صُنّف أهل البيت (ع) غالباً كقادة للمعارضة ضد حكومات جائرة معاصرة لهم، وانسحب مع التاريخ في مخيلة أتباعهم وباقي أفراد الأمة الإسلامية – إلا القليل منهم – أنّهم (ع) قادة انفرزوا لخصوص مذهب التشيع واستنفذوا كلّ طاقاتهم من أجله، لا من أجل الإسلام بكل طوائفه وشرائحه، ولئن كان هذا هو المشهور فمن الطبيعي أن تتولد من هذه القناعة بسبب إيمان البعض بالعصمة دون البعض هي عامل في وجود المائز بين الشيعة وغيرهم، فهل هم كذلك؟ وما موقع توصيف مقولتهم »الرادّ علينا رادّ على الله« والاستدلال بها دون سياقها الموضوعي والتاريخي في تعميق الشرخ، أو ردم هوة الانطواء تحت كهف العصبية المذهبية المقيتة؟ يُحدّثنا التاريخ أنّ الأئمة»ع« وأوّلهم عليّ (ع) قد شاركوا في حقبة الخلافة الراشدة بالنصح والمؤازرة والنصرة، وكانوا خير أعوان لهم في إيصال وديعة محمد »ص« إلى الأمة نقية صافية كما تشربوها من نبي الأمة محمد»ص«، ولكن الأئمة وقفوا بحزم وإنكار شديد ضدّ الظلم والطغيان والجور الذي محق بالأمة بعد الخلافة الراشدة، حين تحولت الأمة من شرعية البيعة إلى فرض سيادة الملك بالاستبداد والقهر، فقد انسحبت هذه المعارضة ومن خلال امتدادها التاريخي إلى تهمة رخيصة بالأئمة أهل البيت»ع« أنهم طلاب سلطة، وأنهم واتباعهم الشيعة يعارضون دائما الحكام وأتباعهم التيار السنّي(!)، وقد تركزت هذه الفرية بعوامل عديدة، وإلى اليوم تعمل الدوائر المغرضة للنيل من وحدة الأمة بتقوية النفس الطائفي والفرقة المذهبية بين الشيعة والسنّة.
والمحلل المنصف لطبيعة معارضة أهل البيت»ع« يُدرك أنها إنما كانت لقطع الطريق أمام انتشار الظلم والرضوخ إليه؛ لتبقى الأمة متماسكة بدين الله تعالى وقيم العدالة كما جاء به محمد »ص«، ومما ركّزه أهل البيت»ع« لمحو آثار الظلم ورموزه العمل على تشديد النهي عن دعم بنيان الجور، لئلا تنساق أفراد الأمة إلى الترافع بأي حال من الأحوال إلى القضاة الظلمة، أي سنّوا ما يعرف باسم المعارضة السلبية بعدم الدخول في مجالس الظلمة وعدم تقوية سلطانهم بالاحتكام إليهم، لا سيما القضاة الذين يرتشون ويقلبون الباطل حقا والحق باطلا، فقد أُثر عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: »أيما مؤمن قدّم مؤمنا في خصومة إلى قاض أو سلطان جائر فقضى عليه بغير حكم الله فقد شركه في الإثم«، وقوله كذلك: أيما رجل كان بينه وبين أخ مماراة في حق فدعاه إلى رجل من إخوانه ليحكم بينه وبينه فأبى إلا أن يرافعه إلى هؤلاء»أي قضاة الجور« كان بمنزلة الذين قال الله: »(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) ــ النساء:)، في هذه الأجواء بالذات وهذا السياق الموضوعي والتاريخي صدرت مقولة أئمة أهل البيت (ع): »الرادّ علينا رادّ على الله«، ففي رواية عمر بن حنظلة أنه سأل الإمام الصادق عليه السلام عن رجلين من أصحابنا تكون بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى الطاغوت أو إلى السلطان أيحلّ ذلك؟ فقال: »من تحاكم إلى الطاغوت فحكم له فإنما يأخذ سحتا وإن كان حقه ثابتا، لأنه أخذ بحكم الطاغوت، وقد أمر الله تعالى أن يُكفر به، قلت كيف يصنعان؟ قال: انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فلترضوا به حاكما فإني قد جعلته عليكم حاكما، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما بحكم الله استخفّ وعلينا ردّ والرادّ علينا رادّ على الله وهو على حدّ الشرك بالله عزّ وجلّ«.
فالحديث كقولك لرجل »أدّ الأمانة إلى أهلها وإن رددتَ قولي فقد رددتَ قول الله حين قال إنّ الله يأمركم أن تُؤدّوا الأمانات إلى أهلها«!
فالحديث تاريخيّ، وموضوعه شيعة أهل البيت المعارضين لسلطان الجور آنذاك، فمن ردّ منهم الطريقة التي اقترحها الإمام عليهم لعلاج خصوماتهم بعدم التحاكم إلى الطاغوت فهو يردّ على الله تعالى لأنّ الله هو الذي أمر بعدم التحاكم إلى الطاغوت، انظر خصوصية هذا الحديث ومحدوديّة موضوعه، وكيف يتمّ توظّيفه خطأ، لاستعباد الناس وإكراههم وسلب آرائهم! وإرباك المفاهيم وإدخال الناس في حيص بيص وحملهم على الإنكار على أهل البيت!
إنّ كلام الله لا يعلوه كلام، ثمّ كلام رسوله (ص)، وأقوال أهل البيت (ع) تُعرض على كتاب الله وسنّة رسوله فإن وافقتهما وإلاّ يُضرب بها عرض الحائط، هكذا أوصوا، ولم يقولوا أبدا أنّ كلامهم ككلام الله، وأنّ الرادّ على أقوالهم كالرادّ على الله، فضلا أن تمنح هذه الخصلة لفقيه يُجعَل الردّ على أقواله ردّاً على الله! سبحانه وتعالى عن مساواة قوله بقول البشر!
كلّ أقوال الفقهاء ظنّية، وكلّ فقيه يردّ على الآخر، ولا أحد منهم معصوم أو يُوحى إليه، وحتى الإمام المعصوم في عرف الشيعة يُعرض كلامه على كتاب الله، فكيف وصل بنا الأمر إلى القول أنّ طاعة فقيه معيّن هي نفسها طاعة الله، والردّ عليه ردّ على الله، وهو مقامٌ لم يدّعِه حتّى أهل البيت (ع) أنفسهم.
الأئمة (ع) لم يستبدوا بالأمة، ولم يصادروا عليهم آراءهم، وما اتهموا أحدا ببطلان عمله، ولا وصفوا من خالفهم الرأي بتفسيق أو تكفير ما دام عنوان الإسلام يشمله ويحقن دمه وعرضه وماله، وبمقتضى العصمة لم يُلزم الإمام علي (ع)رعيته، فلم يقبل بالإمارة عليهم إلا بعد أن انثالت وتجمعت عليه غالبية الأمة تبايعه شعورا بحاجتها وافتقارها لإمرته، وقد خطب فيهم يوما قائلا: »فلا تكلموني بما تكلّم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يُتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنّوا بي استثقالا في حقّ قيل لي، ولا التماس إعظام لنفسي، فإنه من استثقل الحق أن يٌقال له، أو العدل أن يُعرض عليه، كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفّوا عن مقالة بحقّ، أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ، ولا آمن ذلك من فعلي، إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به منّي«.
هذه هي طبيعة أئمّة أهل البيت (ع) يفتحون الباب واسعا لرعيتهم فيما هو اجتهاد ومظنّة أو هو عمل إجرائي قابل لتعدد الآراء واختلافها؛ كيما يبذلوا جهدهم لإبداء المشورة عليهم، دون استثقال من كلمة حقّ قيلت لهم.