قال تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة:)256 ترسم الآية معادلة ذات علاقة جدلية بين عنصرين من وقائع الحياة، هما الإكراه والرشد، هذه المعادلة عامة يمكن تطبيقها في كثير من مجالات الحياة الإنسانية، وهذا يعني أنها ليست في الدين خاصة، وإنما هي تؤصّل أو تكشف قاعدة من القواعد والمبادئ التي يراها الدين، فمتى ما كان الرشد والصلاح واضحا غير غامض، متميزاً عنه الغي والفساد فلا حاجة حينها إلى إكراه أي أحد على سلوك درب الصلاح والخير، فالطفل حال طفولته لكونه يفقد معيار التمييز بين الأمور الخطيرة المهلكة والدرب الصالح الحافظ لحياته وصلاح أمره؛ فإنه في ضرورة إلى الأخذ بيده إلى صلاح أمره وتجنيبه المخاطــر ولو بالإكراه، أما حين يرتقــي عقله وتتراكــم خبراتــه وتتميــّز إرادته الواعية فإنه من العبث أن يقاد ويسيًر كالبعير، دون أن يُحترم عقله وإرادته وخبرته وحرّيته.
إن السيد الإمام الخميني رحمة الله عليه ما كان بإمكانه أن يجتث نظام الشاه المدعوم من أميركا والغرب لولا أنه ربى كوادر أكفاء تملك الساحة الشعبيّة وتغير قناعاتها تجاه أفكار ومرئيات ثورته الإصلاحيّة، فكانت كلمة قائد الثورة والشارع الإيراني متطابقة نحو دستور الجمهورية الإسلامية، في استفتاء عام للشعب الإيراني، وعامة الشعب صادق في الاستفتاء باعتبار قائد الثورة هو الولي الفقيه للأمة الإيرانية، ومن يومها أضحت نظرية ولاية الفقيه مفعّلة في كلّ مفاصل الدولة بموجب العقد الاجتماعي أو بتعبير آخر (البيعة) على أساس ديمقراطي يلتزم بها الشعب في كلّ مؤسسات الدولة فضلا عن بُعدها الروحي المؤثر في طاعة الشعب الإرادية أمام الولي الفقيه، وصارت ملزمة حتى على باقي الفقهاء وأتباعهم في إيران بالمستوى السياسي بحسب مفهوم البيعة في الإسلام وما تستتبعه من ملزمات معينة في نطاقها.
ومسألة ولاية الفقيه وإن كانت قد بُحثت كنظرية تعتمد في أدلتها على موقع الإمام المهدي (ع) في العقيدة المساقة بحسب المذهب الشيعي بالطرح السائد، إلا أنّ إجراء الاستفتاء للشعب الإيراني بداية الثورة يخرجها عن كون الشعب الإيراني قد ألجئ بها، ومورس بحقه الإذعان تحت سلطتها وهيمنتها، فالشعب كان صاحب الإرادة في قول ”نعم” أو ”لا” لأطروحة ولاية الفقيه، ولنظام الجمهورية الإسلامية.
والحق أنّ أي ثورة جرت في العالم لا تضمن بقاء أسس الثورة ومبادئها إلا بالعمل بالوسائل المتعددة لإقناع الناس وحشدهم بالمبادئ التي قامت الثورة من أجلها، حتى لكأنّ الناس قد أخذوا أخذ مقتدر تلقاء هذه المبادئ، والطرح الذي سيق لتثبيت نظرية ولاية الفقيه كان ضروريا وقتها لنظام الجمهورية الإسلامية في حقبة بناء المؤسسات الفتيّة الانقلابيّة على أساس من نظرية واضحة المعالم عند القادة السياسيين أولا وعند عامة الشعب الذين صوتوا بحريّتهم عبر صناديق الاقتراع.
وما حدث من استفتاء للشعب الإيراني هو مترسم لما جرى للإمام علي بن أبي طالب (ع) في خلافته للأمة، فلم يتسنم دوره السياسي كخليفة للمسلمين تبعا للنص الثابت له حسب اعتقاد أغلب الشيعة، فالعقيدة والقناعة بعصمة الأئمة عند قطاع من الأمة شيء، والوظيفة السياسية والتي على أساسها تُلزم كل أفراد الأمة بالاتبّاع شيء آخر، فلم يقبل الإمام علي (ع) بممارسة الخلافة إلا ببيعة الأمة له، فالمادة الدستورية- لو صحّ التعبير- التي اعتمد عليها الإمام في خلافته هي بيعة الأمة له وليس النص والتعيين.
إذن بيعة الأمة له هي العقد الدستوري الملزم للراعي والرعية، بل نراه قد تمنّع عن قبول الخلافة بعد مقتل عثمان داعياً بالتماسهم شخصاً آخر غيره، عسى أن تكون البيعة عن وعي ودون إكراه، وبفعله هذا اعتبر أنّ حكم الأمة دون بيعتها غير شرعي، والبيعة بالغلبة والإكراه أمر لا دستوري، ولم يقبل بالإمارة عليهم إلا بعد أن انثالت وتجمعت عليه غالبية الأمة تبايعه شعورا بحاجتها وافتقارها لمثله، وقد خطب فيهم يوما قائلا: … ”فلا تكلموني بما تكلّم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يُتحفــظ به عنــد أهل البــادرة، ولا تخالطوني بالمصانعــة، ولا تظنــّوا بي استثقالا في حقّ قيل لي، ولا التمــاس إعظام لنفسي، فإنه من استثقل الحق أن يقال له، أو العدل أن يُعرض عليه، كــان العمــل بهمــا أثقــل عليــه، فلا تكفّوا عن مقالة بحقّ، أو مشــورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ، ولا آمن ذلــك من فعلي، إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به منّي”.
واليوم، لولا أنّ الشعب الإيراني هو الذي ألزم نفسه بولاية الفقيه بالبيعةً، ما كانت لــه حاكمــة وملزمة، فكيف يمكن تصور حاكميتها على دولة وشعب آخر خارج نطاق البيعــة وبعيدا جغرافيا عن موطن ولادتهــا ولم يُبايــع بشيء ولم يثُر لا لعزلٍ ولا لتولية؟! إنه لأمــر واضح الدليل، ولا تحتمل النظرية حملا غير شرعي دون دليلها الشرعي . .
فإذا رجعنا إلى المعادلة القرآنية التي صدّرنا بها المقال، فإنه ما من شك أنّ العقل الإنساني يتجه إلى الاستفادة من تراكم خبراته دون أن يقف جامدا عند صيغة محددة، وإلا ما ناشد التطور وسعى إليه، وبناء الدولة ونظامها بما تتطلب من فصل بين السلطات الثلاث، وفق عدالة اجتماعية تظلّل كلّ مكونات الشعب، ودستور متطور تعاقديّ يحافظ على القيم ويضمن شرعة حق الإنسان ودوره وكرامته وحريته وشراكته، قادر على جعل الأمة في مستوى الريادة والعزة بين الأمم، وينمي الخُلُق الرفيع، ويستثمر كلّ طاقات الأمة، ويحفظها من شرور الأعداء ويجنبها كلّ المخاطر المحدقة بها، فإذا ما اتجهت الأمة إلى أن تكون قادرة وكفئا، وكان دور الولي الفقيه مساعدة الأمة حتى تبلغ الرشد إن كان سلطة وولاية دونها (وإلاّ فما من إشكال لو كان إرشاداً فحسب بدون سلطات)، فمتى ما بلغت الأمة واقع رشدها، كالبالغ الرشيد الواقف على رجليه تُؤمن المخافة عليه، فمن الطبيعي ألاّ تحتاج إلى وصيّ ووليّ عليها يأخذ بيدها.. متى رشدتْ (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ).. وهذا هو الفارق بين ولاية الأمّة كما في أطروحة الشهيد الصدر (ره) التي هي لمرحلة أرشد، وبين ولاية الفقيه التي هي لمرحلة دون البلوغ، إلاّ أن تتطوّر، وهي متطوّرة في واقع الحال في الواقع الإيراني، حسبمــا نشهد ظاهراً.