لقاء حول مشروع “عندما نطق السراة” بمناسبة إطلاق الأفلام

movies

س: أصدرت جمعيّة التجديد الثقافيّة الاجتماعيّة في العام 2005 ثمانية بحوث من أصل أربعةَ عشرَ بحثاً يشكلون سلسلة “عندما نطق السراة”، وأتبعتها في العام 2007 بالبحث التاسع الذي حمل عنوان “بين آدمين.. آدم الإنسان وآدم الرسول” واليوم تطلق جمعيّة التجديد سلسلة من الأفلام تُجمل فيها الأفكار التي تضمنتها تلك البحوث. فما الهدف من هذه الخطوة؟

هدفنا اليوم من إطلاق سلسلة أفلام السراة هو الهدف ذاته الذي من أجله كتبنا هذه البحوث، الهدف: هو إماطة اللثام عن العدد الكبير من الحقائق التي غُيبت أو زُيّفت إما خطأً أو عمداً، فتسبب التغييب والتزييف فيما تشهده أمتنا اليوم من تردي وتراجع حضاري أفقد الأمة بريق جوهرها الذي صنعه وشكلّه أنبياء الله ورسله (ع) والمعلّمون الأوائل.

كان همّ الإخوة والأخوات الأكبر في قسم المشاريع وقسم الإنتاج الفني بالجمعية هو تحويل المادة الثقافية إلى صور فنية معبرة؛ لإيصالها إلى أكبر قاعدة عصريّة ثقافيّة ممكنة، ولإدراكهم أنَّ صدور المعلومات على شكل صور أو أفلام موثقة، أو لوحات فنية معبّرة، يجعلها أيسر للفهم، وأبلغ في الإيصال، فكان هذا المجهود المبارك حصيلة عمل استغرق وقتًا طويلاً نظراً للإمكانيات المحدودة للجمعيّة، ونحمد الله عزّ وجلّ أن سخَّر لنا التقنية الحديثة في هذا العصر لخدمة هذا الهدف النبيل.

ونأمل أن يلتقط هذه المبادرة من أبناء الأمة الأكْفَاء، ويمد يده إلى أيدينا لكي نتعاضد سوياً ونزيح الستار عن هذا الكم الهائل من المعلومات المغيبة، وإخراجها لطلاّب الحقيقة بأجلى وأنقى صورة.

س: أعلنت جمعيّة التجديد الثقافيّة الاجتماعيّة في مشروعها “عندما نطق السُّراة” أنَّ تاريخ “السُّراة” هو أول وأضخم تاريخ يتعرض للتشويه. فما هي الملامح العامة لهذا التزوير؟

تاريخ “السُّراة” أول تاريخ: لكونه تاريخ منطقة الخلق، ومهبط الوحي، ومسرح أحداثه، ومركز انطلاقة الأنبياء (ع) الأمميّين، وأضخم تاريخ: لكونه أسّس لكل ما تم تأريخه منذ الخلق الأول ولغاية اليوم.

التزوير -عبر السلطات السياسية والدينية- قد عبث بالروايات التاريخية والمعرفيّة التي تعج بها تفاسير كتاب الله والكتب السماوية الأخرى، والتزوير نسج منظومة معرفية ممسوخة ونسبها زوراً إلى أشرف الخلق من أنبياء وخاتمهم النبي محمد (ص) أو أصحابه أو أهل بيته، والتزوير اختطف النصوص الدينية واحتكرها وشيّد لها قواعد ومناظير لا تُقرأ إلا بها.. فتشوّهت العقائد ووقع صدام الدين مع العلم وصار إيمان المؤمنين على محكّ الشكوك والتخلّف، ولقد لعنّ نبيّ الأمّة (ص) الصادق الأمين مفسّري القرآن بالأهواء والمتقوّلين عليه بالتلفيق والافتراء، والتزوير مسَّ كامل التاريخ والجغرافيا، وقد سمى السيد المسيح (ع) المزورين بالأفاعي. (يَا أَوْلاَدَ الأَفَاعِي! كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَتَكَلَّمُوا بِالصَّالِحَاتِ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ؟ فَإِنَّهُ مِنْ فَضْلَةِ الْقَلْب يَتَكَلَّمُ الْفَمُ)(متى: 12/34) وأدان النبيّ “أرميا” كهنة التزوير اليهود بقوله (كيف تقولون نحن حكماء وشريعة الرب معنا! حقا أنّه إلى الكذب حوّلها قلم الكتبة الكاذب) (أرميا 8:8(.

لم ينجُ أيّ حامل رئيسي للمعارف والتاريخ من التزوير والعبث المبرمج، الحامل المكاني والزماني والسكاني كلّها مسَّها التزوير. وكمثال؛ فتزوير قصة الخلق -خلق البشر الأوائل- دليل على تجذر هذه المأساة في وعينا، ففي حين يحسم القرآنُ الكريم مسألة الخلق الأوّل بآية حاسمة (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً)(نوح:17)، نجد في المقابل أنَّ “الجِبِلَّ من الطين” هو الذي غُرِس في وعينا، بجعل “آدم” بداية البشريّة وليس فقط بداية الإنسان! فالإنبات شيء والجِبَل من الطين شيءٌ آخر، وكلمة الإنبات تستدعي على الفور صورة الخروج من البذرة، وهو خروج البشر الأوائل من الأرض كما ينبت الحشيش والبقل والذي سيكون مثله خروجهم حين البعث وفق اعتقاد الأديان، وهذا الأمر قد أكده التراث كله. فجلجامش عندما رثى صديقه إنكيدو قال: (صديقي الذي أُحبّ عاد إلى الطين)، وفي ملحمة الطوفان البابلي قال نوح (ع): (وقد عاد البشرُ إلى الطين).

وعلى مستوى الجغرافيا تمّ نقل الأنبياء (ع) وقصصهم من مواقعهم الحقيقية إلى مواقع أخرى مزيفة، فإبراهيم الخليل (ع) الراعي شرقيّ بوادي مكة نقلوه إلى العراق وفلسطين ومصر “وادي النيل” وهو الذي كان مسرحه بادية الجزيرة العربية فحسب، وكذلك الكليم موسى (ع) الذي تربى في بيت فرعون شيخ عشيرة صغيرة ويرأس جنود حراسة القوافل.. في طريق القوافل العابرة للحجاز، موسى الذي صعد طور سينين/سيناء السراة لملاقاة ملاك الربّ، وعبر “نهراً” (بحر سوف) “ببضع مئات من بني إسرائيل” في مخاوض ووديان السراة، نقلوه إلى مصر وادي النيل وعبّروه البحر الأحمر بمليون نسمة من بني إسرائيل! وقبله يوسف العزيز (ع) أقحموه في تاريخ القبط وربطوه بقصص لا علاقة له بها، وكذلك فعلوا بأنبياء آخرين كعيسى ويونس وداود وسليمان (ع) وغيرهم، وسبقهم ما فعلوه بنوح وطوفانه، فقد عبروا به القارّات! وجعلوا طوفانه عالميا، وحمّلوا سفينته بخرافتهم جميع أجناس الحيوانات! وصيّروا الوجود البشري كلّه ينسل من أبنائه الثلاثة بعد الطوفان! وبهذا تأسّست الكذبة السامية والأصل السامي، والتقسيم الإثني للشعوب.

كانت للقبائل المهاجرة قديمًا عادة تسمى “التيمّن”، وتعنى أنَّ القوم ينقلون معهم أسماء الأماكن والأنهار والجبال والوديان والسهول والقرى والمدن والأشخاص إلى الديار الجديدة فالأنهار: الفرات ودجلة والنيل والأردن أنهار كانت جارية في بلاد السراة فنُقلت أسماؤها وفق عادة التيمن إلى الأنهار الجارية في العراق ومصر وفلسطين. فاستغل المزورون التوراتيون والمستشرقون عادة التيمن في التزوير فجعلوا قطعة الأرض الصغيرة التي تحدثت عنها التوراة في مقولة الرب للخليل إبراهيم (ع) (ارْفَعْ عَيْنَيْكَ وَانْظُرْ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ شِمَالاً وَجَنُوبًا وَشَرْقًا وَغَرْبًا، لأَنَّ جَمِيعَ الأَرْضِ الَّتِي أَنْتَ تَرَى لَكَ أُعْطِيهَا وَلِنَسْلِكَ إِلَى الأَبَدِ)(التكوين: 13/15، 16)  والواقعة بين نهري الفرات والنيل في السراة (وهي جداول موسميّة)، جعلوها -وإمعاناً في التزوير- تلك المساحات الشاسعة التي تمتد بين نهري الفرات العراقي والنيل في مصر “وادي النيل”، وأخذوا يروّجون إلى ما أطلقوا عليه بأرض الميعاد، وتمّ اختلاق تاريخ لليهود لم يكن له وجود، وسمّيت بمملكة إسرائيل في أرض فلسطين، في حين لم يكن في فلسطين يهود، فبنو إسرائيل غير اليهود، بنو إسرائيل هم من انحدروا من صلب يعقوب (ع) الذي هو “إسرائيل، في حين أنَّ كلمة يهود ظهرت على يد كهنة بني إسرائيل الذين كتبوا التوراة بعد موسى (ع) بأكثر من ألف عام، بنو إسرائيل عاشوا حيث عاش أبوهم “إسرائيل” (ع) في أرض السراة لا في فلسطين.

واختلقوا لهم لغة أطلقوا عليها “العبرية”، ولم تكن هناك لغة اسمها اللغة العبرية إلا في القرن العشرين عندما أوعزت الحركة الصهيونية للأديب الروسي اليهودي أليعازر بتأليف اللغة المعروفة اليوم “العبرية”، فقام هذا المزور بعمل أمتد لقرابة 12 عاماً وباستخدام بعض اللهجات العربية القديمة ودمجها بما عرف لدى الألمان بلغة “الأيديش” لينتج هذه اللغة التي فرضت لاحقاً على القاطنين في فلسطين المحتلة، مثلما اخترعوا نجمة داود المختلقة إبّان الدويلات القومية في أوربا، واختلقوا تاريخا وآثارا لمملكة داود وسليمان في فلسطين وقد كانا في سروات اليمن.    

س: هناك من شخّص هذا التردي في واقع الأمة، إلا أنه وجّه دفة الإصلاح إلى غير وجهتكم، فهناك دعوات للتمكن الاقتصادي أو التمكن العسكري أو السياسي أو للخلاص، إلا أنكم اتجهتم إلى جهة مغايرة تمامًا، فشرعتم برأي المراقبين في مراجعة تاريخية شاقة ومرهقة للتراث، فهل هناك من أمل في أن تحدث هذه المراجعة أي اختراق لواقعنا المؤلم؟

التمكن الاقتصادي والسياسي والعسكري مهم وجوهري، إذ لا يمكن لأمتنا اليوم وبغضّ النظر عن أسباب هذا التردي أن تتجاهل الضعف الاستراتيجي في جميع مفاصلها، فالهوان قد طال كلَّ شيء حتى أضحت أمتنا بلا قوة تواجه بها أعداءها، بل وأخذت تتآكل من داخلها، ونرى أنَّ هناك سعيا حثيثا لدى الحكومات والبرلمانات ومؤسسات المجتمع المدني والمثقفين لسد هذه الثغرات، إلا أنَّنا في جمعية التجديد الثقافيّة ومعنا العديد من المفكرين العرب والمسلمين وجدنا ثغراً لم يسدّ ولم يعالج، يتمثل في البنية التحتية لثقافتنا التي  تعرضت للتشويه وأنَّ هناك جدارًا سميكاً قد حال بيننا وبين تراثنا الحقيقي، الأمر الذي أسّس لهذا الهوان والتردّي الحضاري، ودلالة أهمّيته بدت جليّة لدى عدوّنا وتفكيره الاستراتيجي حين جلب بين يدي مقدّمته قطعان المستشرقين كمقدّمة لهزيمتنا ثقافيا وروحيّا، وذلك باختلاق تاريخ وثقافة الهزيمة والتشوّه بعقائد أمّتنا، وثقافة وتاريخ الغلبة لأممهم وعقائدهم، بدلاً ممّا كان بجعبتنا من تاريخ وثقافة وجغرافيا ومعارف حضارة العزّ والحقّ والإنسانية والأمّة الواحدة المجيدة.

لقد تمّ وأد عقائد الأمة واختطاف تاريخها والعبث بحواملها الرئيسية، ولم تنجُ حتى الرسوم والفنون والنقوش وترجماتها من السرقة والتحريف والتزوير حتى ورثنا تراثاً ممسوخاً، وأضحى من يميط اللثام عن أصل الدين وحقائق التاريخ كأنه يأتي بدين جديد، لقد تم تفكيك أساطير المنطقة، ونسبت إلى أمم أخرى من أجل هزيمة أمتنا بها، فجعلوا لليهودية مسمى أسطورياًّ لتموت الناس كل يوم باسم هذه الأسطورة المزورة.

فلسطين لم تكن  لتغتصب أو لا أقلّ ليُشرَّع اغتصابها ويُعولَم ويُقبَل لو لم يمهّد لذلك بتزوير تاريخها، وتحريرها صعب المنال لو تُرك هذا التاريخ رهن الاعتقال، فالدعم الغربي لهذا الاحتلال مرتبط بأساس أيديولوجي وأنثروبولوجي ملئ بالأكاذيب والتلفيقات، كالحقّ التاريخي لليهود في هذه الأرض وقصة أرض الميعاد التوراتية ومملكة إسرائيل المزعومة التي تم تضليل الشعوب الغربية بها.  

ومن جانب آخر نرى أنَّه ما كان لأحداث الحادي عشر من سبتمبر أو غيرها من عمليات قتل تعرض لها أبرياء باسم الإسلام أن تحدث.. باسم الحروب الدينية الخارجية أو التناحر المذهبيّ الداخلي، لو سلِم تراثنا من العبث والتزوير، فمن قام ويقوم بتلك الأعمال كان ولا يزال يستند في فعله إلى كم هائل من الأحاديث المختلقة والروايات المنسوبة زوراً للنبي الكريم (ص) وإلى فهم خاطئ للدين.   

س: الآن وبعد مرور خمس سنوات من إطلاق مشروع السراة، وبعد نشر سلسلة البحوث الخاصة بالمشروع في كل أقطار الوطن العربي، هل تحققت بعض أهدافكم؟

الطريق شاق وطويل، والتشويه في تراث الأمة قد لامس الوعي وجثم على صدر الأمة، الكمّ هائل والآثار مهولة، ما نتحدث عنه أضحى مسلمّات لدى الناس واستبدال هذه المسلمات بأخرى ليس بالأمر السهل ونحن كنّا مدركين لهذا منذ أن بدأنا عملنا، لكنّنا ندرك أيضا أنّ مسار التجهيل واستعباد العقول يعمّ بالجملة وبالتعبئة الحشدية والبرمجة الجماعية، أمّا مسار التوعية والتحرّر فلا يكون إلا فرديّا، فلذلك نحن نستهدف الأحرار أوّلا، كأفراد.. ولو كان فرداً واحداً فهو خيرٌ ممّا طلعت عليه الشمس.

والمسألة جسيمة جدّا لدرجة احتياجها لتعاضد كلّ مكوّنات الأمة لقلب الصورة لدى عامّة شعوبنا على الأقلّ، فالأخطاء ليست محصورة في محتوى كتاب أو اثنين أو كاتب أو اثنين، إنَّه تراث كامل قد طال المكتبات برمتها والعقول جميعها، وطال مناهج التعليم من المدارس الابتدائية إلى الجامعات، ليس جامعاتنا فحسب بل انسحب على مناهج التاريخ في أكثر الجامعات الغربية وجاهة وسمعة وطال الموسوعات والمراجع العلمية المرموقة.

نعم، هناك حراك قد أحدثته هذه المنظومة التي أطلقتها التجديد قبل خمس سنوات، لكنّه حراكٌ متواضعٌ نظراً لحجم القضية التي نتحدّث عنها ومحوريتها في التأسيس لواقع أمتنا المتردي، إنَّ كشف الغطاء بشكل كامل وإماطة اللثام عن حجم الضرر الذي تعرض له التراث سيحدث زلزالاً ثقافياً وسياسياً فيما لو تمَّ توجيهه بشكل سليم وصحي.

العدو المتربص قد أحكم وِثاقه بهذا التزوير، فجعل أيّ كشف له إنَّما هو تعرضٌ للمقدّسات والعقائد، وما بدعة “الساميّة واللاسامية” وإشهار سيف “الهولوكوست” وغيرها من قيود وتكميمات إلاّ ليبث الخوف والهلع من خلال الإيحاء بأنَّه تطاول على الدين وتحريف للمقدّسات وإنكار للحقوق المشروعة! وساعده الجهلة من حملة راية الدين في حصاره الفكري لأمتنا، وكان حرياً بهم التصدّي لهذا العدو لا دعمه بحجة الحفاظ على المقدّسات فناهضوا التجديد.

ولكننا نرى أن لا شيء يمكنه وقف هذا المدّ الجارف من الحقائق التي أخذت تتكشف يوماً بعد يوم “إِنَّ اللَّه بَالِغ أَمْره”، ولا بدَّ لهذه الأمة من قيام لتعود كما كانت “خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ“.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.