عجبًا أمّة تملك كلَّ أسباب القوة: الإنسان، العقيدة، الكثافة السكانيّة، ارتفاع نسبة الخصوبة، الثروات الطبيعيّة، الموقع الاستراتجي، المناخ المتنوع العجيب، المساحة الواسعة، ولكنّها مهمشة في العالم تمامًا، لا تشير ولا تستشار، مستهلكة فقط، تستهلك ما يزرعه الآخرون وأنهار الدنيا العظمى تجري في ربوعها، تستورد صناعة الآخرين من الإبرة إلى الطائرة والسلاح، والنفط والغاز وكل صنوف المعادن مدفونة في أراضيها، يستخرجها الغرب فيتحكم في أسعارها وعوائدها، يتاجر فيها، ويكتفي بإعطاء الحكومات أرقامًا حسابيّة في البنوك. إذا تاجرتْ كانت تجارتها في ترويج بضاعة الآخرين، إذا ربحتْ أودعت أرباحها عند المستكبرين لتكون سلاحًا في أيديهم عليها يشهرونه متى شاءوا، فمتى تعرض اقتصاد الغرب لهزة كان سداد فاتورة تلك الهزة من أموالها، يكفي أن يفتعل لعبة في البورصة، أو في سعر صرف الدولار ليعوض كلّ ما خسر دون ضربة سيف أو طعنة رمح، فدولة خليجيّة خسرت في البورصة الأمريكيّة مؤخرًا 400 مليار دولار في أسبوع واحد؛ لأنَّ أمريكا أرادت أن تعوض خسارتها في العراق. وكما يقول المثل الشعبي: ” مال البخيل يأكله العيّار”. هل سمعت بأمة تضع ضرعها في يد عدوها يحلب منه ما شاء وتنام آمنة مستقرة كأن لم يكن هناك شيء، وإذا أراد أبناؤها استثمار أموالهم ففي الفنادق والملاهي والمراقص وجزر اللهو والطرب، هل سمعت دولة عربيّة أو مستثمرًا عربيًا اشترى مصنعًا أو استأجر أرضًا في إحدى الدول ليزرعها ويستثمرها في الزراعة والإنتاج الحيواني كما تفعل ألمانيا وغيرها من الدول الأوربيّة؟ تستأجر مساحات واسعة في أمريكا اللاتينيّة وتزرعها وتصدر إنتاجها إلى العالم، بهذا اكتفت أوربا غذائيًا مع كثافة سكانها ومحدودية مساحة أراضيها. ألا كان بإمكان هذه الدول أن تستثمر في أفريقيا القريبة منها أو في الدول العربيّة التي هي منها.
إسرائيل تدمر غزّة وتعتقل نصف حكومتها المنتخبة وعددًا من نوابها ولا حركة ولا شجب ولا استنكار، بل كانت الألسن سليطة على حزب الله تحمله مسئوليّة الهجوم الصهيوني على لبنان وتتهمه بالمغامرة لأنّه هبَّ لنجدة الفلسطينيين المظلومين، وليطالب بإطلاق أسراء لبنانيين بقوا في سجون الاحتلال ثلاثة عقود دون أن تتحرك نخوة حكومات لبنان والحكومات العربية لتسأل عنهم.
تصور حكومة تحذف ذكرى انتصار مقاومة شعبها لعدوها الذي استباح أرضها وأهلك حرثها ونسلها تحذفه من ديوانها ولا تعتبره مناسبة وطنيّة، تصور تتعرض هذه البلاد لعدوان غاشم مدمر لا يبقي حجرًا ولا شجرًا ولا بشرًا ولا تشير إلى المقاومة التي تتصدى لدحر هذا العدوان في بياناتها الحكوميّة، بل تتهدد المقاومة بالمحاسبة بعد أن تضع الحرب أوزارها، فهل ترى منحدرًا أخلاقيًا أعظم من هذا المنحدر.
إسرائيل فلتطالبْ بما تريد ولتعطَ ما تريد فلتقدم لها المبادرات العربيّة للاعتراف والتطبيع، أمّا شعار حكومات هذه الأمّة ” انجُ سعد فقد هلك سُعَيْد”. هذا خلق الضعفاء يجلدون أنفسهم بدل أن يقارعوا عدوهم. في الوقت الذي اجتمعت القمّة العربيّة في بيروت كانت إسرائيل تدمر السلطة الفلسطينيّة، وتحاصر رئيسها ياسر عرفات وتمنعه من حضور القمة، وتجتاح مخيم جنين وتدمره تدميرًا كاملاً وتحاصر كنيسة القيامة وتهجر من أوى إليها إلى خارج فلسطين وحكام هذه الأمّة يقدمون مبادرات الصلح لها، فهل سمعت بأتفه من هذا، هل هذه أمّة تحترم نفسها لتأمل أن يحترمها الآخر فيسمع لها أو يلبي لها نداء.
يجتمع مجلس الأمن ويتخذ ما شاء من قرارات دون استشارتها ثمَّ يلزمها بتنفيذها، وتستجيب صاغرة ذليلة وهي تقول “ما باليد حيلة” و”ابعد عن الشر وغني له”، هذا ما حدث في اغتصاب فلسطين، وغزو العراق، وتدمير لبنان، هل هذه دول مستقلة؟
عجبًا والله! ماذا تملك من استقلال والسفارات الأجنبيّة تتحكم في البلاد والعباد. والأموال وديعة في أمريكا وأوربا، وعملاتها مربوطة بالدولار الأمريكي، لا تستطيع أن تحول مالاً لجهة لا ترضى عنها أمريكا، ممنوع عليها منعًا باتًا أن تحوَّل دولارًا إلى حكومة حماس وتستجيب، يأتي الغرب ليصوغ مناهجها التعليميّة وتستجيب وهي تتجرع مرارة صياغته السابقة تخلفًا على كل صعيد في الصناعة والزراعة والاقتصاد والتجارة والحياة الاجتماعية والتربويّة والسياسيّة، تصور حكومات تسمح لعدوها أن يصوغ عقل أبنائها من الروضة حتى الجامعة، وتترك لوسائل الإعلام الناقلة لإعلام الغرب إكمال المهمة في البيت والشارع كم بلغ عجزها. دول بلغ بها العجز أن لا تستطيع إيجاد وكالة أنباء تخدم مصالحها وتقدم المعلومات الصحيحة لشعوبها، كم بلغ هوانها! نعم توجد عناوين وكالات ولكن كما قال المثل ما أكثر أسماءه وأقلَّ ثمنه”. بعد هذا فهل تختلف معي أننا مهمشون بالتمام والكمال، إذ ” لا قول لنا فيسمع ولا رأي لنا فيؤخذ”.
ولكي لا تستمر المأساة أكثر نسأل لماذا نحن مهمشون؟
نحن مهمشون لأننا ضعفاء سياسيًا واقتصاديًا وحضاريًا، فكيف بربك تنهض أمّة وليس بين الشعب والحكومة دستور عقدي يحكم علاقة الحاكم بالمحكوم؟!
كيف بربك يقام العدل وليس بين الأمة والشعب نظام قضائي مستقل يأخذ حقّ المظلوم من الظالم، ويوقف الظالم والمتجاوز عند حدّه؟!
كيف بربك تتقدم أمّة ولا أحد يقول للحاكم الذي شاخ وهرم وخرّف اترك مكانك أما آن لك أن تستريح كي لا تقتل أمّة بسبب طمعك؟!
كيف بربك تنهض أمّة وحاكمها يعتقد أنَّ عدوه الأوّل والأوحد هو شعبه، جيوشه شرطته أمنه لقهر شعبه لا لقهر الأجنبي وقطع يد شعبه لا لقطع يد المستعمرين الطامعين؟!
كيف بربك تنهض أمّة وحكامها يضعون الخطط لإلهاء الشعب وتخديره وتنويمه وتحطيم قيمه ومثله وإرادته ليحلو لهم الجو ويصفو؟!
كيف بربك تنهض أمّة والاختلاف زادها والفرقة شعارها؟!
كيف بربك تنهض أمّة بلا خطط اقتصاديّة ولا اجتماعيّة ولا سياسيّة ولا تربويّة ولا مستقبليّة؟!
كيف بربك تنهض أمّة وصحافتها وإعلامها هو داؤها قبل أن يكون دواؤها.
لهذا كنّا مهمشين وسنبقى مهمشين قرونًا وقرونًا ما لم نكن أقوياء سياسيًا وحضاريًا واقتصاديًا واجتماعيًا وتربويًا وثقافيًا، فمن نام لم ينم عنه، وقديمًا قال الشاعر:
قالت الضفـدع قـولاً فسرته الحكمـاءُ
في فمي ماء وهل ينطـــق من في فيه ماءُ
إنَّ مـن كان ضعيفًـا أكلتـه الأقويـاءُ