اختطفوا جغرافيا الأنبياء (ع) وتاريخهم، وجاء دور اختطاف الإسلام وتشويهه وتمييعه، لاستصدار نسخ متطوّرة وملوّنة منه لكي تروق للجميع: الليبرالي، اليساري، اليميني .. الآسيوي والإفريقي، العربي والأعجمي، الأبيض والأسود، الشاب والشيخ .. إسلام أمريكي – إن شئت – أو أوروبي .. شرقي أو غربي، سمّه ما شئت، منفتح، وسطي، متنوّر .. فلا بأس، فمنتجو النسخ المتمدّنة من الإسلام لا مانع لديهم من منحك شرف اختيار الاسم المناسب لك، المهم أن يكون إسلاما بلا قيم، ولا ضوابط .. إسلاما بلا هويّة مميّزة لكي تتوه ولا تستطيع التمييز بين الحقيقي منه والزائف .. إسلام قشر وكفى.
لم أكن لأعلم عن هذه النسخ (المزركشة) من الإسلام لولا حضوري دورة تدريبية في ماليزيا عن “فهم الإسلام من منظور حقوقي”، متعشّمة بذلك ربط ثقافة (المركز) بالشرق والغرب، ومزج المادّي بالمعنوي في تركيبة حكيمة لأبصر بأم عيني عالمية الإسلام التي أؤمن بها يقيناً، وأراها عصية التحقيق واقعاً، فانكشف لي نقيض ذلك تماماً، فالنُسخ المعدّلة من الإسلام والمروّجة في أسواق الشرق والغرب – في غفلة منّا – ما هي إلا نسخة مشوّهة من الإسلام المحمّدي الذي أخذ بيد مجتمع الجزيرة العربية من حضيض التعصّب القبلي إلى قمة التمدّن الأخلاقي، ليُصَيَّر ثوباً يُلبّس كل المقاسات، ويرضي كل الأهواء، ويشبع كل الرغبات!!
في هذا الإسلام الفضفاض، لا حرام إلاّ ما حرّم القرآن– حسب تعريف أحد المحاضرين في الدورة – وما لم يتم تحريمه بنص قرآني صريح فليس بحرام، وما لم يتم التوجيه إليه بآية واضحة فلا دليل على وجوبه، وبما أن روح القرآن تُقرّ بعدالة الله وتنكر وقوع الظلم منه فكل آية تبدو أنها تطعن في هذه العدالة فلا يؤخذ بها، فضرب المجتمع للمرأة (الخائنة) على سبيل المثال ينافي العدالة، وتعدّد الزوجات كدواء وحلّ لمشكلة الأيتام، واستحواذ الزوج على عصمة الطلاق، بل حتى كلمة الطلاق التي تُستخدم للتعبير عن إطلاق سراح الحيوانات – بحسب إحدى المحاضرات – فيها إهانة للمرأة وضد العدل الإلهي، ولماذا تُقدَّم الزانية على الزاني، ولماذا يكون عقاب “اللاتي يأتين الفاحشة من النساء” أشدّ وأقسى من عقاب “اللذان يأتيانها من الرجال”، ولماذا يوجد في القرآن “أزواج مطهّرة” ولا يوجد “زوجات مطهّرات”، ووضع الخمار اختُرع لتنميط المرأة.. ولماذا يؤمّ الرجل الصلاة الجامعة دون المرأة؟ هذا وغيره تمييز ضد المرأة في القرآن وظلم لا يرضاه الله، ولا يمكن أن يناقض الله نفسه، هذا ما يُشيعون، فمن يفكّ هذه العقد؟
هم .. منظّرو إسلام القرن الواحد والعشرين، ومفسِّرات القرآن من منظور (نسوي) (إسلامي)، فأساس المشكلة – برأيهم – تكمن في طبيعة اللغة العربية التي تميّز بظلم بين المذكّر والمؤنّت، وبما أنها صنيعة مجتمع الجزيرة العربية المعروف بذكوريّته، فالعرب إذاً هم من جعل الخطاب القرآني ذكورياً، وهم من جعل لفظ الجلالة مذكّراً، ولولا هذه اللغة (المشكلة) لما وجدنا ظلماً واقعاً على المرأة في القرآن- بحسب ادّعائهم – وعليه فلابد من فكّ ارتباط بين اللغة العربية والقرآن، وبما أن العرب يشكّلون نسبة ضئيلة جداً من المسلمين (خمسة عشر في المائة فقط) فلابد كذلك من فكّ ارتباط بين العروبة والإسلام، وكما أن المفسّرين الذكور احتكروا تفسير القرآن وترجمته على مدى القرون الماضية، فلابد أن تُعطى (المفسّرات) المعاصرات الفرصة لتفسير القرآن من منظورهن النسوي، ليصبح القرآن ساحة معركة بين المفسّرين والمفسَّرات، كلّ يجرّ النار إلى قرصه، والقرآن صامت لا يتكلّم.
عبَثٌ بالقرآن، وعملية تشكيك ضخمة في قدسيته تبدأ بأمثال الأسئلة المطروحة آنفاً والتي يدلّ بعضها على سذاجة في فهم اللغة العربية، وجهل ببلاغتها وبأسرارها، والبعض الآخر يدل على عدم وجود منهجية واضحة لقراءة وفهم آيات القرآن الكريم، وأكثرها محكوم بنظرة مأزومة ضيقة جاءت كردّ فعل على واقع ديني متخلّف هو الآخر، نظرة تريد أن تحمّل القرآن الكريم مشاكلها ثم تسخّره لحلّ تلك المشاكل في آن واحد، فيختلط الحابل بالنابل، ويصبح القرآن كأي كتاب بشري آخر، قابل للحذف والإضافة، لتنتهي هذه المحاولات بدعوة جريئة (لإعادة كتابة القرآن) المنصف للمرأة، والخالي من أية آية تدين أي فئة مهما قبح فعلها أو عظم جرمها، والمحذوفة منه آيات القتال والجهاد، وهكذا حتى يُطوّع كتاب الله بحسب تغيّر المفاهيم لدى البشر، فيتلوّن هو بلونهم لا أن يُذعنوا هم لتعاليمه.
لم أكن لأتّفق مع مقولة “إنّ المتخصّص هو الشخص الذي يجعل موضوعاً مفهوماً وواضحاً بالنسبة لك يبدو مشوَّشاً ومحيِّراً” لولا أن عشت هذا الشعور مع تلك الثلّة من المتخصّصين الذين بدا وكأنهم جاءوا ليفهّموا الإسلام من منظور حقوقي ليفصحوا في نهاية المطاف عن نواياهم “إننا لسنا هنا لنجيب عن أسئلتكم إنما هدفنا أن نزرع شكّاً”، فالهدف إذا هو تفكيك الثوابت وهدم القواعد لخلق فوضى فكرية تدَع الحليم حيراناً .. وعلى كل حال فإن توجيه إصبع اتّهام واحد لغاصبي الإسلام لغاية يعني توجيه ثلاثة أصابع اتّهام لناصبي راية الدين بغواية.