النوروز

ما (النوروز) وما (النيروز)؟ ولمَ احتفلت ملياراتُ الشعوب به؟ أهو عيدٌ (للكفّار)؛ الوصف الذي نسبغه أعيادَ الآخر المُختلف فنجهله ونستعديه؟! كيف نفهم تراثنا الإنسانيّ بعقليّة متفهّمة متسامحة مستوعبة؟ ما علاقة (النيروز) بالخلق البشريّ ثمّ بالخلق الإنسانيّ؟ ولماذا كان عيد (الفطر) –فطر الإنسان العاقل- إضافةً نبويّة (ص) اختصاصيّةً لنا مُراكمةً عليه؟! كيف امتدّت يدُ العبث (للتقويم) الطبيعيّ، وكيف تمحو وتُعرقل الزعاماتُ السياسية (أوغسطين الرومانيّ مثلاً) والمرجعيّاتُ الدينية حقائق الطبيعة وقوانينها، وفق مصالحها وتدخّلاتها السلطويّة؟!

ما مبدأ عيد (شمّ النسيم) بمصر و(الشجرة) بالأردن؟ وعيد (السيّدة) بأوروبا و(الفصح)؛ الذي يعني تجلّي الطبيعة بموسم “الربيع” و(إفصاحها) عن (قيامتها) البهيّة، طبيعةٌ (نطقتْ) بجمالها الساحر فأطربت الشعراء، فأنشد البُحتريّ: (أتاك الربيعُ الطلقُ يختالُ ضاحكاً، من الحُسنِ حتّى كاد أن “يتكلّما”)، وانتشرت كلمة (فصح) في كلّ ثقافات وديانات الشعوب لتُنطق باختلاف الألسن وإبدالات الأحرف (فسيخ) لدى قبط مصر، و(بساح) لدى اليهود الذين طابقوه بأحداث عبورهم (نهراً)، حين (فسح) الربُّ لهم مخرَجاً من قبضة فرعون (قرية مصر)، وسمّته ملايينُ الهندوس والسيخ (بساخا)، واحتفلت شعوب التاريخ بجميع دياناتها بكونه (رأس سنتهم)، فهو لدى السومريّين (أكيتو) “الوقت”، ولدى الآشوريّين (ريس شتيم) “رأس الشتاء”، ولدى شرق أفريقيا (ريس عود عامت) “رأس عودة العام”، والصين واليابان وأوروبا بدياناتهم البوذيّة والمسيحيّة وغيرها (نيو-يير) أيْ “دورة مناخ جديدة”، ولم تعتمد أوربا (أوّل يناير) إلاّ منذ أربعة قرون، وبعضُها القرنَ الفائت لتوِّه!

سمّاه الأوائل (عيد القيامة) قيامة الطبيعة وعشبِ مراعيها، ورمّزوها بقيامة (دوموزي) بالعراق، و(أدونيس) بالشام، وقابلوها بمظاهر الفرح والابتهاج وشعائر الشكر، (“قَوْمة” قوى “الإله”) ترجمها الإغريق بعدئذ (كوميديا إلهيّة)! وجاء النصارى وزامنوا قيامة (المسيح) بعد دفنِه -كما يعتقدون- مع (قيامة الطبيعة)، فكان (فصح) الطبيعة و(قيامتها) (فصحاً وقيامةً) دينيّة، وهذا حقّ لأصحاب الأديان أن يُؤكّدوا تقديس النّعَم، ويُحرِّروها من توظيفات الانحراف وطقوس الفحش والعبث لمعانٍ راقية مرتبطة بالسماء والتبارك بنعَمها وتمتين أواصر إنسانها، هذه (القيامة) لنبتِ المرعى سمّاه القرآن (أبّاً) وجمعُه (أبيب)، وهو نفسه شهرُ الربيع “العبريّ!” (أبيب)، والذي انتحلته عاصمةُ الكيان الغاصب (تل أبيب) أي (التلّ المُعشب) لمحاكاة توارتيّة إسقاطيّة رخيصة!

ثمّ يستوقفنا أرنب (الفصح) و(البيض الملوّن) كمظهر قديم لفكرة الخلق وتكاثر الكائنات؟ فلم سُمّي الأرنب أرنبا و(رابّت) و(هِرْ) بالإنجليزيّة، بل ولماذا سُمّي الفأر فأراً؟! و(عشتار/أستار) التي صارت النجمة تُدعى “سْتار” باسمها – الرمز البابليّ القديم للقوى الكونيّة والطبيعة المُخصِّبة والمُولِّدة والجاذبة لأزواج الموجودات- ما دورُها بهذا العيد؟ وما شأنه ببرج (الحمل)؟ لماذا سمّته العرب “ربيعاً” كفصلٍ شمسيّ ووضعت لتقويمها القمريّ شهريْن ربيعيْن؟ وعيّدته عيدَ (السباسب) الخصبيّ أيضاً؟ وسمّاه السريان (نيسان) التي تعني أمّ السناء، الطبيعة السنيّة، والفينيقيّون (أبريل/أفريل) وتعني خصب الله وإثراؤه، وسمّته فارس “فَرْوردين” فورة الورد، وسمّته أوربّا “سبرنغ” .. وعشرات التساؤلات غيرها؟

أسئلةٌ سيعجز الغربيّ التحصّل على جوابها، لتعوُّقِه بثلاثةِ سدود تحجز تجرّده للحقيقة الموضوعيّة، أولّها؛ مركزيّة وعنصريّة وغروراً أوربيّاً موضعتْ أوربا جغرافياً مركزاً للعالم، تبدّى هذا في (جرينتش) وتصييرنا (شرق) أوسط! وثانيها؛ الضلالة بمنظار التوراة وتفاسير لاهوتيّيها الفجّة، وثالثها؛ إرجاع (لغاتهم) إلى اللاتينيّة وما سُمّي بالهندو-أوربيّة! حجزهم عن التطلّع -فضلاً عن الخضوع- لجذورٍ وراء ذلك.

لكن بمستطاع الباحث العربيّ الوصول لمقارباتٍ نزيهةٍ وممتعة، ما ترك تعصّبه، وخلعَ غشاوات فقه تكفير الشعوب (دار كفر)، وتكبير عدسات (الحرام)، وتبغيض أعياد الآخرين وتنجيسهم، إذّاك سيلفى بعقليّته (المحمّدية) المنفتحة، ووسطيّة أمّتنا ولاعنصريّتها تجاه الأمم، وتناصر قيَم دينها على محبّة الحكمة والخير وطلب التعارف والتعرّف، سيُمسك بناظِمٍ ينضّد الأمم على تراث واحدٍ قديم بدأ من (عالَمنا القديم)، يُؤلِّفه بالشعوب حين يشهد ربّانيّة بدايات الإرث الواحد وتسامحيّته، وأنّ مشاعر الابتهاج والاحتفال بالمواسم مهما خبا صداها القديم، كان يكمن وراءها تعليمٌ دينيّ فطريّ، يَشكر الربّ، ويُقدّس نعَمه وآلائه، ويربّي ذاكرة الأجيال على الاحتفاء ليتواصل امتنانُها.

اليوم ونحن نقف بنهاية الزمن، نحاول تلمّس بدايته يومَ (كان الناس أمّة واحدة)، قبل أن يؤولوا (شعوباً وقبائل) ويمزّقهم الاختلاف، اليوم ونحن بطوْر (التعارف)، سنَستكشف أصولَنا المنبتّة منبثّةً في كلّ الثقافات القديمة للإنسان، لذلك كان التسامح ضرورة إنسانية، وربيعاً للقلوب، قبل كوْنه خُلقاً والتزاماً.

(التسامح أن تُعطي للآخر فرصة التعبير عن نفسه وقناعته وقضاياه، حقّه كحقّك).

فاحتفالات الآخر، ينبغي توفير متنفَّسِها بالتعبير السلميّ، وتعاليم الدين الحقّ وتراث أمّتنا المجيد، يُؤكّدان أنّ (الدين) كما أنّه ليس معبراً للسلطة ومركباً للمطامع، فهو ليس لمصادرة الطيّبات ولا لشنّ التباغض وقطع التواصل، ووأد ثقافات الشعوب واحتفالها بتراثها، ولا لمجابهتها، ما دامت لم تحتفل بطقسٍ فجوريّ إباحيّ ولا بآخر اعتدائيّ، أي تحتفل محافظةً على القيَم والسلام.

رُوي عن عليّ(ع) قوله: (أهدى كسرى للنبي (ص) فقبل منه، وأهدى قيصر للنبي (ص) فقبل منه، وأهدتْ له الملوك فقبل منهم)، ورُوي أنّه (أُتي لعليٍّ بهديّة النيروز (فالوذج)، فقال: ما هذا؟ قالوا: حلوى النوروز، فقال مازحاً: نيْرُزُونا كلَّ يوم)!

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.