قال الشاعر: فمتى تُدرك ذاتي كنه ذاتي؟.. لستُ أدري. الإنسان يُولد طفلاً وقد يعمّر ويشيخ ويموت طفلاً.. حاملاً شهاداته وعلومه معه دون فائدة.. مجرّد طفل قزم بالنظر إلى إنسانه الكامن فيه.. والمراد تحقيقه. كثيرون يتقزّمون بتضخّم “أناهم” الطفولية.. فاقدين أعزّ ما يُرتجى من الإنسان تكوينُه، تمحورُهم حول ذواتهم البشريّة يُفقدهم الاتّصال الكوني بكلّ الآخر، حتى لتراهم أبداً محبوسين بدائرة مشاعرهم وغرائزهم فقط، مقولاتهم تتأسّس على قطبيّة “أنا” الابتدائيّة: “أنا أحبّ”، “أنا أكره”، “أنا أقول” “أنا أريد”… ويعلّل خصوماته الشرسة لأقرانه.. ليس لأنّ مظلومًا ظلموه بحضرته فقام ينصره، أو اللهُ والفطرة والعقل يبغضون شنيع أفعال أنداده فلبّى دواعي الرفض للفطرة والعقل، أو أنّ شرائع العدل أمرت به، بل “لأنّه يشتهي” و”لأنّه يكره الذي يمسّه بسوء”.. مركزيّتهم تجعلهم يستقبلون كلّ الموجات بارتياب ظنّ وبسوء فهْم.. فيحسبون كلّ صيحة عليهم. حروبهم مسخّرة لأشخاصهم، فيُحطّمون الآخرين لمنافستهم ذواتهم، ويخرسونهم لئلا يبوحوا ببعض نقائصهم، بهذا يتموضعون كأحرم المحرّمات وأقدس المقدّسات.. ويا ويل من تكلّم عن هفواتهم أو ظنّ بنقصانهم.. أين يُوليّ مِن حقدهم ومكائدهم؟!
يفقدون أشرفَ خُلقيْن: أوّلها الاتّضاع للحقّ (وهي لازمة خصال العبودية)، والثاني التسامي أي التسامح (وهي لازمة خصال الربوبية).. فيتمثّلون الربوبية مرّتين: مرّةً: حين يظنّون أنّهم فوق الحقّ، فوق النقد والنصح والتخطئة.. فيزعمون عصمتهم وألوهتهم وفوقيّتهم البشريّة.. (بهذا هم يتقزّمون ولن يتطوّروا لأنّ قِوام التطوّر اكتشافُ نقصنا والاعتراف به لاجتيازه.. لا بمكابرتنا بنفي وجوده).. ينصبون أنفسهم ذواتًا لا تُمسّ.. ويفقدون فضيلة “الاعتراف بالخطأ” وبالنقص، التي هي أوّل أسباب التفاضل ودواعي التكامل. ومرّةً: حين يتجبّرون بتلك الألوهة الموهومة على غيرهم فلا يسمحون بسماع صوت فوق صوتهم، ولا يغفرون أخطاء وتجاوزات الآخرين -الحقيقيّة أو الظنّية- بحقّهم، حتّى لَيكون الرادّ عليهم رادّاً على جبّار الكون.. ومخالفهم مخالفاً لربّ العالمين، لا يعرفون التسامح والتجاوز وكرَم العفو، فيفقدون صفة الإله التي بها رحم عباده لدرجةٍ أوهمهم كأنّ لهم التطوّل عليه سبحانه.. ولم يُؤاخذهم بما كسبوا: (يا جميلَ العفو يا كريمَ الصفح يا حسنَ التجاوز)..
عبيدُ ذاتٍ مرّتين.. مُدّعُو ربوبيةٍِ تارتيْن، أحسنُ صفةِ “البَشريّة” المرغوبِ أنْ يكتسوها (التواضع والاعتراف) محوْها واستبدلوها بصفة “الإله” (الكبرياء)، وصفة “الإله” التي ينبغي أن ينتحلوها (العفو والتجاوز) تجاوزوها واستبدلوها بأسوأ صفة “البشريّة” مِن لُئم وانتقام. كبرياء موهوم لجبابرةٍ نازعوا الجبّار صفاتٍ ليس لهم أن يتّصفوها، وغير رحمانيين غادروا صفاتٍ للرحمن هم مدعووّن للتخلّق بها.. فانخسفوا من جهتين: جهة الصعود وجهة النزول؛ نزلوا حين الأنبياءُ صعدتْ، وصعدوا حين الأنبياء نزلت.. هرولوا مِن نقص لنقص.. عكس عقارب الاكتمال.. أجيفُ جُسومٍ تُدفن، وأردأ نفوسٍ تُعاشر..
تجد نماذجهم تعجّ بميادين السياسة والدين وبكلّ المناصب.. حتى أنّ منهم المعلّم والمعلّمة، بل وأفراداً عاديّين بعُشرائك وجماعاتك، حتى (إنّ الرجل ليُكتب جبّارًا وما يملك إلا أهله)! ليس للآخرين منهم إلا العناء.. حقّهم من الآخرين مأخوذٌ بضعفيْه، وحقّ الآخرين منهم مضيّع.. يُسيئون ولا يعتذرون، وعلى الآخرين الاعتذار لهم ولو لم يُسيئوا.. ويا ويلهم وعذابَ ليلهم لو لهم أساءوا.
شهر الرحمة هذا، شهر اليقظة لتجاوز هذه “الأنا” الجبّارة المشقية لنا، شهر “الاتضاع” للحقّ.. وللناس، شهر نتعوّد فيه لا على كفّ البطون والفروج، بل كفّ نوازع الشرور فنتسامح ونتجاوز ونعفو.. نتعلّم أنّ البشر خطّاءون.. فبالضرورة أن نُخطئ عليهم.. وبالضرورة أن يُخطئوا علينا، فنُقابل خطأنا “بالاعتراف” والاستغفار، ونقابل خطأهم “بتجاوز” العثرة، نرحم لنُرحم، نغفر ليُغفر لنا، لنخرج من إسار ذواتنا لاستبصار الوجودات خارجها.. فنفوسنا ذرّة من مليارات أخرى سابحة لها حقّ وجوديّ كحقّنا، لسنا أوحديّين.. ولسنا مركز الكون.. إنّما ذلك “هو الله أحد”.. فأيّ خسارة عظيمة أن تحلّ ليلة القدر.. وليلة صناعة أقدارنا، وقلوبنا مملوءة أحقاداً شخصيّة! وأن ينقضي شهر رمضان ولم ننهل سلامه وصفاءه ورحمته؟ لم تُودّع قلوبُنا الخصومة.. وجوارحُنا آثامَ الفوقيّة والاعتداء؟!
فمثلاً وليس حصريّاً، من واقعنا المشاهَد الأخير.. ممّا يُؤسَف له في سياقنا الديني والرمضاني أن يُؤسِّس لمعارك بين سنّي وشيعي، أو تُوقَد ضغائن بين زعامات دينية محلّية شيعية، بتوظيف مقدّساتها بمعارك السياسة، وممّا يُؤسَف له أن يتمّ استغفال جمهور المؤمنين وزجّهم وقوداً للمعارك بعد أن تُدرج له “مشايخ الدين” بصالحها وطالحها بكبسولةٍ واحدة وعليه أن يبتلعها هاتفاً للجميع “معكم معكم”، وهي عبارة وردت بأدعية زيارات آل البيت وحدَهم(ع) “فمعكم معكم لا مع عدوّكم”، وعدوّهم ليس مذهبًا آخر وطائفةً أخرى، بل ولا فرقةً ضمن مذهب وثلّة ضمن طائفة، بل كان أعداؤهم دائماً وأبداً سلاطين الجور والإجرام والاعتداء وغصب “الحقوق”.. سياسيّين كانوا أم دينيّين، مجرمون قتلوهم بلا رحمة واستأصلوا شأفتهم، فيُقرن (المؤمن) مخدوعاً.. سماحة السيد حسن نصر الله (مثلاً) -وهو قائد ربّاني ووطني وقضيّته شريفة.. نزيه عن الأحقاد الشخصيّة.. لا يستبيح مخالفيه.. ولا يقتات بالهوامش- يُقرنه بمشايخ هنا وهناك تدعو للبغضاء ولإيقاد الحروب.. لا قضية لهم إلاّ توظيف المقدّسات لإعزاز شأنهم واستتباع أتباعهم!
العلماء ليسوا واحدًا، فبعضُهم يُفسّق بعضًا ويُكفّره، ولنا عبرة في اختلاف مرجعيّات دينيّة بإيران.. وتباغض علماء أحزاب العراق، لئلا نُدرج الصالح منهم بالطالح، الدينُ الحقّ.. هو يقيناً ضدّ “الفقيه” الذي يُفسّق ويظلم نظراءه، ضدّ الشيخ الذي يُهمّش ويطعن أخاه، ضدّ الخطاب الذي يفرّق الأمّة شيَعاً، ومع دين الله.. ورجال الله.. الذين استنّوا بسنّة النبيّ(ص) السمحاء وعترته الأطهار، مع السجود لله وحده.. وضدّ الصفّ الذي يسجد.. لكن “من ثقل الأوزار”.