الحلقة الأولى: أساس الطائفية تقليد الأموات

تقليد الأموات

مدخل: الوحدة مطلب:

قامت دعوة الإسلام أول ما قامت في مجتمع مكة المكرمة، وهي مدينة تجارية تعج بأصناف من الأجناس والطبقات، فكان فيها سكانها الأصليون من قريش وهم عرب سادة، وكان فيها العبيد من مختلف بلدان العالم المجاورة، منهم العرب والأفارقة والفرس، وكان فيهم الموالي المستجيرون بالعرب، يمارسون التجارة، ويدينون بالموالاة لطرف من القبائل العربيّة طلباً للحماية، فمن الناحية العرقية تجد في مكة العربي القرشي، والعربي غير القرشي، وتجد الرومي، وتجد الحبشي والفارسي والهندي، وغيرهم حتى وجدنا آثاراً لهم تذكر في أوائل الصحابة، منهم بلال وصهيب وسلمان، وقد كان قائد فرقة قارعي الطبول في المعسكر الإسلامي هنديّاً.

ثم تجد بين هؤلاء اختلافاً طبقياً، فمنهم التجار من ذوي الثراء، ومنهم المتاجرون الصغار، ومنهم العبيد العملة، ومنهم أصحاب المهن، والمشتغلون بالحماية؛ مجندون لحماية القوافل والشخصيات، ولم تكن ممارسة المهن مقتصرة على غير العرب، بل كان العرب القرشيون يمارسونها، فالتاريخ يذكر لنا أن العاص بن وائل، والد عمرو بن العاص، وهو قرشي، كان جزاراً وكان يُعرف ” بجزار قريش”.

عند ما انتقل الإسلام للمدينة المنورة، التقت على أرضها المباركة ثقافتان تمثلان تنوعاً حضريّاً، فالمهاجرون حتى العبيد منهم كانوا يعيشون في مجتمع مدني تجاري، أكثر تمدناً من مجتمع ” يثرب “، التي كانت تجمعاً للفلاحين المشتغلين بالزراعة وتجارة المحاصيل المحلية، فكانت ثقافة أهل المدينة زراعية، عملا وسكنًا ولباسًا وطعامًا ، ولهم عادات الفلاحين، فلم تكن لبيوتهم كنائف يقضون فيها حاجاتهم، وإنما كانوا يخرجون لأماكن عامة مخصصة لذلك، منها ما هو للرجال ومنها ما هو للنساء، ولم تكن عندهم عادات النظافة والاغتسال التي عند المكيين، فكانوا يحضرون الصلاة بغير غسل مما يثير في المسجد روائح العرق، وكان طعامهم أبسط وأقل تمدناً من أطعمة مكة، وحتى عاداتهم الجنسيّة في المعاشرة كانت بسيطة، على عكس المكيين الذين كانوا يمارسون الجنس بطرائق متنوعة، وكل هذا أحدث بين المهاجرين والأنصار بعض الاحتكاكات اليومية، كان الدين يقوم بحلها عبر التوجيهات النبوية والقرآنية، كما جاء في أسباب تشريع الأغسال، وكما نزل في وصف العلاقة الزوجية في الجنس، وكما ورد من خبر عائشة عن حديث الإفك.

إذاً فدواعي الفرقة والاختلاف بين المسلمين في بداية الدعوة كانت كثيرة ومتنوعة، عرقية وطبقية وحضرية وثقافية، ولكن الإسلام كان حريصاً على ترسيخ الوحدة بين المسلمين فوق كل الاختلافات الخلقية والخلقية، المدنية والثقافية، فكان نداؤه فيهم (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا )(آل عمران: 103)، فالوحدة بين المسلمين مطلب حاكم يعلو على أيّ مكون خاص لفئة من المسلمين، مهما كان هذا المكون، ولا يجوز أن يشق عصا الوحدة إتباعاً لعنصر من عناصر التفريق والتمييز، صحيحاً كان هذا العنصر أو خاطئاً، طبيعيّاً أو مفتعلاً، وسواءً كان طبقياً أو عرقياً أو ثقافياً أو فكرياً، فكل أنواع التنوع الصحيح والطبيعي والعفوي، هي تحت سقف الوحدة، أو كما يقال التنوع ضمن الوحدة، وإلاّ فهي خطوة شيطانية نحو الفرقة والاختلاف كائناً من كان قائدها، وعى ذلك أم لم يعه، فالوحدة مطلب حاكم، يجل عن يعلوه أحذٌ بسبب أو علة.

و حتى لو كان يعتقد أن الأمة فارقت التوحيد، فإن اعتقاده هذا، لا يسمح له بالخروج عن وحدة الأمة والانتماء إليها، بتكفيرها وبالخروج عنها أو عليها، فحدود الاختلاف والتنوع تظل محتملة مادامت تحت سقف الوحدة والاعتصام بحبل الله، فإن انشقت على ذلك فهي خروج إلى وادي الشيطان.

الطائفية ارتهان للأموات:

لو تأملت في الطائفية التي يراد لها أن تكون عامل شق لوحدة المسلمين، لو جدتها تقوم على أساس ثقافي خاطئ، عمدته تقديس الأولين من صالحي الأموات وعلمائهم ومفكريهم، فكل طوائف القرن الخامس عشر الهجري، هي مرتهنة بمذاهب وآراء لرجال في القرون الثلاثة الأولى للهجرة النبوية، تابع فيها الخلف ما رسمه السلف لأنفسهم وزمانهم، فكان خلفهم من المسلمين يجرّون لأنفسهم ذلك الزمان، أينما مضوا وحلوا في الزمان والمكان وإلى اليوم، قد تختفي لفظاً أو تتبدل ولكنها في الجوهر لا تزال هي هي، فالمذاهب الكلامية من أشاعرة ومعتزلة وأصحاب الأمر بين الأمرين، والمذاهب الفقهية من حنابلة ومالكية وغيرها، والمذاهب الشاملة من سنة وشيعة وخوارج وزيديه وإسماعيلية، وأصحاب الطرق الصوفية، وسائر ما عند المسلمين اليوم من كامن الفكر ومعلنه، متوار في الكتب أو معلن على الألسن، إنما بدأ وتكون في القرون الثلاثة الأولى، ثم توقف المسلمون عليه ورهنوا حياتهم به جيلاً على أثر جيل، يبالغ بعضهم في ذلك حتى يرى أنه لو خالف السلف في شيء لضل عن الهدى، ويتخفف بعضهم فيه ليسمح لنفسه بمخالفة السلف في آرائهم، ظاناً بذلك أنه قد خرج عن إسارهم، ولكنه في الواقع صار نسخة جديدة ضمن موروث قديم، فقد يكون شافعياً جديداً أو ابن حنبل جديداً أو مالكياً جديداً أو غيره من عظماء الماضين، ولكنه يظل جنينا من القرن الثاني ولد في القرن الخامس عشر، يحكمه ما كان يحكمهم من أصول ومساند وتعيينات ومسلمات لا يخرج عنها، إن المسلمين المحافظين في الحقيقة نسخ مشوهة أو منقحة للقرون الثلاثة تسير في فقاعتها عبر مراحل الزمن.

في تلك القرون الأولى التي تستنسخها الأمة إلى اليوم، واجه رجالها وعلماؤها ومفكروها موجة معارضة من محافظي السلف، حيث كانوا يريدون إلزامهم بما سمعوه وروه عن التابعين والصحابة الأولين، فكانت هناك مساجلات بينهم وبين سلفيي زمانهم، يدافع هؤلاء فيها عن حقهم في الخروج عما التزم به الصحابة والتابعون من أهل القرن الأول، ويهاجمهم الفريق الثاني على خروجهم هذا عنهم، وادعائهم أنهم أعلم من السلف، الأمر الذي لا يزال بعض المتشددين المغالين في السلفية يرفضون فيه كلَّ الفكر الذي أنتجه المسلمون في نهضتهم الكبرى في القرن الثالث والرابع ويعتبرونه خروجاً عن سمت التابعين.

وكان الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود سلفياً محافظاً، فمع أنه من أهل القرن الأول إلاّ أنه كان يتشدد في الاقتداء بالأحياء من الصحابة، ولعل استمالة السلطات لهم وإقبال بعضهم على الدنيا والتجارة ورغد العيش هو ما دفعه لهذا التشدد، فقد روى عنه أنه كان يقول في الاستنان بالصحابة ” من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحيَّ لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد (ص) كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم1

وعنه أيضاً روى قول رسول الله (ص) ” خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم2” وروى عنه قوله ” إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد (ص) خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد (ص) فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون ( الصحابة ) حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيئ 3

وكان المتمسكون بالإتباع دون ” الابتداع “، يرفضون علماء الكلام وعلم الكلام، ويصرون على أن الصحابة والتابعين كانوا أعلم بالله منهم، حيث كان كلامهم قليل العبارة كثير البركة، على عكس كلام علماء الكلام، كثير العبارة قليل البركة، كما عبر عن هذا المعنى صاحب العقيدة الطحاوية، وشارحها الشيخ الدكتور سفر الحوالي، فكان المتشددون من السلف منذ القرن الأول يرفضون الخروج عن سمت أهل ذلك القرن، ولكن رجال زمانهم قد خالفوهم في ذلك فكانت الثمار المذهبية والثقافية التي ازدهرت في القرنين الثاني والثالث ووراءهما القرن الرابع، هذه التي نتوارثها نحن اليوم ونأبى الخروج عليها، كما خرجوا هم عن صالحي سابقيهم من الصحابة والتابعين.

يتمسك السلفيون بضرورة التمسك بإتباع نهج الصالحين من السلف، وبضرورة عدم الخروج عن سمتهم وأخلاقهم وفكرهم وسلوكهم، ويتشدد البعض فيبلغ في ذلك حد لبس ما لبسوا وأكل ما أكلوا، والتسمي بأسمائهم، والتزيي بزيهم والتداوي بدوائهم، معللاً ذلك بأنهم خير القرون، ولعمرك إن كان مراد الحديث الإخبار بحقيقة كائنة فيهم فإن التشبه بهم لن يلغي هذه الحقيقة فقد مضى بها أهلها وسيظلون هم خير القرون، والحق أن الأمر ليس كذلك، فلم يكونوا خير القرون لأنهم قد لبسوا أو شربوا أو تحدثوا وفق أنماط محددة، بل لأنهم كانوا نعم المؤمنين العاملين في سبيل قضيتهم التي كلفوا بها، والقرون التي لحقتهم قد تخلت تدريجياً عن حمل القضية، وخير قرنٍ يأتي بعدهم ليس أبناءهم، بل قوم آخرون في آخر الزمان يبدأ بهم الإسلام من جديد، لأنهم يحملون رسالته وقضيته كما حملها الأولون إيماناً وصدقاً، فليس عبثاً أن يثبت الحديث حرف “ثم ” الذي يفيد الاسترخاء، وهو هنا استرخاء طويل مدته.

إن خيرية القرن الأول والقرن الأخير ليست عائدة لثقافة وفكر وسلوك ينبغي التمسك بحذافيره، وإنما لمجموعة القيم الطيبة الحاكمة لهذه التفاصيل، وإلاّ فإن آخر القرون سيختلف فكراً ومنهجاً وسلوكاً بما لا يقارن بالقرن الأول، فهو قرن القمة في العلوم والتكنولوجيا والأخلاق والروحانية العالية، ولكنهما كقرنين حملا لواء هداية الناس والدفاع عن المنهاج الرباني في الرسالة الخاتمة فنالا شرف خير القرون.

البدعة في الدين:

لقدولعالمذهبيونمنالمتمسكينبإتباعالآباءبتبديعمخالفيهمفيالرأي،فنسبواكل رأي مخالف للنصوص في فهمهم، أو لقول الأسلاف، إلى الابتداع في الدين وبالتالي فهو ضلالة، ومن ثم فإن الهدى يكون حتما في الإتباع للسلف، هذا سيف تراه يقطع يمنة ويسرة فيكفّر ويفسّق كلُّ رأي مخالف، وهذه كتب قد بثت فيها دعاوى التبديع لأجل كل خلاف عقيدي أو فقهي، فهل الاختلاف في فهم النصوص أو قبولها أو ردها هو البدعة في الدين؟ وهل ينبغي النظر لكل جديد على أنه بدعة محرمة؟

إن سيف البدعة قد سل ضد كل رأي مخالف، وشُحذ ضد كل رأي جديد، فأهل التجديد رقابهم مقطوعة به، لا يكادون يقولون قولاً مخالفاً للسلف حتى تعلن فيهم محاكم التفتيش أحكامها بالهرطقة والابتداع، وليس الأمر إلاّ لأنهم قد خالفوا الموروث، وقالوا ما لم يقله أحد الأسلاف، سواءً في فهم نص أو قبوله أورده، فالسلفية تحفظ حريمها بمحاربة كل جديد، وأول ما يقال في الجديد أنه بدعة محدثة فهو ضلالة، وشر الأمور محدثاتها، يريدون بالمحدث كل جديد، يتساوى في عقلهم الحديث مع الخطأ والضلال، وكأنهم يكابرون مضاديهم من أهل الحداثة، الذين بالغوا فيها فجعلوها مساوية لكل تقدم وصواب، فكأنما تقدم الآراء أو تأخرها زماناً يلزم منه صوابها أو خطؤها، ضلالها أو هداها، وكلا الحالين ضلالة وخروج عن التفكير العلمي، الذي لا يعرف دليلاً على الحق إلاّ موافقة الحق والواقع في نفسه.

إن فهم البدع والمحدثات بأنها كل أمر خالف المروي المقبول عند علماء الأمة من السلف والخلف، هو نفق يقود نحو الجمود وعبادة الأسلاف، والتمسك بحذافير غير كتاب الله هو انحراف عن الجادة ، فلا كتاب في الدين قطعي الصدور ملزم سوى كتاب الله، أما السنة فهي ظنية الصدور، وأما الدلالة فهي تظل في كل الأحوال ظنية، وواجب المكلفين النظر في دلالتها بحسب اجتهادهم وسعة قدرتهم، ومن هنا ليس هناك نص في الدين يتمتع بالحجيّة الدائمة كنص قطعي الصدور عن الله ورسوله سوى القرآن، ومادام الأمر كذلك فكل فهم يقوم على البرهان في فهم كتاب الله، وفي قبول أورد نص من السنة أو في فهمه فهو شرعة مفتوحة في الدين، وأما أفهام العلماء وآراؤهم فآراء رجال تصيب وتخطئ، تحيا وتموت.

إن مشايخ الدين قد أسرفوا في تبديع كل مخالف لمذاهبهم في جزئيات أحكام الشرع وتفاصيل العقائد، ولكنهم سوّغوا و شرَّعوا أكبر البدع في السياسة المخالفة للدين والسيرة النبوية، ومن أعظمها إحقاقهم لبيعة سلاطين الغلبة بالظلم والعدوان، وإقرارهم لتولي الخلفاء بالتوريث، وهي أعظم بدعة أموية لا زالت قائمة في الأمة إلى اليوم، فلم يكتف المشايخ فيها حتى جعلوها بيعة شرعية أوجبوها على المسلمين، وشرعوا معها كل أثرة في حقوق الناس، وألزموهم للطغيان بالسمع والطاعة، وأمروهم بأداء حقوق الطواغيت وأهل الأثرة، ثم التوجه لله بالدعاء أن يلين قلوب الذئاب لترد عليهم حقوقهم، هكذا، ثم يتشدقون بمنع البدع!.

ينبغي التمييز في شأن البدع بين حالين كما صرح بذلك العلماء، فإذا كانت البدعة هي ما كان مخترعاً على غير مثال، أو إحداث ما لم يكن في عهد النبي (ص) ثم تجدد بعده فهي بهذا المعنى لا تكون محرمة إلاّ إذا كان ما أحدث محرماً مخالفاً لقواعد الدين وأصوله، ولقد قسمها العلامة الحلي بحسب حالها إلى خمسة أقسام موافقة لحال الأحكام الشرعية فقال ” والطريق إلى ذلك أن تعرض البدعة على قول الشريعة فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة كالاشتغال بعلوم العربية ( لطالب الشريعة )، أو في قواعد التحريم فمحرمة، أو في الندب فمندوبة كإحداث المدارس، أو الكراهة فمكروهة كزخرفة المساجد، أو الإباحة فمباحة كالتوسع في اللذيذ من المآكل والملابس والمسكن، وتوسيع الأكمام ونحوها ” 1.

وأما الحُمس الذين يريدون التمسك بحرمة كل ما لم يكن على عهد رسول الله فإنهم مكابرون إذ لا شيء اليوم مما كان على عهد رسول الله (ص).

وأما إذا أريد بها خصوص المعنى الاصطلاحي وهو ” الزيادة في الدين أو النقصان منه ” أو ” أحداث في الدين ما ليس منه “، أو خصوص القسم المحرم فهذا لا نقاش في كبراه، وإنما النقاش في الصغرى، فلا ينبغي تبديع كل رأي مخالف بدعوى أنه إحداث في الدين أو زيادة فيه، لأجل أن يسوغ اتهامه بالبدعة المحرمة، إلاّ أن يخالف قيم الدين ومقاصده من قبح الظلم وسوء عاقبة الفواحش، وحرمة هدر حقوق الناس، إلى سائر القيم الجامعة لكل المسلمين، ليظل كل مجتهد تحت مظلة سقفها دون أن تقفز بنا الاجتهادات إلى خارج منظومة القيم، كما فعل بالأمة من شرعوا البيعة المزيفة والشورى المزيفة فصادروا حقوق الأمة السياسية، فمن خرج عن قيم الدين ومقاصده فهو المبتدع، وأما من جاء برأي جديد ضمن منظومة القيم الفاضلة فهو اجتهاد محمود ولو خالف كل الأسلاف والصالحين، سواء أصاب أم أخطأ، إذ لا خطر على الأمة من الأخطاء التي تظل تحت سقف القيم والمقاصد الشريفة.

لقد انشغل مشايخ الدين بالثمرة وضيعوا الشجرة، فتبادعوا في أحكام الفروع وتساهلوا في الحقوق العامة التي بدأت في تبديلها وإهدارها الدولة الأموية فألغت البيعة والشورى، ورفضت حق الاعتراض والمعارضة، فكان كل مخالف عندهم صاحب فتنة، وأثبتت الأنساب بالسياسة، واستباحت الدماء والأعراض بها، وفتحت باب الانقلاب على الحكومة المنتخبة، واستباحت أقدس الأماكن المقدسة بحجة محاربة الخارجين على النظام، واستباحت حرمات المسلمين عبر الغارات العسكرية التي تستهدف المدنيين الآمنين، واستحلت سلبهم وهتكهم بدعوى إزعاج الخصوم، إلى ما سوى ذلك من الفظائع التي لم تمنع رجال الدين من الإقرار لمعاوية بصحة الخلافة، وبدع دولته إلى اليوم سنن في الإسلام والمسلمين، يدافع عنها عشاق السلف (الصالح )، ولا عجب فليس هناك سلف غير صالح إلاّ من عارض أمثال هذه البدع الخطيرة، وقد صدق الرسول (ص) حين قال كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً… كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف فلعن الله التعصب الذي جعلنا جميعاً نبيض الأسود ونسود الأبيض دون تأنيب من ضمير.

إن اتخاذ السلفية منهجاً في معرفة الحق والباطل – وهو ما عليه كافة المسلمين اليوم – هو في نفسه طريق باطل، يخالف صريح القرآن الكريم الذي بكّت على من قالوا أنهم ألفوا آباءهم على ملة فهم على آثارهم يهتدون، فالقرآن يرفض أصل اتخاذ هذا المنهاج منهاجاً، فليس هناك من وجه لقبول هذا المنطق، إذ لا دليل على صحة آلية إتباع الآباء في الاهتداء للحق، فأصل هذا المنهاج هو مجرد وهم، وهو لا يقوم على منطق سليم، لا لأجل أن الآباء ضالون فهذا إن حدث فإنما يزيد الطين بلة، بل لأن التقليد في حد ذاته لا يصلح سبيلاً للعلم ومعرفة الحق، فهو فاسد وإن أصاب.

وقد رفضه كل العلماء سبيلا في معرفة الحق، وأوجبوا على كل مكلف أن ينظر بنفسه في عقيدته ويحدد موقفه، ولم يجيزوا التقليد إلاّ للعوام، وفي تفاصيل فروع الأحكام، حيث لا تتيسر معرفتها لكل أحد، فالدين نفسه يثبت فساد منهاج التقليد في أخذ الدين وعلوم العقيدة والقيم الدينية، وإن كان كل أهل الدين إنما يتبعون عملياً ما ألفوا عليه آباءهم فهم على آثارهم مقتدون.

لقد بات لكل مذهب منبع، منه يجري نهره ( بالعلماء ) فالأزهر منبع يجري منه صنف من العلماء يحافظون على مذهب أو مذاهب محددة من السلف، ومكة والمدينة منبع يجري منه سيل من (العلماء) يحافظون على منهج معين من مناهج السلف، والنجف وقم منبع لنهر من (العلماء) يحافظون على مذهب من مذاهب السلف، وهكذا لكل مذهب وفرقة منبعه في عمان واليمن والهند وغيرها، يتداولون بالتصحيح والإسناد إرثهم الذي ورثوه جيلاً بعد جيل، ما يعبدون إلاّ كما يعبد آباؤهم، ثم يدَّعون أنهم علماء، مع أنهم كلهم مقلدون لرسوم أسلافهم يجتهدون – إن اجتهدوا- ضمن حوزتهم المنيعة، ويعتبرون الخروج من صندوقها خروجاً إلى ميادين الضلال.

إن اتخاذ إتباع السلف منهجا في التفكير باطل، وإن كان هذا السلف صالحاً، فصلاحه في نفسه لا يعني صلاحه لمن بعده، إذ لكل جيل ما يصلحه وما يصلح له، واقتحام السلف حياة الخلف جمود للخلف وإهانة للسلف، حيث مع الأيام يغدوا ما اعتادوه من عوائد في الدين غير متوائم مع الحياة، فالسلف الصالح كالميت، كرامته في تعجيل دفنه، والاحتفاظ بذكراه وجميل محاسنه وقيمه.

إننا لا نريد أن نقول بأن الحياة تسير نحو التقدم في خط مستقيم كما يزعم التقدميون، زاعمين أن كل لاحق لا بد وأن يكون أفضل من السابق بضرورة التقدم الزمني، وبالتالي فالسلفية رجعية وكل رجعية تخلف، كلا وإنما من الواضح أنه لا علاقة للسلفية بالصحة والخطأ، ولا بالهدى والضلال، فما أكثر الضلال في الأسلاف وما أكثر الهدى عندهم، فللهدى والضلال قواعد عقلانية وأحكام علمية إذا ثبتت للأمر كان الحكم عليه.

هذا من ناحية ومن ناحية أخرى لابد من الوقوف بروية حول الطبيعة التراكمية للفكر وبالتالي الطبيعية النسبية لتجليات الحقائق، فالحقائق الإنسانية هي دائماً نسبيّة لا بمعنى أنها تتحول من الحق إلى الباطل كما يزعمون، فيرجفون بأن ما كان يوماً يمثل الحق يعود مع الزمان باطلاً، لأنه لا حقيقة خارج العقل أو اللغة موضوع السجال الطويل في الفلسفة الغربية، ولكن الحق أيضاً أنه لا يوجد وقت تكتمل فيه تجليات الحقائق، وأن كل ما نحيط به في حياتنا مهما سمى، هو إحاطة منقوص ، فبهذا المعنى نحن لا ندرك من الحقيقة أيّاً كانت إلاّ الطبقات التي تمكنا من اكتشافها ومعرفتها، وأما هي فأشبه أحياناً بالبصلة اللانهائية، كلما كشفنا طبقة ظهرت لنا طبقة أخرى من تحتها، أو أشبه بمسار لا ينتهي ولا ينفك يريك جديداً ويُبلى جديداً، حتى أنه يمكن أن يقال أن كل جيل لا يدرك من العلم إلاّ قليلاً قياسا للعلم الممكن في الأشياء، وإنه لم يعرف حقيقة ذلك الشيء إلا بمقدار، وأن مفهوم الشيء قد تبدل بتراكم أسراره، خذ مثلاً على ذلك الخلية الحية أو الذرة، فعلى ما كان يبدو من بساطة تركيبها وسذاجته عند أول المكتشفين، فهي لا تزال تراكم من العلوم والأسرار ما أقنع العلماء بأن الأسرار لانهاية لها، ولا يقتصر الأمر على الماديات، بل هو في كل الأشياء وكل الأمور، فلا يوجد في الوجود أو في العلوم موضع لا يمكن النبش فيه عن أسرار جديدة، فالعلوم لا نهائية.

إن هذا الأمر ناتج من طبيعة علم الله سبحانه فهو لانهائي، فعلم الله في كل شيء ليس له نهاية، وما يحيط به الإنسان بالتالي لانهاية له بحسب المشيئة الإلهية، وقد رمز القرآن لهذه اللانهائية بمثال جميل فقال (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً) (الكهف:109) وقال ( وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (لقمان:27) هذه الصورة الرمزية تكشف لنا عن لانهائية علم الله وبالتالي لانهائية علم البشر، لأنهم إنما يحيطون من علمه بما شاء لهم. فكل حقيقة يدركها الإنسان هي دائماً قابلة للزيادة والتراكم والإضافة إلى حدٍ يمكن أن يقال للحال السابقة عليه أنها كانت مجرد جهل طفولي.

هذه الحقيقة تتجلى في تتابع الرسل والكتب السماوية، وتتجلى في الأمر القرآني بالبحث والسير والتدبر والاستدلال، وتتجلى بمغريات الأسرار التي لمح لها القرآن داعياً لاكتشافها، كمثل سير الجبال التي تُرى جامدة، وكيفية بدء الخلق، وحتى في مجال الحكم القضائي ضرب مثلاً لتطور فهم سليمان عليه السلام عن فهم داوود عليه السلام، لما حكم في غنم القوم التي نفشت في زرع قوم آخرين1، فقضاء داوود كان هو الحكم الشرعي قبل أن يدلي سليمان بحكمه، ثم لما تكلم وتبين الحق في كلامه فهم داوود أن نطق ابنه هو تطور وتجديد سماوي للشرع جاء على لسان ابنه سليمان، وهكذا الأمور تتطور وتتجدد، ولكل حكم شرعي مناط فإن كان صالحاً لتحقيقه وإلاّ فقد انقضى زمانه مفسحاً لما هو أصلح منه، وهناك أمر قرآني عام بإتباع ما هو أحسن، والأخذ بما هو أحسن وقول ما هو أحسن2، وأحسن فعل تفضيل وهكذا كل الأمور متفاضلة، فمهما اكتشف الأحياء وجهاً هو أحسن مما وجدوا عليه آباءهم فالواجب أن ينتقلوا إليه، لا بل الواجب أن يبحثوا عنه قبل أن يجدوه لأنه دائماً موجود.

إن تطور العلوم الإنسانية يسمح بتطور الأحكام الشرعية، لأنها تخاطبه على قدر عقله، فلو كان مجتمع داوود وسليمان حين الحكم في قضية نفش الغنم في الزرع قد عرفوا التبادل بالعملة المسكوكة، لأمكن للشرع أن يحكم بالتعويض المادي، الذي هو يمثل العدل وسهولة الحكم في آن واحد، لا بل لو أن مجتمعهم قد بلغ من التطور بحيث يصبح المشتغل بالماشية غير قادر على تدبير الاشتغال بالزرع ولا العكس كما هو حال المجتمعات المتطورة اليوم، حيث لكل أمر منهما خبرات معقدة تخصه، لو كان الأمر كذلك لكان حكم سليمان فاسدا وضارا بأهل الضرع والزرع معا، ولكن الأمور كانت بسيطة يومها.

إن الحكم الشرعي هو موقف من حركة الواقع، والواقع لا تنتهي سيرورته، ولا تتحد مظاهره في كل بقعة وصقع، ولهذا فمن البديهي أن نقبل بتغيير الحكم الشرعي متى ما تغير الحال الموضوعي الذي برره.بل قد يموت الحكم الشرعي بموت واقعه الذي كان، فمثلا كان يستحب غسل اليدين (الكفين) ثلاثا قبل إدخالها الإناء بقصد أخذ ماء الوضوء، ويومها كان هذا الحكم مفعّلا على نطاق واسع بفعل طبيعة مصادر المياه وطبيعة احتجازها بالأواني، أما مع نظم التصريف الحديثة التي تسمح بالأخذ من الماء عبر الصنابير من غير إدخال فلا مبرر لبقاء الغسلات الثلاث المستحبة.

وفي مجال غنائم الحرب كان المجاهدون يعتمدون على جهازهم الشخصي أو الذي أعانهم عليه المجاهدون بأموالهم، فمن الطبيعي أن يستحقوا أربعة أخماس الغنيمة، أما في الجيوش الحديثة فلا معنى لتوزيع غنائم الحرب على المقاتلين والدولة تنفق عليهم وعلى أسلحتهم في زمن السلم، ثم كيف تقسم الدبابات والصواريخ والطائرات والرادارات على المقاتلين؟ لا شك أن تبدل الحال يسمح بتبدل المقال.

وخذ على ذلك مثلا واضحا في ذهاب نظام العبودية، فلا شك أن من واجب الدين اليوم أن يؤمن بحرمة العودة لمثل هذا النظام الذي أشار هو نفسه منذ أول يوم إلى شذوذه وكراهيته وانحرافه عن الطريقة السواء. وهذا يلغي من الشريعة قسما كاملا كان يخصص لأحكام العبيد والإماء والمولدين وأمهات الأولاد، من نواح متعددة في حقوقهم وعقوباتهم وميراثهم وغير ذلك. كذلك يمكن اليوم إعادة القول في حكم صلاة المسافر لما تبدلت طبيعة السفر، وفي حكم سفر المرأة والصبي وحدهما.

إن الشرع كان حركة في الواقع وكذلك ينبغي أن يظل، واتهام التجديد بالبدعية يحبس الدين والمجتمع عن المواكبة ومن ثم يوقعه في التخلف، لأن الواقع لن يقف لنا. ولقد وصف الله سبحانه عباده الحق بأنهم الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وعزى ذلك لاتصافهم بأولي الألباب أي الذين لهم عقول تأخذ بلب الأشياء ولا تنخدع بقشورها، فإن الأقوال تتفاوت في الحسن والمؤمنون مطالبون بالتحول من كل حسن لما هو أحسن، وهي حركة سيرورة لن تتوقف حتى يرث الله الأرض.

إن القضاء الشرعي الديني إلى اليوم ليس له من الأدلة الشرعية إلاّ وسيلتان متوفرتان وهما البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، ولو قرأت كتاب القضاء لوجدته معتمداً على مثل هاتين الأداتين اعتماداً كاملاً، والبينة فيه لا تتعدى الشهود، لم تتطور على ذلك كل هذه الدهور، لماذا؟ لأن السلف ظل يقدس أدوات السلف حتى صار الشهود هم البينة،على الرغم من أنها واقعًا من أضعف الدلالات في القطع بالحق، ولهذا لجأ الدين للتهديد باليمين، وعزز ذلك بتهويل آثار اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في النار، ولو أن المسلمين أسقطوا حرمة دلالة شهادة الشهود في معرفة الحق، وناقشوها بموضوعية لا تهتز أمام الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، التي لم تأمر بالشهادة إلا لكونها الأمر المتيسر وقتها، لا لأنها الدليل الذي لا يعلى عليه، لأمكن لهم أن يطورا البينة إلى كل ما عرفه سواهم في العالم من أدلة الجنايات التي هي اليوم تخصص بحاله. ولكن تقديس الأسلاف مقبرة الأحياء. لقد كان الدين دائماً هو من يقود الإنسان نحو التقدم ولكنه اليوم بفعل التمسك بما كان عليه الآباء الأموات صار يعير بالجهل والتخلف.

ما جعلت الشريعة إلا لتواكب قضايا الناس، فمتى ما تغيرت موضوعاتها وجب أن يتغير حكمها، مسترشدين في ذلك بقيم الدين ومقاصده، مستعينين في تشخيص المصالح والمفاسد بعلم الإحصاء، والذي هو أداة محايدة ، فمهما ثبت بالإحصاء أن تشريعا ما بات قاصرا عن أداء المصلحة المتوخاة منه، أو أن مفسدة قد نتجت عن تشريع منها وجب التحول لما هو أحسن، بغض النظر عن موافقته للسلف أو مخالفته لهم، بل وبغض النظر عن كونه موافقا للرواية أو مخالفا لها، فالرواية إنما أرادت إن صحت مداواة أدواء زمانها، فالدين له قيم و أصول جامعة لا يخشى عليه بعد ثباتها من تبدل التفاصيل،فسيظل المسلمون مسلمين، عددوا الزوجات أم أفردوها، تزوجوا المتعة أم حرموها…

إن أعظم ما ينبغي علينا، أن نسقط قدسية كل فكرة، فنجعلها قابلة للنقاش والبحث والتطوير، مهما بدا أنها الغاية ولا شيء وراءها، لأنه حتمًا هناك شيء وراءها، فالعلم ما لم يكن ضارًا بالناس فهو محمود، فالهلال يثبت بشهادة الشهود بالأمس، ولكنه يثبت بالحساب اليوم، والولد للفراش وللعاهر الحجر بالأمس ولكنه يثبت بالفحص الجيني اليوم، ولا يعلم ما في الأرحام إلا الله بالأمس، ولكنه يمكن تحديد الأجنة اليوم، كل شيء سيظل قابلا للتغيير ما دام الله سبحانه الذي كل يوم هو في شأن يزيد في إحاطة الإنسان من علمه بما شاء، ولأن علمه سبحانه لا حد له فينبغي على المسلمين أن يتجرؤوا في البحث دون خوف من أو على أي مقدس.

اليوم ليس المعروفون اصطلاحاً بأهل السلف هم السلفيون فقط، بل الأمة كلها سلفية، تمسك كل فريق بغصن من أغصان القرون الأولى وظل عليه يرعاه ويحميه ويسقيه وينميه، ويكاثر فيه الأعداد بتوالد الأولاد بعد الأولاد حتى تحول الرأي أو المذهب إلى طائفة من المسلمين تتبعه وتأخذ بمذهبه، ومع أنه لا يقول أحذٌ بعصمة هؤلاء، بل ولا بعصمة الصحابة، إلاّ أن أحدًا لا يجرؤ على الخروج على ما رسموه، بعد ما تقدس في النفوس وصار ديناً، بعد ما كان مجرد رأي لإنسان من صالحي المسلمين أو مفكريهم.

ليست السنة وحدها سلفية، بل كل المسلمين اليوم سلفيون، والفارق الذي كان بينهم يوم بدءوا لازال على حاله إلى حيث انتهوا، فقد طويت الأقلام وجفت الصحف، وعقمت الأمة، شيعة أهل البيت هم سلفيون بامتياز أيضاً، ينقلون ما روي عن أئمتهم في القرون الثلاثة الأولى ويتوارثونه، ويتحركون فكراً وعلماً وإنتاجًا في حدود ما عقلوه منه، بل قد وجد فيهم من المتشددين في السلفية كما وجد في السنة، فالمعروفون بالإخبارية يتحرجون في القول في معنى الآيات القرآنية بشيء لم يرد فيه نصّ عن الأئمة عليهم السلام، وأما غير المتشددين فحالهم في السلفية لا يختلف عن نظرائهم من أهل السنة والجماعة، يبدعون ويزيدون ولكن ضمن الأصول المرسومة، وضمن اليقينيات والمسلمات المذهبية، والويل كل الويل فيما لو خرج عنها خارج.

بين الأحياء والأموات:

كم من مفكر وعالم وفقيه معاصر قد ذاق الأمرّين من التكفير والتفسيق والمهانة، لمجرد أنه خالف الموروث، كم من رجال عصرنا ممن ووجهوا بتهم المروق والخيانة والضلالة، لمجرد أنهم فكروا خارج الصندوق، وأطلوا إلى خارج الكهف، فهل حرمة الأحياء في ديننا ساقطة أمام حرمة الأموات؟ وهل هو من الدين أن تداس حرمة مؤمن حي، لأنه خالف رأي مؤمن ميت؟ أوليس الحي هو أدرى بزمانه من الميت؟

إننا ندين للأحياء بالاحترام، فهذه هي سنة الخلق، أن يتعايش الناس بينهم بالاحترام والتقدير وحفظ الكرامة، ومع الأحياء من أمثالنا، ستكتب سيئات أعمالنا وصوالحها، ومعهم وفيهم تتحرك صحائف أعمالنا بالحسن والقبيح، فهذه هي سنة الحياة، كل جيل يعيش زمانه ويفكر بآليات وقته، ويواجه قضاياه التي يعايشها ويعاينها، ولم يكلف العقل ولا الرب عبداً بقضايا زمان سابق عليه، فاحترام الآخر الحي المشترك معي في زماني هو فرض إلهي، حيث أوجب عليِّ التعارف معه والتواصل حين قال سبحانه (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13) فمن حقي الطبيعي ومن واجبي الإلهي أن أتواصل مع أحياء زماني، بما نراه ونفهمه ونقدر على انجازه، ولست مكلفاً أمام الماضين من الأموات الصالحين بغير الإقرار لهم بالأسبقية علينا في الحياة والدين، وأنهم قد سبقونا بالإيمان، وأنهم ( السلف الصالح ) يستحقون حقيقة التكريم، والتي ليس منها أن أستلب حياتي وعصري وزماني وفكري وثقافتي وحضارتي لصالح حياتهم وعصرهم وزمانهم وفكرهم وثقافتهم وحضارتهم، فتلك كما قال الله سبحانه (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ )(البقرة: من الآية134)

إن التمسك بقداسة الماضين، واعتبارهم قمماً لا يمكن الارتقاء لها، وأنه ليس بعد علمهم علم، قد جمدَّ حركة الإبداع في الأمة، وحاصر المفكرين بأسوار من المخاوف، فصار فكر الماضين أشبه بالحصن أو بالذات الملكية وشخصية الرئيس في عالمنا العربي المعاصر، فذاته لا تمس، ومن أراد انتقاده ومخالفته فعليه أن يسلك ألف سبيل من مقدمات البراءة عن المعارضة، وأن يطرح رأيه على استحياء أو استخذاء، وأن يهين نفسه أولاً وكأنه في محراب العبادة مفتتحًا بالقول: وما أنا وما قدري لأجعل في مقام الكلام في جنب أولئك العظام، كل ذلك خوفاً من سطوة الأتباع وجموع المذهبيين والطائفيين.

نحن لا ندعو للتنكر لفضل السلف الصالح، ولا لهدر كرامتهم ومقامهم، ولكننا نقول إن قوام حياة الأموات هو بقاؤها على هامش حياة الأحياء، ليتمكن الأحياء من صناعة سعادتهم الحقيقية وفق واقعهم، لا أن يستندوا على الوهم في طلب السعادة، من واقع الأموات الذي انقضى ولن يعود، وهيهات أن يعود، فعجلة الزمان تدور لتصنع الجديد وتطور الواقع، وإذا لم يعمل الأحياء على خلق هذا الواقع الذي يعيشونه سعيداّ، بالانسجام مع زمانهم وظروفهم ومشاكلهم، وما بلغوه من تمدن وتحضر وثقافة، ويسهموا في عملية التجديد والتطوير، وظلوا يحلمون بأيام عز الآباء، ناحلين ذلك الزمان حسناتٍ لم تكن فيه، ونازعين عنه سيئات كانت منه، محاولين إعادة حياة السلف، متناسين دورهم كخلف ينبغي أن يكون أكثر تجديداً وإبداعاً من آبائهم، فإنهم لن يدركوا ما أدرك آباؤهم، ولن ينجحوا في العيش مع مقتضيات زمانهم، وهل التخلف إلاّ ثمرة مثل هذا الوضع المتعصب.

إن نشطاء الحركات الإسلامية، يقدمون حياة الماضين للأجيال الحاضرة على أنها الحياة المثلى، وتقوم أطروحتهم على إذكاء المشاعر نحو العودة للزمن الماضي، وإلى التشبه بحياة خير القرون، نعم هناك عبرة نستطلعها من حياتهم الفاضلة، ألا وهي قوة إيمانهم، وشدة عزيمتهم، وجزيل تضحياتهم وتفانيهم في خدمة مجتمعهم وأمتهم، وحرصهم على خدمة الناس، وعملهم الدائب في نشر الهدى والدعوة إليه، فهذه مبادئ عامة في حياتهم وبها استحقوا تلك المنزلة، أما ما قالوه واقعاً، وما فعلوه ميداناً من حركات وسكنات، وأفعال وانفعالات، وأفكار وتدبيرات، ونظم وإدارات، وسياسات وإجراءات، وكل ما هو خارج القيم والمبادئ العامة، فلهم زمانهم الذي يجب أن لا يكون زماننا، لأنه يستحيل أن يكون كذلك.

إن تسويق حياة الماضين على أنها سر السعادة للاحقين، أمر لا يؤدي إلى حياة سعيدة أبداً، بل هو تبضع لبضاعة باطنها الوهم، ولو حدثت فجئناها فلن نجدها إلاّ سراباً، إذ أننا أجيال زماننا ولن نكون إلاّ كذلك، نشترك مع صالح أسلافنا في القيم الإنسانية العامة، والمبادئ الإسلامية العامة، وأركان الإسلام العامة، وفي ما عدا ذلك فلنا حياتنا ولهم حياتهم، ولنا نظرتنا للأمور ولهم نظرتهم، ولنا فهمنا ولهم فهمهم، وإذا لم نعقل ذلك فسنظل نسمم عقولنا ومجتمعاتنا بسموم زمانهم وقضاياه، التي كان لها يومها مبرراتها الواقعية السليمة والسقيمة في حياتهم، فرضتها ظروفهم السياسية والاجتماعية، على عكس زماننا الذي يفرض علينا قضايا جديدة وأطروحات مغايرة في الدولة والمجتمع.

فعلى سبيل المثال، في زمانهم وإلى عهد قريب، لم يكن هناك وعي للدولة القومية ومفهوم الوطنية والمواطنة، ولم يكن هناك وعي للطبقية الاجتماعية وأثرها في نشأة التكتلات، ولم يكن هناك وعي لخصائص الجماعات، ونحن نعد هذه من القضايا المؤثرة في حياتنا، ويستحيل علينا أن نكون واقعيين لمجرد إغماض أعيننا عن حقيقة تأثير الانتماء القومي والشعور الوطني والانتماء الطبقي وغير ذلك من أمور هي توجه سلوك الناس وعواطفهم، مصرين على أن الانتماء الحقيقي هو للدين وليس غير الدين، لمجرد أن مثل هذا الوعي لم يكن موجوداً عند أسلافنا الماضين.

إن مثل هذا الفهم لواقع القرن العشرين من خلال القرن الثامن يقود إلى العمى عن فهم الواقع، والحياة ضمن واقع افتراضي لا وجود له.

ولقد نبه الدين منذ أوائله بأن لكل زمان دولة ورجالاً، ونهي كل جيل من الآباء عن إكراه الأبناء على إتباع آثار الآباء وآدابهم، وقال بوضوح أن مراد ذلك لتغير مقتضيات الزمان: ” لا تكرهوا أولادكم على آثاركم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم”، وفي رواية ” لا تقسروا أولادكم على آدابكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم”، وأخرى ” لا تجبروا أولادكم على آدابكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم”.

إن في هذه المقولة من العمق ما لا يفهم إلاّ بالتدبر، فكأن الله سبحانه، وهو يريد بالحياة أمراً، قد رزق كل جيل ما يقتضيه له، لتصل الدنيا لما أراد لها ربها من تدبير، وكأن إكراه الأجيال على إتباع آثار الآباء وآدابهم ونظرتهم للحياة يعيق هذه المسيرة، وينمي التخلف عنها، أي أن هذا التجمد يخالف ويعيق سنة إلهية يراد لها أن تمضي.

إن هذه المقولة تقرر أن الحياة فصولٌ، وان هذه هي إرادة السماء، وإذا أرادت السماء أمراً ورفضناه فإنها لا تتوقف بل تغير مسارها ( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)(محمد: من الآية38) فإذا ما سمح الأحياء للأموات بأن يحكموا حياتهم في الدين والدنيا، فإن ذلك ينم عن عجزهم على أن يحيوا حياة الخلف النافع، فهم كما قال رافضو كل تجديد (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)(الزخرف: من الآية23)

إن الطائفية والمذهبيّة ثمرة إتباع الماضين، فإذا ما أحسن الخلف حياته، وعاش زمانه،فسيكون لهم مذاهبهم الجديدة والتي قد تتحول إلى طوائف جديدة إذا ما جمد أخلافنا عليها كما جمدنا على ما أسس أسلافنا، فأس الطائفية متابعة الأموات الماضين، وأول مفتاح للخروج على عصبيتها هو التحرر من قيودهم وأغلالهم التي علقناها دون إرادة منهم في أعناقنا..

1 ـ رواه بن عبد البر في الجامع رقم( 1810 ).

2 ـ رواه البخاري (2652 ) ومسلم (2533 ).

3 ـ رواه أحمد في المسند 1/379.

1 التحفة السنية – اليد عبد الله الجزائري صـــ2

نقلاً عن كفاية الأصول للعلامة الحلي

1 ـ (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً) (الانبياء: 78/79)

2 ـ (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) (الأنعام:152)، ( وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل:125)، (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (الاسراء:53)، (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ) (المؤمنون:96)، ( وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (العنكبوت:46)، (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت:34)

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.