إنّ ضعف حسّنا الوطني، وهشاشة شعورنا بوحدة الدين، يضطرّنا لاستعمال عصبياتنا المذهبية وهويّاتنا الطائفية المفرّقة.
اهتمّت أوساطنا المحلية والإعلامية مؤخّرا بدعوات الوحدة والتلاقي ونداءات الحوار، وهذا مبدأٌ مطلوبٌ كحصانة ضدّ أيّ تأزيم وتفرقة لأطياف الوطن، إلاّ أنّ هذا الظاهر الجميل ينبغي أن يستتبعه تحسينُ بواطننا، وإلاّ فستكمن جمارنا تحت رماد ما ذررناه في الأعين.
إذ لا معارك خلت من ثقافة سبقتها وسوّغتها، ثمّ أشعلتها فرصةٌ مواتية، ثقافة البغضاء والحرب يصنعها كثيرون، وثقافة الحبّ والسلام صنّاعها قليلٌ وإن تمضمض بها الأكثر، خُذ هذا مثلاً: (سماحة الشيخ “…”: نحن مجموعة موظفين، نعمل بدائرة حكومية، ويعمل معنا موظّف من “…”، السؤال: ما هي حدود العلاقة الشرعية مع هذا الموظف؟ هل يُعامل معاملة المسلمين في السلام وردّه؟ والتهنئة بالأعياد؟ وغيرها من شعائر الإسلام؟ أم يُحاور في مذهبه؟ أم يُقاطع نهائيا ويُضيّق عليه؟ أفتنا مأجوراً)
(الجواب: لابدّ من إظهار مقته وتحقيره وبغضه وإهانته، ولا يجوز تهنئته ولا بدؤه بالسلام، وإذا سلّم يُردّ عليه: “وعليكم”، والأولى الحرص على التضييق عليه حتى يشعر من نفسه بالصغار والذلّ والاحتقار من أهل “…”، والله أعلم، وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم. (4/1/1415هـ)).
ليست هذه فتوى ضدّ متهتّك فاجر، ومحتلّ غاصب، بل ضدّ زميل عملٍ مسلم مختلف المذهب! صدرت منذ عقد ونيف ببلدٍ جار، ونجد أشباهها حتى ضمن الطوائف نفسها، يُستفتى شيخ على فئات تُخالفه فيُفتي بضراوة!
إنّ قواعد الاتّصال الإنساني التي تحيا بها المجتمعات لا تنسجم مع ثقافة القطيعة والخصومة هذه، تلك التي أدان النبيّ(ص) وجودها واستشراءها بين المتعايشين “يلتقيان، فيُعرض هذا، ويُعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام”! وإنّ العهد الدولي لحقوق الإنسان عبّر عن حقيقة الإسلام وقال كلمته الحقّ التي تضادّ أمثال هذه الفتوى وبُنيتها الثقافيّة، وخيراً فعلت الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان بإيصال مسيحية ويهودي وهندوسي وبهائي مع أربعة مسلمين لأمانتها العامة، وأيضا خيراً ما فعلته صحيفة “الوقت” بنشرها تحقيقا بشأن تعدّدية مجتمعنا البحريني سمّته “حين تتعانق المساجد والكنائس والمعابد”، وأبرزت للقرّاء من تحقيقها نهجين؛ نهجاً تسامحياً وآخر متزمّتاً.
عموماً تصوّر لو كانت فتوى القطيعة الآنفة هي خارطة تعامل مجتمعنا البحريني المتعدّد لكان كما أخبر تعالى “لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ” ولأضحت تتخانق بدل أن تتعانق!
تصوّرها ضد مسيحيين ومندائيين بالعراق كما حصل مؤخّرا حيث فرّ 1200 عائلة من الأقليات المسيحية جرّاء فتاوى وأعمال متطرّفين مسلمين (ناهيك عمّا بين طوائف المسلمين من تناحر!)، تصوّرها بين المالكيّين والإباضيين كالأحداث الدموية التي اجتاحت الجزائر مؤخّراً، تصوّرها في باكستان حيث معاركهم الدموية المذهبية، أو الهند إذ شرّد العنف الطائفي مؤخّرا 50 ألفاً، تصوّرها ضدّ مسلمين ببريطانيا وأمريكا وأستراليا والمُستفتى قسٌّ شرس! تصوّرها على أقباط مصر! على زيديين وشوافع باليمن! على سنّي بإيران وشيعي بالسعودية! وعلى كلّ أقلية مذهب بإزاء أكثرية! أليس العالَم سيغدو جحيمًا وجاهلية متوحّشة كالتي خرج عليها نبيّنا(ص) إذ تأكل الأقوياء الضعفاء، والأغلبياتُ تسحق الأقليات، بلا حرية لعقائد وتنوّع أديان، وحيث الغارات والإكراه والاستعباد وألوان الأذى؟ هل أحيت المذاهبُ ما بُعثتْ الأديان لقبره؟ هل عاد التعاون على الإثم والعدوان واجباً بعد أن كان محرّماً؟ ما أكثر جنايتنا بحقّ الناس باسم الدين، وما أكبر جنايتنا بحقّ الدين! بعض المذهبيّين يبرّر إفشاء هذا المنهج الإقصائي بقصد الحصانة الإيمانية، ومن موجبات الاعتراف بالخصوصية المذهبية التي لا يحقّ لأحد دسّ أنفه فيها!
إذا كان السلام لا يُردّ، والإهانة والتحقير واجبة، فماذا بقي من أخوّتنا؟ وإلفتنا؟ وأخلاقنا؟ وإسلامنا؟ نعم لقد بقي اسمُه، بقيت طقوسُه وشعائرُه بمعيّة آلاف المسائل الاختصاصية التي تعلّمنا نجاسة دماء البعوضة، ولا تعلّمنا ألاّ ندوس الآخرين، قلوبُ شياطين وأشكالُ ملائكة، كلّ هيئات التديّن موجودة لكنّ القلوب قاسية، وأساس الدين كان المعاملة، وهذه استحالت جفاء وتحقيرا وقطيعةً وفقاً للفتوى(!)، فيالدين السلام إذا كنّا بيننا نحرّم السلام الذي أوجب الله ونبيّه إفشاءه وردّه بأحسنَ منه!
إذا سُرق الدين، وأُفسدت تعاليمه ومعاملاته، وضُيّعت حقوق التعايش بالاحترام، فعلينا إعادة التفكير بسبلٍ أخرى، تلزم سواسية الحقوق، وتشيع حقوق المواطنة بما تعنيه من حقّ كرامة (عدم إهانة وصغار وذلّ) بحسب الفتوى الإيذائية، وتمنع الإكراه على المعتقد بإخضاعات وحشية، على الأوطان إن كانت ذات مؤسسات حقيقية أن تُنشئ ثقافة وطنيّة وحدويّة مضادّة لحقن سموم إفساد القلوب، التي تُمزّق الأوطان وتهتك حقوق الإنسان، وتُنتج تعطيل مصالحه العامة، حين يُصبح المدرّسون، والموظّفون، والعاملون، متقاطعين، محتقرين لبعضهم، نتيجة اختلافات عقائدية طبيعيّة، يستغلّها مشايخ يجعلون أنفسهم حكّامَ المناشط والمرافق والأواصر المجتمعية الرسمية والأهلية، فيفسدون برامجها وأهدافها بفتاوى لا تراعي لأحدٍ ذمّة، حتى يتيه الموظّفون بين ازدواجية ولائهم لعملهم، وصلاح وطنهم، وحقوق زمالتهم، وسجايا أخلاقهم (وهي جوهر دينهم)، وبين خضوعهم لمشايخهم!
إنّ مسئوليتنا أن نعي أنّ مشايخ الدين ليست لوناً واحداً، لئلاّ نَقرن –مخدوعين- رجالاً ربّانيّين شرفاء توحيديّين حملوا ألوية العدل وقضايا العزّ والإباء، بمشايخ مهمّتهم إيقاد التباغض بين مسلم ومسلم، ومسلم ومسيحي، ومسلم وبوذي، وهمّهم إعزاز شأنهم بين أتباعهم، كلا والله، “ليسوا سواء”.