كان في أول أمره يعبد الأصنام ، ويختص منها بصنم يدعى مناة، صنم القبيلة ، قدّم لصنمه هذا في بعض الأيام لبناً، ومضى بعيداً عنه، وبينما هو يفكرَ في عمله هذا ، وإذا بثعلب يهجم على وعاء اللبن فيأكل ما فيه ، ولا يكتفي بذلك حتى يبول على الصنم ، فأثّر هذا الحادث عليه وحرّك مشاعره ، ودعاه إلى التفكير والتأمل في أمره، كان هذا الموقف رسالة فهم الصحابي الجليل أبو ذر مضمونها دفعتْه إلى ترك عبادة الأوثان والتوجه إلى عبادة الله تعالى .
هناك الكثير من الشفرات المطوية في بطون الكتب وأحداث الحياة ومسيرة الطبيعة، ولكن هل من قارئ لهذه الرسائل وفاكّ لهذه الشفرات ؟.
إن الفطن من يرصد هذه الرسائل قبل وقوعها ويستعدّ لاستقبالها كما يستعد لموسم ما، يتخذ فيه ما ينبغي ليقي نفسه من عثراته، أما الإنسان العادي فلا يستطيع أن يقرأ الرسالة المطوية، بل قد يسْخر من هذه الظاهرة أو ذاك الموقف كما يحكى القرآن الكريم ” وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً ” أما الفئة الأخرى الفطنة فتعلم أنها رسالة موجهّة إليها فيها الحقيقة والبيان “فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ”.
إن الظواهر الطبيعية من كسوف وخسوف وزلازل وغيرها واحدة من الرسائل التي تحدث في حياة الإنسان، ولكن كيف يستقبلها الإنسان،وهل يستعد لها كما يستعد لها الفلكي من الرصد والتوقيت وطرح الأسئلة المنطقية قبل حدوثها لتأتي هذه الظاهرة واضحة وجلية ، فلا نستغرق وقتا في قرائتها حتى تفوت علينا هذه الفرصة وتضيع، فلا نحن أدركنا قيمة هذه الفرصة، ولا وعينا الرسالة التي يجب أن نستوعبها.
يقول أحد الحكماء:” إنك إذا شاهدت حوادث طارئة كالطوفان والسيل والزلازل وما إلى ذلك من الظواهر الطبيعية في العالم، فاعرف أنها ليست دليلا على أن العالم فقد نظامه، لأن هذه الحوادث تتبع قواعد ثابتة، ولا تقع حادثة صغيرة أو كبيرة إلا وهي في حساب عند الله.”
يقال أن زرقاء اليمامة في الجاهلية اشتهرت بحدّة بصرها, و إنها كانت تستطيع الرؤية بوضوح على بعد مسيرة ثلاثة أيام. وذات مرة رأت علائم غزو متجهة نحو قبيلتها، فلما حذرّتهم سخروا منها ولم يصدقوها – فلم يكونوا على علم أو يقين بمقدرتها، ثم وقعت الواقعة وجاءهم الغزو الذي حذرّتهم منه. أليست زرقاء اليمامة كانت مبعوثا يحمل رسالة لقبيلتها، ولكن عدم وعي القبيلة بهذه الرسالة أو السخرية منها أدى إلى حدوث الغزو.
يقول الشاعر :
اقرأ كتاب الله جل جلاله وانخر عبابه فالمقاصد حاسرة
يا أيها الإنسان مهلا إنما ساعات عمرك عن مرادك قاصرة
قاوم جنوح النائبات وعصفها واسلك سبيلك في الظروف القاهرة
وهذه أهم الرسائل التي يجب أن يعيها الفرد إن ساعات عمره قصيرة وقاصرة عن ما يريد ويطلب، وحتى يجعلها أكثر طولا وإنتاجية فليقاوم ما يعيقه عن تحقيق رسالته في الحياة، سائرا في الطريق بكل عزيمة وثبات، يشقّ عباب الحياة واعيا لتقلباتها، مُمسكا دفة القارب لوضوح الوجهة المرادة .
كما إن آيات القرآن هي رسائل من الله إلينا ينبغي قراءتها والعمل بها كما كان أهل بيت الرسول يتخذون آيات الله رسائل من ربهم يقرئونها ليلا ويعملون بها نهارا، ولا زال القرآن يُذكّر الناس برسائل الحياة قائلا: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ… ) إنه جادل في ربه وادعى الإحياء والإماتة، ولكنه بهت عندما ووجه بحجة أقوى،
ومرة أخرى يضرب لنا الأمثال قائلا:( واضرب لهم مثلا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً) (الكهف:32) صاحب الجنتين هذا أخذ يتباهى ويفاخر بما عنده من أموال وثروة على صاحبه، مطمئنّا لعدم زوال حاله، كافرا بقيام الساعة ، ولكن ماذا كانت العاقبة ؟ (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا (الكهف:42).
فالحياة مجموعة من الرسائل كلما فتح رسالة، ينبغي أن يقرأها بتمعن ويستوعب الرسالة الموجودة فيها ، متزوّدا بقدر الإمكان من أكبر قدر منها ، واعيا لها،
وليست الرسائل للمتعة والتسلية كما هي عند البعض فهي تأتي وتذهب وكأن شيئا لم يكن، فلا تضيف إليه شيئا، ولا تزيد من رصيده جديدا.