البيان عقل العربي

من أسرار اللغة العربية إمكانية العودة بكثير من معاني كلماتها للأصل الثنائي المضاعف، فللبحث عن معنى كلمة ما، يمكن الوقوع على السر الزائد عن معناها المتداول بالبحث في الكلمات التي تشترك معها في الأصل الثنائي المضاعف لها، كما يمكن تعزيز فهم المعنى بالبحث في مقلوبه. فالأصل الثنائي المضاعف لكلمة نبي مثلا هو نَبّ، ومقلوبها بَنّ، وباستقراء مجمل الكلمات المشتركة في هذا الأصل يمكن استنتاج المعنى الأصل المشترك مما يعين على تحديد أقرب المعاني صوابا في زحمة تفنن أصحاب العبارة في استخدامها.

فالأصل نبّ يدل على حالة خروج وانبعاث من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، أو قل من عالم المستور إلى عالم المكشوف، من الخفاء إلى العلن، فهناك دائما حركة من الداخل نحو الخارج، فتحت هذا الأصل نجد الكلمات التالية: نبت، نبث، نبج، نبح، نبخ، نبذ، نبر، نبس، نبش، نبص، نبض، نبط، نبع، نبغ، نبق، نبك، نبل، نبه، نبو، نبأ.

فالنبت هو خروج النبات من عالم ما تحت الثرى إلى عالم ما فوق الثرى، من غيب ما تحت الأرض إلى علن ما فوقها، والنبث أصل يدل على إبراز شيء، من عالم الخفاء إلى عالم الظهور، تقول نبث التراب: أخرجه من البئر، وسمي الحافر نابث لأنه ينبث عن مستور تحت الأرض.

والنبج والنبح كلمتان تتعلقان بإخراج الصوت القوي، واستعملتا في صوت الحيوان تقول نبح الكلب ونبح الظبي أخرج صوته، وكذلك نبج، فالنبّاج: الرفيع الصوت، وهما إخراج من عالم مستور غير مسموع إلى عالم مسموع، ومثلهما نبس ونبص ، فنبس تستعمل لكلام البشر ونبص أعم منها فتستعمل للبشر والحيوان ولكنهما لا تستعملان للأصوات القوية الخشنة.

ونبخ تدل على خروج وبروز ما تحت الجلد من حالة الاستواء إلى حالة الانتفاخ، فالنبخ ما نفخ من اليد فخرج شبه قرح ممتلئا ماءً، ومنها سمي المعظم لنفسه على الناس الرافع لمنزلته عليهم نابخا، فكأنه خرج من حالة الاستواء التي تستره في الجمع فأبرز نفسه.

والنبذ هو الطرح والإلقاء والطرد، فكأن الشيء أو الفرد كان مستورا بانضمامه إلى أمثاله وفصيلته التي تؤويه، فلما نُبذ صار مكشوفا، فبرز من مكمنه إلى العراء المكشوف، ومنها اشتقت معان مصاحبة مجاورة من مثل نُبذة أي الشيء القليل، كأنه منبوذ لقلته، مع أنه لا يراد فيها التعبير عن النبذ بل عن القلة، فاشتق المعنى من المعنى لمجاورتهما في الحياة، فالقليل قد ينبذ لقلته وهوان قيمته.

والنبر يدل على رفعة وعلو فهو كذلك خرج من ستر الاعتياد إلى ظهور التميز، فبرز وانكشف لعلوه، وهي قريبة من النبخ وقد تستعمل في بعض استعمالاتها من انتفاخ القروح، وتستعمل كما النبح والنبخ في علو الصوت ولكن في غير مواضع الحيوان، “فالنبّار : الفصيح الجهير، وسمي المنبر منبرا لأنه مرتفع ولأنه يرفع الصوت عليه”.

والنبض خروج من سكون إلى حركة، فكأن السكون ستر وكأن الحركة كشف، فالنابض يكشف عن نفسه ويخرج من عالم الستر إلى عالم الشهادة، فالسكون كمون والحركة افتضاح، وطالب الستر عليه أن يلتزم الكمون وإلا كشفته حركته.

ونبط تدل على استخراج شيء، فمستنبط الماء مخرجه من غيب الأرض إلى شهادة السطح، ومنها مستنبط الأفكار فكأنه أخرجها من عالمها المستور لتشهدها نواظر العقول، ومثلها النبع تقول نبع الماء أي خرج بنفسه من القاع إلى السطح.

ونبغ “كلمة تدل على بروز وظهور” “ونبغ الشيء: ظهر”، “ونبغ الرجل إذا لم يكن في إرث الشعر ثم قال وأجاد” ومنه سمي النابغة الذبياني، ونبق تستخدم للخروج من حالة اللانظام إلى حالة النظام، من الفوضى للانتظام، فكأن الشيء في الفوضى مستتر بفوضاه، فإذا انتظم ظهر وبان، ونحن نقول عبارة دخل في عرض الناس بمعنى استتر بالزحام، والزحام فوضى والنظام بروز وظهور، فالدغل تكاثف للشجر يلتف فيه بعضه على بعض، فإذا نبّقه الإنسان ونسقه على نظم واحد انكشف وبان.

والنّبك خروج الأرض عن حالة الاستواء للارتفاع، تماما كالنبخ ولكن النبخ في الجلد والنبك في الأرض، فكل مرتفع عن الاستواء فقد خرج من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، فالبروز من حالة العموم إلى حالة الخصوص ينقل الشيء من الغيب للشهادة، من الاستتار في المجموع إلى التميز بالخصوصية، تماما كما في النبل من نبل، فالنبيل خرج من الاستواء مع الناس إلى العظمة والتميز بالفضل والفضائل، وهي تطلق أيضا على الحاذق، فالنابل حاذق تميز عن الغير بالحذق فخرج من العموم إلى الخصوص، وكل عام فهو مستور بغيره، وكل خاص فهو مكشوف بتميزه، ومثله النبيه من نبه، والنباهة هي ارتفاع عن الغفلة والنوم، فهو كذلك قد خرج من الغيب بالاستتار في السائد إلى الارتفاع والتميز، والاستتار غيب والبروز شهادة. وكذلك نَبَوَ، فالنَبُو يدل على تميز الشيء عن غيره إما بارتفاع أو بابتعاد، فهو كما سبق خروج من الغيب إلى الشهادة، من الستر في العمومية إلى الظهور بالخصوصية.

والنبأ كالخبر خرج من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، و هو خصوص الخبر العظيم الصحيح الذي لا شك فيه، فكأنه افترق عن الخبر بتساوي احتمال الصدق والكذب عليه، فتمحض بالصدق دون الكذب. فالنبي – وهو مثالنا – حامل أنباء الغيب إلى عالم الشهادة إن أخذته من نبأ فهو نبيىء، أو هو المميز عن غيره بالوحي إن أخذته من النّبو بمعنى الارتفاع.

وأما مقلوبها بَنّ “فأصل واحد يجمعها اللزوم والإقامة”، على عكس نَبّ التي يجمعها الخروج، “فالإبنان اللزوم”، “وأبَنَّ القوم بمحلة أقاموا بها”، وسميت الأصابع بنان لأنها سبب التمكين من الإقامة، ومنها البناء أكبر مظهر للإقامة، والبنون هم الأولاد أعظم سبب للإقامة، وهم من يقيمون مع المرء، ونسبهم ثابت لاصق بأبيهم، وكل لاصق بشيء لا يفارقه فهو ابنه، فالصبح ابن ذكاء، وكذلك هو ابن جلا لأنه يجلي الأشياء. والبِنج هو الأصل وكل أصل لشيء فهو لازمه، وبَنَكَ بالمكان أقام به.

العربية هذه محيّرة، وفيها من العقل والمنطق ما لا يظهر بالنظرة العابرة، فهل هي كما اللغات الأخرى نشأت عفوا ورهن الخاطر؟ أم إنها نشأت تحت عين ناظرة ومنطق مدبّر؟ مقتضى الطبيعة يرجح الأول، ومقتضى النظر الدقيق في بناء العربية يرجح الثاني، فالعفوية لا تأتي على أنساق مدروسة، وصدق من قال إن العقل العربي يتجلى في البيان.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.