ولكننا نعلم أن الصحافي هو مؤرخ اللحظة ما أظهر الحقيقة للناس، وأن له نصيباً من النبوة، فلننعش ذاكرة أمّتنا بما يوحّدها على همّ مشترك ويجلو عزّتها ونبعدها عن كل ما يفرّق بين أبنائها ويُخوّر عزائمهم.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة