نرى مؤخرا توريثا للزعامة الدينية مع ما يتبعها من زعامة سياسية واجتماعية، حتى مع تخلف الكفاءة العلمية والعملية، وحتى مع وجود من هو أكثر قدرة من بين الموالين للفقيد، فمع غياب الآباء عن الساحة بالموت أو المرض و العجز، ترى الأبناء يرثون أو يورّثون مناصب آبائهم في القضاء، والجمعة والجماعة، والتصدي لإثبات رؤية الهلال، والإجابة على المسائل الشرعية، تحت عنوان “مكتب”، فتسمع أن مكتب فلان لم يثبّت الهلال ومكتب علان أثبته، مع أن فلانا هذا قد توفاه الله، وعلانا الآخر مريض أو عاجز، فتعلم أن المتصدي للمقام هو ابن هذا وذاك، مع تواضع قدرة الأبناء عن شغل فراغ آبائهم، ووجود من هم أكثر قدرة منهم حتى من بين المريدين والأتباع.
ولقد كانت العادة أن تتوجه رغبات الجمهور بعد موت عالمهم الديني لمن يرونه أهلا من حيث العلمية والقبول، فيكون الناس هم جهة الاختيار بحسب انطباعاتهم العامة وتجربتهم مع الأفراد، هكذا ظل الأمر قرونا متطاولة ولا يزال كذلك، إلا أن ظهور مصالح وارتباطات سياسية واجتماعية، بعث عند أهلها الرغبة في الحفاظ على مصلحة التكتل عبر توريث المنصب للأبناء بعد الآباء، مستغلين مشاعر الوفاء وخصوصية أجواء الفقد عند الأتباع، فقد لا يكون الأبناء سوى ضحايا لمكر وطمع الصف الأول المنتفعين و المحتاجين للحفاظ على ترابط الكتلة التي تمثل مصالحهم ومواقعهم، والمتوجسين خيفة من ضياع نفوذهم وتأثيرهم فيما لو آلت الزعامة لغير ابنه الذي هو تحت جناحهم.
إن الداء قد لا يكون في الأبناء بل في الأتباع الذين يغلّبون العصبية على المنزلة العلمية والتقوى، ولكن لاشك أن الداء الذي عشعش في السياسيين موجود في رجال الدين، فالنفوس البشرية واحدة، فالكل يريد أن يحفظ نفسه في امتداده، ولهذا فقد تجد رجل الدين يحرص على وجود أحد أبنائه أو أكثر كعالم دين، تمهيدا لامتداد ذكره ومجده، وإن كان ذلك لا يلزم منه رضاهم بوراثة من هو غير جدير بالوراثة من حيث العلم والتقوى، إلا أنه لا يعني أيضا احتياطهم ألا تؤول الزعامة لذريتهم مع تخلفهم فيهما.
وهناك نوع من التوريث الديني غير النسبي، فهناك من رجال الدين من إذا تسنّم مقاما رفيعا في الناس، ثم اضطر مختارا اضطرار تزاحم الأولويات، للتخلي عن بعض مواقع زعامته، انتخب من بين مريديه من يراه أهلا لخلافته، لا من حيث كفاءته وحرية فكره واستقلال قراره، بل لأنه أصدق تمثيلا له، و أقوى أخذا بكتابه، وأمضى حكما بوصيته، وأحثّ سيرا على منهاجه، وأشدّ نكاية بعدوه، فيكون كأن لم يغادر ولم يبرح المسرح، فشبحه متلبس جسد وصيه، وهكذا لن يأتي من بعده من يفارق سنته، أو يخطّئ عمله، أو يخالف منهجه، كل ذلك حمية للنفس و اعتزازا بالذات.
والباعث على ظهور هذا الداء في رجال الدين بعد أن ترسخ في رجال السياسة هو زيادة حظوظ الروحانيين من الدنيا في هذا العصر كما في بعض فترات من عصور سابقة، فأصبح عند الروحاني شيء من مثل ما عند السلطان مما يخشى عليه من مال ونفوذ وجماعة وحزب ومنصب وموقع وجاه، حازها إما بالتقرب من السلطان، أو بمواجهته، أو بالانقباض عنه، أو نالها بالحظوة لدى الناس لسبب أو لآخر، فتعزّ على نفسه، كما يعزّ على حاشيته والتابعين والمريدين أن تخرج من بين أيديهم بموته أو عجزه.
وكما كانت الديمقراطية والشورى في الحكم حلا لمنع تسلط السلاطين، وجعل السلطان للأمة في نصبهم وعزلهم ومحاسبتهم، وتوقيت مدة حكمهم، وتحديد سعة صلاحياتهم، وتوزيع السلطات بين أكثر من جهة منعا للأثرة، فكذلك الحل في رجال الدين يكون بإلزامهم بالزهد في الدنيا وحظوظها، وفي البعد عن كنز المال والاتجار به، والتعفف عن مظاهر العيش الرغيد، أسوة برسول الله (ص) الذي هدد الله سبحانه أزواجه أمهات المؤمنين وخيَّرهم بين الله ورسوله والدار الآخرة مع التقشف، وبين الحياة الدنيا وزينتها، وذلك لما ضغطن عليه ليعطيهن شيئا من الفيء.
فإن كان رجل الدين وطالب الشريعة لا يريد أن يكون روحانيا زاهدا فلا حرج عليه، ذلك أنها رهبانية الإسلام ثقيلة مستثقلة، فليترك رداء الروحانيين وليضرب في الأرض كما يشاء، موظفا دراسته الشرعية في حاجات الناس المدنية، كالتدريس والمحاماة والقضاء، وكالعمل مستشارا للشركات والبنوك والدول، وكالنيابة والوزارة وسائر فرص العمل المناسبة لتخصصه وكفاءته، ولكن مع خلع الزيّ المتعارف للروحانيين، (وإن كان الودّ الودّ أن يترك الروحانيون لذوي الوظائف زيهم) ومع ترك ممارسة المهمات الدينية، كالفتوى، والوعظ، والتوجيه، وتحرير مواقف باسم الدين في القضايا الاجتماعية، وكاستلام الحقوق المالية الشرعية، والتصدي للحوزات الدينية، والخطابة على منابر المساجد والجوامع والمآتم، كي يعلم الناس أنه رجل متخصص في العلوم الشرعية والدينية ولكنه ليس روحانيا يطلب الآخرة دون الدنيا، بل هي مهنة يمتهنها وخدمة يعرضها مقابل أجر مشروط، وله في ذلك ما لغيره من العمال في العمارة من ثواب.
وأما الروحانية فلا تصلح إلا لمن كان صائنا لنفسه، مخالفا لهواه، مطيعا لأمر مولاه. صائنا لنفسه لا عن الحرام فهذه درجة من الصيانة لابد منها له ولغيره، بل صائنا لها عن كل ما هو زائد عن الكفاف مما زين للناس، والذي ذكره سبحانه في قوله: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ) مع كل متعلقاتها من الجاه والسمعة والسلطان.
الروحاني أنيس التدبر والتفكر، جليس الفقراء والمساكين، وكفيل اليتامى والأرامل، وناصر المظلومين، والمدافع عن حقوق الناس، الصادع بكلمة الحق ولو على نفسه والأقربين، مأوى كل طريد، ومأمن كل خائف، ومجير كل مستجير، نهاره بين متفقد لمسجون وعائد لمريض ومصلح لذات بين، وقاض لحاجة محتاج، ومعين على بر أو تقوى، وليله للذكر والتهجد، كأن وجوههم القناديل من شدة القرب من نور الله، فمعه أنسهم، وفي حضرته سمرهم، وفيه رغبتهم، وفيما لديه مطمعهم، التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِين.
فإذا ما وعى الجمهور دور الروحاني كما هو اليوم يعي دور السياسي، فعند ذلك ينتهي خسر الموازين، ويعود الحق كما أراده الله من الروحاني والسياسي، مهمتان لا تنفكان تدبران أمر الدنيا وأمر الآخرة، يتكاملان ولا يتعارضان، يتعاونان على البر والتقوى ويقف الروحاني صمام أمان ضد انحراف السياسي نحو الإثم والعدوان.