هل يعيش مجتمعنا أزمة أخلاقيّة؟

عندما نرصد أخلاق مجتمعنا نجد الكثير من الأفعال غير الأخلاقيّة، نجد من يرمي أحد والديه في دار العجزة ولا يكلف نفسه السؤال عنه، ونجد من يمنع والده من الزواج إذا توفيت زوجته خوفًا أن يذهب نصيب من ميراث أبيه إلى الزوجة الجديدة، ونجد من ينازع على ميراث أبيه قبل أن يقبر. وفي المقابل نجد عقوقًا من الآباء، فمنهم من يعتدي على أبنائه بالضرب والإهانة، ويمارس بحقهم ممارسات يندى لها الجبين، حتّى باتت بعض الأمهات لا تأمن على بناتها من أبيهن، ومنهم المقتر على أبنائه حتّى تدفعهم الحاجة إلى الانحراف، ومنهم من يرغم أبناءه على اقتفاء أثره والتخلق بأخلاقه في الصغيرة والكبيرة ليحبوا من أحبّ ويبغضوا من أبغض.

ونجد من النّاس من يعضّ اليد التي تحسن إليه، سواء أكانت هذه اليد يد معلم يعلمه أو عامل يعمل عنده، أو خادمة تخدمه، أو بائع يشتري منه، أو طبيب يعالجه، فترى من إذا جاء إلى الخباز ليشتري خبزًا نهره ورفع صوته عليه، كأنَّ هذا الخباز قنّ عند أبيه، غافلاً عن أن هذا الخباز يقدم له نعمة من أعظم وأجلّ النعم بثمن زهيد ولولاه لتضور جوعًا، وإن رأى عاملاً آسيويًا احتقره بلا سبب، متجاهلاً أنَّ هذا العامل إنسان نظير له في الخَلْق والإنسانية إن لم يكن نظيرًا له في الدين، وأنَّه إنسان شريف يؤدي عملاً شريفًا، ومن شرفه أنَّه تغرب عن بلاده ليكدّ على عياله ويصون وجوههم عن مسألة الآخرين وليؤمن لهم حياة كريمة، علمًا بأنَّ من ينظر بعين العدل والإنصاف يرى الأعمال العظيمة والجليلة التي يقوم بها هؤلاء العمال الأماجد، فهم الذين يشيدون الجسور ويبنون البيوت، ويرصفون الشوارع ويكنسون الطرقات، ولكنّهم مقابل ذلك مع بالغ الأسف يعانون من قلة الاحترام والتقدير، والغبن في المعاملة، والبخس في الأجر والحقوق، وتأخير الرواتب، والقسوة والغلظة في المعاملة. يعملون لأكثر من اثنتي عشرة ساعة في الأشغال الشاقّة في الحر والبرد والرياح والمطر بستين دينارًا أو دونها، والعجيب أنَّ العامل وأعطاه الطبيب إجازة خصمت من راتبه دون أن يشعر المقاول بإثم على هذه المعاملة اللإنسانيّة، مما اضطر إحدى السفارات لفتح عيادة في مبناها لمعالجة رعاياها، وحسب تصريح سفير هذه الدولة أنَّ ثلاثة من رعايا بلاده يموتون شهريًا في أيام الصيف نتيجة للعمل في ساعات الذروة.

عندما كثرت شكاوى العمال من نهب حقوقهم وتأخر المقاولين في صرف رواتبهم لأشهر ألزمت وزارة العمل المقاولين بتحويل مستحقات العمال إلى البنوك، فاحتجَّ بعض المقاولين لأنَّ العمال سيحتاجون لعصر يوم في الشهر للذهاب إلى البنوك لتحويل رواتبهم لأهاليهم، وعندما أرادت وزارة العمل إقرار قانون يحدد ساعات العمل في أيام الحر الشديد إلى الساعة الثانيّة عشرة رفضه المقاولون بحجة أنَّ هذا يسبب لهم خسائر ماديّة، لكن موت العمال بضربات الشمس لا يشكل لهم خسارة إنسانيّة!!

والعاملة في المنزل توكل إليها كلّ الأعمال، فهي مربية وخادمة، تكنس وتطبخ وتغسل وتكوي وتخدم الزوج والزوجة والأولاد والضيوف، بأجر زهيد أربعين دينارًا أو دونها دون إجازات سنوية أو أسبوعيّة، ولا مراعاة لخصوصياتهن، ومن الأسر من يحاسب الشغالة على الصابونة والمعجون ويغلق الثلاجة دونها خوفًا أن تمتدّ يدها لشيء من الفاكهة، بل من الأسر من تنيم هذه المسكينة في الحرّ ولا تأذن لها في فتح المكيف، ومن الأسر من تعتدي على الخدم بالضرب والشتم والأذى وحتّى الاغتصاب.

وفي المدرسة نجد الطلاب يأكلون ويرمون فضلات الطعام وعلب العصير في ساحة المدرسة دون أن يكلفوا أنفسهم أن يضعوا هذه المخلفات في سلات القمامة المنتشرة في كلّ مكان.

نجد الصغير لا يحترم الكبير، والكبير لا يرحم الصغير، وحالات اغتصاب عديدة للأطفال تنتج عنها عقد نفسيّة لا تمحوها الأيام، ونجد ونجدُ ولو أردنا تعداد ما نجد لفاق العدّ والعدد. ويكفي تعداد ما سبق لإثبات أن مجتمعنا يعيش أزمة أخلاقيّة؛ لنسأل عن السبب، فما السبب أليس ديننا خير الأديان؟ ألسنا نصلي ونصوم شهر رمضان، ونحج بيت الله الحرام ونصلي الجمعة والجماعة ونؤمن بالبعث والنشور، والحساب والثواب، والجنّة والنّار، وأنَّ الله لا يغادر حقًا لمخلوق في يوم القيامة ؟ فما بال هذه الأخلاق السيئة التي لا يقرها عقل ولا دين تعشعش بيننا؟

السبب أنَّ مؤسساتنا لا تعلم الأخلاق والذوق العامّ كمادّة أساسيّة في الحياة، فالمدرسة تعلمهم كلّ شيء إلا الأخلاق فهل في مناهج وزارة التربيّة والتعليم مادة باسم “الأخلاق والذوق العام” هل يتعلم الطلاب الصدق، والأمانة، والشرف، والمحبة، والشجاعة، والتسامح، والاحترام، والحياء، والوفاء، والاجتهاد، والتواضع، والصبر، والتعقل، وضبط النفس، والكرم، والسخاء، والشفقة، والمواساة، والعرفان بالجميل، والنيّة الحسنة وأنّها أفضل من العمل، واحترام الكبير، وحماية الصغير، والرأفة بالضعيف؟ هل يتعلم مضار الأخلاق السيئة كالحسد، والكبر، والطمع، والغدر، والحقد، والكسل، والإسراف، والغيبة، والنميمة، والفحش؟ لا نجد في مناهجنا شيئًا من ذلك ، وإن وجدنا فنزر يسير لا ينهض بالمهمة ولا يجعل الخلق الكريم طبعًا وسجيّة.

مجتمعنا يا وزارة التربيّة بحاجة لمادة مستقلة اسمها “الأخلاق والذوق العام” تلازم الطالب من الروضة حتّى الجامعة يدرّسها أناس ملتزمون بهذه الأخلاق لا مدرسون يقولون ما لا يفعلون.

نحن بحاجة لأنَّ يولي أئمة الجمعة والجماعة والخطباء اهتمامًا عظيمًا بالأخلاق والذوق العامّ لا أن يتكلموا في كل شيء إلا الأخلاق، علمًا بأن أنبياء الله العظام (ع) لم تكن مهمتهم التعليم فقط وإنمّا كانت التزكية (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) وقال المصطفي (ص): “إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”. ومدحه ربّه سبحانه فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ). الثقافة بدون أخلاق تخلق أزمة، ونظرة إلى الغرب تكفينا. شهد الغرب نهضة علميّة هائلة ولمّا لم يصاحبها خلق قويم، استعمر العالم، واستعبد شعوب، ومارس التفرقة العنصريّة، وأباد شعوبًا، وصنع القنابل الذريّة والهيدروجينيّة والبيولوجيّة، وشهد العالم على يديه حربين عالميتين وهو يسير قدمًا لحرب ثالثة. لجام العلم والمال والحكم والقوة ه الأخلاق، وبدونها يفقد الإنسان إنسانيته ويتحول إلى وحش كاسر.

مجتمعنا بحاجة إلى ثقافة أسريّة تعلم الزوجين أخلاق الإسلام لتكون عشرتهم سعيدة، ثمَّ ليورثوا أخلاقهم لأولادهم.

بتعليم وزرع الأخلاق في مجتمعنا نضمن معالجة كل السلبيات التي تعاني منها مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة، وبالأخلاق نكون كالفلاح البصير الذي يزيل الحشائش الضارة ثم يلقى بذرة لأنَّه يعلم أنَّ الزرع دون تنقية سيكون عليلاً، وكما قال المثل الشعبي: “الكحل في العيون الرمدة خسارة”.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة