بالتضحيةِ.. وضع قدمه على سلّم المجد.. فجذبته “السماءُ” نحوَ ذُراها.. “بلغ العُلى بكماله.. كشف الدُّجى بجماله.. حسنَتْ جميعُ خصاله..”. ربّما بعض الدينيين أفشلوا أطروحة الدين أن تجد سبيلها إلى عقول المعاصرين.. فصاروا عليه شيناً. وربّما بعض العلميّين يضحكون مِن معتقدات الدينيين أكانت مستحقّة للضحك فعلاً أو حسبوها هكذا.. إمّا لقصور المؤمنين عن تبريرها منطقيّاً، أو لعدم فهم المؤمنين المُقنِع مع تسليمهم بها.. وفاقد الشيء لن يعطيه.
العلم لا تخوم له، وما بلغه لا يُتيح لنا الضحك على ما عجزْنا عن بلوغِه، لذلك الدينُ يسبق العلم ولكن ليس أيّ دين، بل الدين الحقّ الموحى، لا دين تفسيراتنا وقصور مداركنا.. خاصّةً المُضحِكة. مِن المُضحِكات علميّاً.. المبثوثة ببعض التفاسير، تفسير أحدهم للآية: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) أنّ رجلاً ارتحل لجزائر نائية.. فشاهد الموضع الجغرافيّ الذي تغرب الشمس في بحره الحامي وسمع صوت صلصلة انطفائها!.. تفسيرٌ مضحك علميّا، ومُضحكٌ مثلُه تصّورُ (بعض الدينيّين) أنّ الشمس تدور حول الأرض، أو أنّها بغروبها يبتلعها حوت.. لانعدام تصوّرهم الكوني والفلكي، وليس لانعدام رؤية كونيّة متكاملة يحويها كلام الله.. فالقرآن يحفل بأعاجيب يعجز العلمُ لليوم عن التحرّش بمفاتيحها. وكما ذهب ذلك المفسِّر ليفسِّر “مغرب الشمس في البحر” بحسب خارطة بُنيته الذهنيّة، ذهب آخرون ليُفسِّروا “منتهى المعراج” وِفقَ خارطة بُنيتهم العقليّة.
“المعراج” -الذي احتفلت أمّتنا الإسلامية بذكراه هذا الأسبوع- اكتفى العقلُ الديني قديماً بالتسليم بكونه رحلةً “للسماء”.. خاصّةً وأنّ القرآن الكريم تكلّم عن إنزال الكتب من “السماء”، وعن عروج أرواح الصالحين نهاية الأمر إلى “السماء”.. التي بالتصوّر اللاهوتي المسيحي تُدعى (هَفِنْ/Heaven) دون الأخرى (سْكاي/Sky)، للتمييز بين “سماء” روحيّة وأخرى “مادّية”، وهي هي “السماء” التي يشرأبّ إليها المؤمن –رمزيّا ووجدانيّا- مقلّباً وجهه نحوها مع كلّ ملمّة وشكوى.. وبادرة شكر وعرفان..
القرآن بدورِه – تبعاً لمنهجه التربوي ونسيجه العلميّ- استعمل مصطلح “السماء” باللسان المبين لغوياً.. كدلالةٍ على ما “سما” مِن عوالم الحسّ والتجريد، فسمّى سقف البيت “سماء”، وأعالي الجبال، والمطر، والسحاب، والجوّ.. وغلافه، والفضاء الكوني، والنجوم…”سماءً”، وهناك أيضاً بقاموسه “سماءٌ” تتنزّل منها الأوامر الحكيمة وتهبط الملائكة ويعرج إليها ملفّات الأعمال والأرواح.. تلك التي عرج نحوها النبيّ(ص) برحلته الملكوتية.. وعرجت أنبياءٌ قبله.. وبالمنظور الإنجيلي يرسمون “باباً” يشقّ “السماء” وتنحدر منه سلالم نورانيّة ليعقوب(ع)!
بعضُ المحاولين توفيقاً بين العلم التطبيقي بمدَياتِه الراهنة وبين الدين بعقائده الطلسميّة الماورائيّة.. صيّر المعراج رحلةً للقمر، بعضهم جعلها سفَراً خارج مجموعتنا الشمسية.. وراح يحسب مدَّتها بسرعة الضوء (البُراق) ليرى أيّ نجم ستبلغها وفق قوانين نيوتن، أو نسبيّة آينشتاين، ليكون هو “سماء العروج”..
البعض افترض “البُراق” مركبة فضائية نقلت النبيّ(ص) متجاوزاً إشكالية عروجه بجسمه وروحه، إذ مجرّد العروج بالروح ليست أعجوبةً تستدعي تكذيب المشركين آنئذٍ.. وهي تحصل للنائم أيضاً، بخلاف الإسراء بالبدن (المذكور بسورة الإسراء) ثمّ العروج به (المذكور بسورة النجم).. ليُصبح محطّ “تندّر” وتكذيب صغار عقول ذاك الزمن من أعداء الرسالة.. (وتكذيب كبار عقول هذا الزمن.. لقصورهم العلميّ أو اختلاط المضحك بغير المضحك لديهم كما أسلفنا).
القرآن فتح نفقًا علمياً يخترق به العقلُ صندوقَه، حين أخبر بالعروج “السماويّ” الذي يبدو كسحْرٍ: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ)، أخبر بهذه الأمور لا للتخدير والاستهبال، ولا ليجعلها “فانتازيا” هوليوديّا وخيالاً صارخاً، بل لتوسعة وعي الإنسان الكوني ومدركاتِه، وليربطه بمصدريّة أصلِه، لئلاّ يتقزّم فيظنّ أنّ “كوكب” الأرض المادّي.. وظواهر كونِه المًبصَر.. هما سقف وجوده. فللآن لا يفهم إنسانُنا مفهوم الزمن، ولا الموت، ولا النفس والروح، ولا يلمس إلاّ الآثار، للآن لم يسبر الإنسان -مع اتّساع مداركه- عوالم غير مرئية كالملائكة والأرواح والأشباح.. مع كونها أقدم وأبقى المعتقدات.. ومحلّ إيمان أهل الأديان قاطبة.
تعلّمتْ الناس أنّ هناك أبعاداً للعالم الكوني لا يمكن إدراكها إلا بطرق لم يعتادوها، النظريّات العلميّة تطوّرت مؤخّراً وأضحتْ تفترض عوالم موازية، وانبعاجات زمنية، ووجودات ذبذبيّة توازي عالمنا أو تتقاطع معه.. القرآن أتى بكلّ شيء.. لو وُجِد له مفسّر، وظلّت كُتب التفسير ناضبة لا تُشبع منطقنا.. فهل “المعراج” من غرائب الخيال؟.. الأغربُ أنْ يسمو شخصٌ روحيًّا “منفلتاً” من برمجة الفساد الذي نخر بمجتمعٍ قال عنه جعفر الطيّار: “كنّا قوم جاهلية.. يأكل القويّ فيه الضعيف..الخ” سارداً واقعهم المظلم المُخيف المحاكي لواقعنا، هذا الانفلاتُ درسُ المعراج الأوّل..المطلوبُ إثباته..
لذلك كانت ذكرى البعثة النبوية تُزامن ذكرى المعراج (لدى البعض).. ذلك أنّ مَن يستحقّ هذا.. يستحقّ ذاك “نزلةً أخرى”.. ومَن يرحم ويصدق فلا يسرق ويكذب ويخون ويزني ويفسد… فقد تعرّض “للسماء” أن تفتح له أبوابها.. كما قالت خديجة (والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتقري الضيف، وتصل الرحم، وتحمل الكَلّ، وتعين على نوائب الحقّ). المدهش أنّ “السماء” اتّصلت بهذا الإنسان أوانَ غربته الإصلاحية.. فقبل “المبعث” النبويّ كان في قمّة همّه يتلمّس بصيص أملٍ بتغيير أحوال الإنسانية فأتاه الجواب وصالا “سماويا” بكتاب التغيير، وقبل “المعراج” كان في ذروة همِّه وغربته.. بعداوة همج قومه وتشبّثهم بواقعهم الفاسد، فأتاه الجوابُ ثانيةً وصلاً “سماويا” يُعلي روحَه ليقزّم بناظريه تحدّيات أزقّة الأرض.. فلا يهولنّه شراسةُ سلاطنتها على شبرٍ من أرض.. وحفنةِ مالٍ وأتباع. الدرس الثاني ثباتُ نوايانا ومسالكِنا على الخير وإرادة التغيير، فإمّا تُسعفك “السماءُ” بإنجاحِه، أو تأخذك بلا غضبٍ عليك.. ولا تبالي.