الحلقة الخامسة: الطائفية رشد أم طاغوت

حلقة 5

(لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:256)

(اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:257)

التبين مفردة كررها القرآن الكريم نحواً من مائتين وخمس وسبعين مرة في تراكيبها المختلفة، وجعلها الهدف من إرسال الرسل، وإنزال الكتب، والطريق للهداية والتفريق بين الرشد والغي، والأساس لاستحقاق الإنسان الثواب والعقاب، فلا عقاب إلاّ بعد بيان، وهي تمثل الاحترام والتوقير الرباني للإنسان؛ وأنه مخلوق مكرَّمٌ أهلٌ، وقادرٌ على التمييز عن وعي، بعد عملية البيان والتبيين، وبالتالي تحمل نتائج مواقفه الدنيوية والأخروية، وعلى هذا قام الدين كله.

لا إكراه في الديننفي لمطلق الإكراه ابتداء، أيّاً كان نوعه، وعلى أيٍّ وقع، فإذا ما حدث شيءٌ منه فهو خارج المنظومة الدينية الإلهية الحقّة، ثم لا يهم عن أيٍّ صدر، وباسم من أعلن، قد تبين الرشد من الغيقد أوضح الله ورسوله وكتابه للإنسان، أين هي طرق الرشد الموصلة للسلامة، وأين هي طرق الغي الآيلة للضلالة، هذا هو الصراط المستقيم للدين في معاملة الإنسان، فمن يكفر بالطاغوتوهو الطغيان والتطرف والتشدد، فلا يكره المؤمنين على الكفر إن كان كافراً طاغوتاً، ولا يكره غير المسلمين على الإسلام والإيمان إن كان مسلماً طاغوتاً،فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، فإن في عدم الإكراه ثباتاً واستمراراً لفاعلية المبادئ واستمرار العمران وعدم البوار والخراب، لأن الطغيان بنفسه سواءً من المؤمنين على غيرهم أو من الكافرين على المؤمنين هو عامل الانفصام لعروة المجتمع وتماسكه والسماح للحق بعد ما تبين أن يتغلغل في النفوس جيلاً فجيلاً، فانتشار الإيمان في العمران أرجى من توقع انتشاره مع الطغيان، لأن الطغيان عامل هدم ورفض وكراهية، وهو ليس من الدين.

ويؤمن باللهفلا يتعدى الحدود التي حددها له بعدم إكراه الناس في الدين، والبقاء على حدود البيان والتبيين، فهذه هي طريق العروة التي لا انفصام لها ، وهي المؤذنة باستمرار الدين والعمران والمجتمع في طريق الرشد، ومجانبة طريق الغي شيئاً فشيئاً، وهي السبيل التي اختارها الله سبحانه حينما خلق الإنسان مخيرا بين الطاعة والمعصية، ولو شاء ربك لهدى الناس جميعا،(أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(يونس: من الآية99)..

هكذا أرادت هذه الآية الكريمة إبعاد الناس جميعاً، مؤمنين وكافرين عن التعامل بالإكراه والطغيان فيما بينهم، وأن سبيل البيان والتبين كفيل بحمد الله بإيصال المؤمنين إلى النور وإخراجهم من الظلمات، وكفيل بفرز من أراد من الناس الكفر عن وعي واختيار، والخروج من النور إلى الظلمات، متحملاً عواقب مواقفه الأخروية، حيث لا عقوبات قانونية تشريعية في الدنيا على الإيمان والكفر، اللهم إلاّ العقوبات القدرية الربانية، أو أن يتحول الأمر إلى البغي والعدوان، فأذن الله للمؤمنين بالقتال دفاعا لا عدوانا، وإلى أن يتوقف العدوان وتنقطع مادته..

ولكننا سرنا في الطريق المعاكس للآية تماماً، حينما تساءلنا عن الطاغوت من هو؟ فكان كل شيء يعادينا إلاّ أنفسنا وهي العدو الأكبر لنا، فقالوا هي العُزى، هو الكاهن، هو الشيطان، هو المارد من الجن، هم رؤوس الضلال، هو كل ما عبد من دون الله، هم مردة أهل الكتاب، هو كل صارف عن الإسلام، فكانت الآية عندنا باب إذكاء للعداوة والعدوان، لا باب ابتعاد عنهما.

الرشد هو ما ينبغي للأمم التمسك به، والرشد ليس هو الدين وليس هو الإيمان وإن كان الدين والإيمان يتصفان بالرشد متى كانا كذلك دون تحريف، بل الرشد هو إصابة الوجه الصحيح في الأمر، وهو الطريق الموصل للغاية بالسلامة، والرشيد هو الذي يحسن تقدير الأمور، والغي على عكسه في كل ذلك.

الرشد هو التفكير الموضوعي العلمي، ثم اتخاذ المواقف على أساس من ذلك، فقد يكون المؤمن راشداً وقد لا يكون، وقد يكون غير المسلم راشداً وقد لا يكون، والرشد يتجزأ، فقد يرشد الإنسان في ناحية ويضل في أخرى على تفاوت، فلا يقال لمن لم يؤمن أنه لا رشد له بالمطلق، بل قد يكون راشداً في الدنيا بأكثر من المؤمنين، الرشد أمر لا ينبغي على أمة من الأمم أن تتخلى عنه، لأن في التخلي عنه دمارها وهلاكها، مهما تمتعت به من المبادئ المعنوية والقدرات المادية، فبمجرد أن تغادر رشدها إلى الغي، فقد بدأت في الانحدار نحو الهاوية.

الطغيان هو أحد أبرز وجوه مخالفة الرشد في الأمم، بالتوجه نحو الإكراه والاستبداد والقهر ، سواءً في أمور الدين والعقيدة والفكر، أو في التفاوت في الدرجات الاجتماعية والطبقية، أو في احتكار السلطة والمال والثروة، وبحسب الحق - وكل حق فهو إسلام - كل من مارس طغياناً فهو طاغوت، وهو يسهم وبشدة في انفصام عُرى الدين والقيم والمجتمع، ويقوده نحو الهلاك والتفكك والتشرذم، حتى لو كانوا على أحسن حال من الإيمان قبل ذلك.

إن كل الأمم التي بادت كان ذلك بسبب إساءة استخدام رشدها وطغيانها على مبادئها، فكان أن تسبب لها ذلك في الهلاك والدمار:

  • فمنهم من أهلكه الجمود والتقليد وترك الإبداع والتجديد، وهذا من أكبر الأسباب في هلاك الأمم، وأجلاها في مفارقة الرشد، حيث تقدس الأمة ماضيها، وتصر على إتباع الآباء دونما تمحيص لصلاح ما كانوا عليه أو فساده، ودونما تحكيم في مناسبته للواقع المستجد أو قصوره عنه، فلا تلبث أن تواجه بالجديد المتطور، والصحيح المناسب فلا تقبله، وتصر على مجانبته أو محاربته، فيكون مآلها الهزيمة والهلاك الفوري أو التدريجي.

القرآن الكريم يرصد هذا السبب كأكثر سبب متكرر في عدم فلاح الأمم على قبول الدعوة السماوية، والتي هي تجديد وثورة على الواقع الذي جاءت لتغييره، ويرصد القرآن وبشكل شبه دائم تقديس الأمم لقديمها وما كان عليه آباؤها، ورفضها للجديد مهما كان جليّاً في تألقه وإشراقه.

والغريب أن كلَّ أمة قامت على أساس مبادئ ثورية تجديدية، لا تلبث أن تميل هي الأخرى للجمود والمحافظة، فلا تجد سبيلاً للخلاص من متراكم أخطائها وفاسد آرائها، ومغلوط مفاهيمها، وفاسد انحرافها عن مبادئها الأصلية، التي قامت هي في الأساس عليها ومن أجلها، فآباء عاد هم في الأساس ممن حُمل مع نوح، ولكنهم لا يلبثون أن يعيدوا مقالة الأسلاف: أتنهانا أن نعبد ما كان يعبد آباؤنا؟ وقد تكرر هذا الموقف حتى صار مما ألفته الآذان من القرآن، من قرأه ومن لم يقرأه.

وفي أمة الإسلام كما في سائر أهل الكتاب يتجلى الجمود في اتباع السلف وتقديس آرائهم ومذاهبهم وتحريم مخالفتهم وتشنيعها، واحتكار الحق والحقيقة فيها، فإذا ما علمنا أنهم قد اختلفوا أيام حيويتهم وإبداعهم، آراء ومذاهب، ثم تمسكنا نحن الأسلاف كلٌ بطرف مما اختلفوا فيه فجعلناه مذهباً لنا لا نخرج عنه ولا نحيد، ولا نصرف عقولنا إلاّ في تجميله وتحسينه والدفاع عنه والرد على خصومه، علمنا ساعتها أننا قد أضفنا لعامل الجمود وترك الإبداع عاملاً آخر يُسرع في هلاكنا وفساد مجتمعنا وفقدانه الحيوية والتماسك ألا وهو الجمود على الشقاق والاختلاف والنشاط في توسيعه وتعميقه.

ويمكن القول أن هذه القضية المعرفية هي من أخطر ما يواجه الأمة الإسلامية، فمنذ الأيام الأولى وهي في إشكالية الجدل بين الإبداع والبدعة، بين حرفية النص ومقاصديته، بين ثبوت أوجه الحقيقة وبين تراكميتها وتعددية أوجهها، وبين تغير تمثيل المظاهر الخارجية للحقيقة أو ثبوتها في التمثيل، وقد ظل الطرف المؤيد للثبوت هو المتنفذ في عقل الأمة طوال تاريخها منذ أن انتصر الفقهاء والمحدثون على الفلاسفة والمفكرين، فعزلوهم في وادي البدع والرأي المخترع، والأمة منذ ذلك وهي تسترجع مقولاتها، وينقل طارفها عن تالدها ، حتى صار قول السلف لديها حجة في حد ذاته، وحتى أنك لو حذفت المتكرر في أمهات المكتبة الإسلامية في الفقه والحديث والتفسير والرجال واللغة والتاريخ، لتحولت لديك مكتبة بها خمسة آلاف كتاب إلى مجرد خمسين.

إن هذه المسألة هي من أهم المسائل التي يجب على الأمة اليوم أن تحسمها لصالح التجديد والمقاصدية، وتراكم أوجه الحقيقة وتعدديتها، للتطور مع الزمان بالأخذ بالإبداع والفصل بينه وبين البدعة، وترك الطغيان بتكفير كل جديد وتفسيقه وتبديعه، وإلا فلن يصبح لها ليل، وستؤخذ قهرا فوق قهر، فالدهر لا يلوي على شيء، يبلي كل جديد .

  • ويرصد القرآن مخالفة الرشد بالطغيان في التمييز الطبقي كعامل من عوامل هلاك الأمم، فيصف فرعون مصر بأنه كان طاغية عالياً في الأرض(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (القصص:4) فقد ميز فرعون بين رعاياه فآثر قومه على غيرهم من القوميات الأخرى، ممن هم مواطنون في مملكته، ثم أسرف في ذلك حتى استهان بذبح أبنائهم والفجور بنسائهم، وأباح لقومه فيهم ما أباح من الظلم والضرب والاستخدام، وكان لا بد لمثل هذا الشيء أن يتغير لأنه مخالف للسنن التي تقوم عليها الأشياء، فإما أن يتغير بأسباب بشرية أو بإرادة إلهية، فكان هلاكه وهلاك قومه بالإرادة الإلهية التي قالت ( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (القصص:5) فكان ميلاد موسى عليه السلام القائد المخلص لهؤلاء المستضعفين، والمدمر لفرعون وجنوده وما كانوا يعرشون، ولولا ذلك لكان هناك سبب آخر لدمار فرعون وقومه ولو عن طريق التآكل الذاتي فالطغيان كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله.

  • وقد يكون هلاك أمة بسبب إسرافها في مجال اللذة، والجنسيّة منها على وجه الخصوص، وقد رصد القرآن حالة قوم لوط الذين أسرفوا في الجنس حتى ملوا النساء واستلذوا الذكران ( إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) (لأعراف:81) ( أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ) (الشعراء:165) إن وجود الانحراف الجنسي متوقع في الإنسان، ولكن إطباق أمة بكاملها على ممارسته والإسراف فيه واستحسانه على خلاف الطبع والطبيعة الحيوانية عوضاً عن الإنسانية، حيث لم يُرصد مثل هذا عند الحيوان، فمثل هذا إسراف إلى حد الطغيان، ومجانبة فاحشة للرشد، حتى أن لوطاً عليه السلام لما حاصروه ابتغاء ضيفه تمنى لو أن فيهم راشداً واحداً يتعقل قبح ما هم فيه فقال ( أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ)(هود: من الآية78)

فهذه أمة قد فارقت الرشد، وخالفت الطبيعة، فكان لا بد لها أن تهلك وتزول، سواءً بتدخل رباني كما لقوم لوط، أو بالآفات والأمراض، التي هيأها الله سبحانه في الطبيعة نفسها ترد بها على كل متجاوز لحدود الرشد فيها، فلا تحسبن ممارسة المثلية الجنسية تمر دون عقاب من الطبيعة، فهي لا بد أن ترد على تجاوز أسسها بدفاعات مهلكة للمسرفين، وغداً يظهر فيروس جديد أعد مخصوصاً للمثليين،ثم لا يُصيبنّ الذين ظلموا منا خاصة .

والمثلية الجنسيّة هي أحد وجوه الإسراف في اللذة الجنسيّة، وإلاّ فالأمر يشمل كل علاقة جنسيّة خارج الزواج المقر اجتماعيّاً ، والذي يحفظ مسؤولية الوالدين عما أنجبا، فشيوع الزنا والسفاح والدعارة والمجون بما هو خارج المتوقع من الإنسان الخطاَّء، إلى درجة الإسراف والطغيان فيه، لا بد أن يتسبب في هلاك تلك الأمة بسبب أو بآخر، بشري أو طبيعي أو إلهي، لأنها مسيرة خارج السنن الإلهية والطبيعيّة المكونة لبناء الوجود والحافظة له، وإن الذين يتصورون أن الحرية الشخصية تبيح لهم ممارسة الرذيلة على نحو عام، وأن ذلك لا يضر غيرهم دنيا ولا آخرة، يتغافلون عن أن أفعال الناس متداخلة الـتأثير والتأثر، إلى درجة التشابه بينها وبين المثال الذي ضربه رسول الله (ص ) للقوم الذين ركبوا سفينة، فأراد أحدهم أن يوقب مكانه ظاناً أن ذلك لا يعني أحدا سواه، فكأن فيروس الإيدز لن يصيب إلا المثليين!.

  • ويرصد القرآن بخس الناس أشياءهم، والإخسار في الكيل والميزان سبباً في هلاك الأمم، فأمة مَديَن قوم شعيب كان البخس والإنقاص لهم ديناً، وخلقاً محموداً عندهم، لا يتأثمون فيه، فهو كما يقول الجاهلون شطارة، فناداهم نبيهم ومرشدهم بالعودة إلى الرشد (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ، بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ، قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ؟! إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) (هود)

إن بخس الناس أشياءهم، وإخسار المكيال والميزان عن طريق الشطارة التجارية هو من أسباب هلاك الأمم، ولا تحصر مخيلتك في مجتمع قوم شعيب، حيث كان الإخسار يتجلى في المكال والموزون من البضائع، مهما كانت الحيل التي ابتدعوها، بل توسع في ذلك إلى ما تقوم به الشركات والمصانع والبنوك وشركات التأمين وغيرها من بخس الناس أشياءهم، فالناس اليوم مسروقة الأعمار، تعمل سخرة تحت رحمة الكبار، محاصرة بالدَّين،يُحتال عليها بشتى الحيل لتشتري ما لا تحتاج إليه، ثم تدفع ثمنه أضعافاً مضاعفة ببطاقات الائتمان، أو عبر أرباح المصارف، عالم اليوم هو مثل أعلى من قوم شعيب، يبخس الناس أشياءهم وهم مسرورون يضحكون، ثم وهم مقهورون على الدفع ومتابعة الدفع، فليس لأجل لا شيء تخرج المظاهرات عند اجتماع الكبار في دافوس وفي غيرها، إن الأغنياء ليحسدون الفقراء ولو على حجر يتوسدونه هو خارج عن دائرة استثماراتهم ونهمهم، فالموز والكاكاو والبن، وكل نبات أو حيوان أو معدن أو شجر أو ماء هو في دائرة الاستيلاء والبخس، ثم يتولى الإعلام حث الناس على الاستهلاك ثم الاستهلاك الذي دَمّرَ الطبيعة والناس، وهم لا بد وأن يدفعوا ثمن إسرافهم هذا إما بفساد في الطبيعة نفسها، أو بفساد بين بني الإنسان أنفسهم إن لم يكن بكليهما، وهذا الأمر هو اليوم من أبرز القضايا العالمية، ولعله سيكون العامل المدمر لهذه الحضارة الغربية، التي تحيا بالاستهلاك وتجده عنوان سعادة الإنسان.

  • ويرصد القرآن البطر في الاستهلاك كسبب من أسباب الهلاك، ففي خبر ثمود يكلمهم ربهم موبخا“(أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ ،فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ، وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ،الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) (الشعراء)

إذاً فقد كانوا مسرفين في الاستهلاك يتخذون في السهول قصوراً، وينحتون الجبال بيوتاً، قد أبطرتهم النعمة والثروة فأخذتهم نحو الفساد والطغيان.

وفي خبر عاد أنهم كانوا يبنون بكل ريع آية يعبثون، فوظفوا فائض ريعهم في التعالي ببناء الأبنية على المرتفعات تفاخراً لا لحاجة، وكانوا يتخذون مصانع لعلهم يخلدون، والتي يبدوا أنها تشير إلى طرق وأمور ركبوها بحثاً عن سر الخلود، وإذا بطشوا بطشوا جبارين فكانوا في المحصلة مسرفين في الشهوة والغضب، أصحاب علو واستكبار.

ولعل في عاد وآياتهم بكل ريع، سلفاً للجبارين من أهل زماننا، الذين ينفقون ريع شعوبهم على بناء النصب التذكارية، وبوابات النصر، والقبور الفخمة، والقصور العالية، يفاخرون بها ويتباهون، وهاهي أمريكا إذا بطشت تجبرت وألقت ما في بطون قاذفاتها وتخلت، ثم لا يهم إن كان المقصوفون مجرد فقراء أفغان يسكنون بيوت الطين ممن لا حول لهم ولا قوة، فهم وأمثالهم أخوان عاد.

وفي مقام آخر صرح القرآن الكريم بأن الحياة المترفة سبباً للهلاك عند ما قال ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) (الإسراء:16) ذلك أن من طبيعة الحياة المترفة، أن تجر الإنسان إلى الفجور والبذخ والترهل والتعالي والاستعلاء، ومن ثم الطغيان واصطناع الطبقية الظالمة، إنه بالإجمال باب من أبواب الفساد الاجتماعي والأخلاقي المؤدي إلى الدمار والهلاك، إما بالتناقضات الداخلية فيه، أو بغلبة الأعداء عليه عند ترهله، أو بعقوبات الله القدرية.

وهناك نوع من البطر يسميه القرآن كفران النعمة، فكأن كل حباء من الله أو الطبيعة، يتطلب اعترافاً بالجميل يترجم من خلال التصرف الرشيد في تلك النعم قولاً وفعلاً، أولاً من خلال الإقرار لله بالفضل والمنة، وثانياً من خلال الاستخدام الحسن والمشاركة الفاعلة في تحسين أوضاع الآخرين، فاستحقاق المحروم يظل حقاً من حقوق النعم، والتنكر لاستحقاق هذه النعم بالشكر ثم التصرف فيها بالفساد والظلم والأثرة، هما عاملا هدم لتلك النعم وتدمير لتلك الأمة، كما مثل القرآن الكريم بمملكة سبأ مثالاً على ذلك، فكان أن أبدل السيل العرم بلادهم من بلاد عامرة متشابكة القرى غنية الثمار وارفة الأمن، إلى بلاد شبه صحراوية لا ينبت فيها إلاّ السدر والأثل وغيرها من خمط الأكُل، وشتتهم أيدي سبأ كما تقول العرب.

  • طغيان (الحريّة):

يرصد القرآن مثالاً للهلاك بطغيان الرغبة في (الحريّة)1 عند الإنسان، حيث يرفض الالتزام، ويعتبر كل قيمة قيداً، وكل عقيدة ملزمة كَبْلاً، ويرى نفسه عُجبْاً أنها أعظم من أن تقيدها المبادئ والقيم، أو القوانين والشرائع.

وهذا المثال تراه مشتركاً في الطاغين والمستكبرين، فمنهم من قال لمرشده على الخير (قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) (هود:87

وهذه وأمثالها مُشَاقّات استكبارية، ناجمة عن نظرة علو للنفس، وأنها من شأنها أن تكون متبوعة آمرة، لا تابعة مأمورة، فهم لا يتصورون الشراكة في الإيمان التي تجعل كل نصح وأمر نافع للجماعة فكأنما هو نابع من نفس كل مؤمن، وبلغ الأمر ببعضهم أن رفع رأسه نحو السماء متحدياً ( إِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (الأنفال:32) وهذا الوجه هو داء الخواص الذين يرون في أنفسهم أنهم شيء آخر بسبب مال أو جاه أو معرفة حازوها، وهم أصحاب الرايات الذين تهلك الأمم باتباعهم.

  • ومنها الطغيان في التعصب الديني: وسنختم به لا لأنه لا توجد علل أخرى للهلاك قد رصدها القرآن ولكن أولاً لأن فيما سقناه كفاية، وثانياً لأننا في شأن الحديث عن الطائفية والمذهبيّة، فالتعصب الديني هو وجه من وجوه الهلاك عبر التفكك والاختلاف الذي قد يكون قومياً أو عنصرياً أو قبلياً وعشائرياً، فالانشقاق الديني هو أحد وجوه الاختلاف والفرقة بين الأمم.

وتعدد أسبابه بين المتدينين، فمنهم من يدعى الحرص على نقاء الحقيقة الدينية، فيرفض مكفراً كُلَّ من اختلف معه في مفهوم من مفاهيمها، لا بل في تفصيل من تفاصيلها، وهذا هو الوجه الأكبر في اختلاف المتشددين من أهل الأديان، بحيث أن كلّ دين قد بدأ واحداً ثم مع الزمن يتحول إلى فرق ومذاهب متعددة، كلٌ منها لا يرى الحقيقة إلاّ عنده، كما هو الشأن في فرق اليهود والنصارى والمسلمين.

ومنهم من يَدَّعي كذب الآخر وافتراءه على الله، وأنه ليس بدين أصلاً ولم ينزل من السماء، كما قالت اليهود في دين عيسى وكما قالت اليهود والنصارى في دين محمد (ص)، فمع إقرار النصرانية بكل أنبياء بني إسرائيل وكتابهم التوراة، إلاّ أن اليهود رفضوا الإقرار لعيسى بأنه منهم جاءهم مصلحاً ومخففاً، وحال النصارى مع المسلمين كحالهم عند اليهود، فمع أن القرآن الكريم أقرَّ بكل السابقين من الأنبياء ما قبل إبراهيم وموسى وما بعده، إلاّ أن اليهود والنصارى رفضوا الإقرار بنبوة محمد (ص). ومع أن القرآن أقر باليهودية والنصرانية والمجوسية والصابئة وبكل دين يتبع نبياً من السماء، إلاّ أن المسلمين رفضوا الإقرار بهذا القبول، وقالوا بأنها أديان منسوخة بالإسلام المحمدي الذي جاء خاتماً للدين كله ومهيمناً عليه، مع أن الحق أن القرآن الكريم لم ينسخ أيّاً من الأديان السابقة لا عقيدة ولا شريعة، وإنما جاء مصححاً لما فسد من عقيدتها وما أدخل في شريعتها كذباً، وما دس في كتبها تحريفاً، وكان بالإمكان لولا التعصب أن يعود جميع أهل أديان السماء إلى عقيدة التوحيد الصافية القائمة على الإيمان بالله وكتبه ورسله وملائكته واليوم الآخر، ثم بقاء كل أصحاب شريعة على صحيح شريعتهم وعبادتهم، وهذا مما أقره القرآن والمسلمون لهم حقاً في مجتمع المسلمين.

لقد تفرق أهل الأديان وبغى بعضهم على بعض لتعصبهم وتمسك كل فريق بما عنده، ورفضه المطلق لما عند غيره ثم القيام على حربه وتكذيبه والسخرية منه، والأمر الذي ظل القرآن يرفضه لا من المسلمين وحدهم بل وبين أهل الكتاب أنفسهم، لأنه لا يخرجهم عن دائرة المخاطبين به في شأن دينهم الذي هم عليه، فقال (قَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ)(البقرة: من الآية113) فالقرآن يرفض هذا الرفض المطلق لكل أصحاب دين للدين الآخر، ويقر بأنها كلها أديان من عنده، ويقول صراحة أن الإسلام المحمدي ليس ديناً جديداً وإنما هو دين الحنيفية الإبراهيميّة، قد أقره عقيدة لأهل الأديان ( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ )(الحج: من الآية78)، بل وأخذ من بعض شرائعه التي ظلت سارية في عرب الجزيرة حتى البعثة، لم يتنكر لذلك بل أقره وافتخر به.

وقد أطلق القرآن على داعي التفرق الديني هذا بغياً، فلم يقرَّهم على ادعاء طلب النقاء أو الاشتباه، بل صرح بها في وجههم جهاراً، أن مرَّد ذلك كله البغي، فقال(وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ)(آل عمران: من الآية19) وحتماً إنك لو تصفحت المدونات في كتب الاختلاف الديني فلن تجد إلاّ إدعاء بضلالة الآخر وبطلان ما عنده، وستجد العباقرة من أهل اللاهوت قد سطروا البراهين وقلبوا الوجوه، ونمقوا الحجج، ولا يقرون بما قد بصم به القرآن عليهم من أن الأصل في ذلك كله لا عن جهالة ولا عن خفاء لوجه الحق عليهم، بل هو البغي بينهم.

ولي أن أقول بأن موقف المسلمين من القول بنسخ كل الأديان السابقة هو من سنخ البغي، وإلاّ فمقولة القرآن وسنة الرسول العملية والتي لا تزال قائمة عملياً في جوانب عديدة منها، تقول بالإقرار بحق كل أديان السماء في البقاء، وتبين لهم ما قد فسد وأفسد من دينهم ولا تأمرهم بشيء سوى إصلاح هذا الفساد ثم لا شيء يمنع من إضافة القرآن الكريم كتاباً سماوياً إلى كتبهم، يستلهمون منه إيماناً وحكمة وعلماً، دون أن يلتزموا به شريعة فقد أقرَّهم على شريعتهم ومنهاجهم ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً )(المائدة: من الآية48) (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ)(الحج: من الآية67) ولهذا فقد جعل الله لكل كتابي يُسلم أجرين، أجرا على إيمانه الأول وأجرا على إيمانه الثاني، فإن شاء الأجرين أسلم بمحمد ودينه، وإن لم يشأ فلا يسعه إلاّ الأخذ بالتصحيحات التي جاء بها محمد (ص) عن ربه مصوباً ما انحرف وحرف من الكتب والشرائع التي سبقته.

وحينها لن يكون اليهودي أو النصراني أو المجوسي أو الصابئي إلاّ مسلماً حنيفاً يوحد الله ولكن يتعبده على هدى شريعة نبي آخر غير خاتم المرسلين، ولن يكون إلاّ مؤمناً بمحمدٍ (ص) رسولاً هادياً ومصححاً وإن لم يكن ناسخاً تماماً كما فهم المسيحيون رسالة عيسى عليه السلام بالنسبة إلى رسالة موسى عليه السلام، ولم النسخ؟ فما دامت العقيدة واحدة فلا ضير في تعدد الشرائع مادامت كلها من الله، فهذه أمور توقيفية يعتبر كل دين بشريعته، وعلى نفس المنوال وإن بشكل أكثر حدة أنقسم المسلمون فرقاً ومذاهب في الإسلام نفسه.

وأكثرها مِن فعل البغي بينهم، وتعصب كل لرأيه، ورفضه الرأي الآخر، رفضاً تبلغ درجته التكفير واستباحة المال والدم والعرض، على خلاف صريح لوصية رسول الله (ص) للمسلمين يوم حجة الوداع والتي أمر أن يبلغها الشاهد للغائب، لعلمه بخطورة الأمر البالغة.

لاشك أن المراد الأول للدين هو وحدة الناس على الحق لو كان ذلك يدرك، أو كان بالإمكان بقاؤه بعد إدراكه، ولكن الأمر لم يكن كذلك ولسبب أو لآخر ظل الناس يختلفون ، وسيظلون كذلك، وهذه هي الطبيعة فيهم، ولن يحدث التمييز بينهم بدون هذه القدرة على الاختلاف، وهي من طبيعتهم العقلية أيضا، فالعقل الإنساني خطاء وخلاق في نفس الوقت، والنفس البشرية مجبولة على حب ذاتها والتعلق بما يصدر عنها،فمجمل التكوين النفسي والعقلي للإنسان يجره نحو الاختلاف، ولذلك فلابد من منهجية عقلانية يستفيد بها الناس من ذلك ويتجنبون أكثر ما يمكن من ضرره، ويمكن أن نرصد منهجا من خطوات في سبيل ذلك، فأولا ينبغي السعي نحو عدم الاختلاف أصلا ، وذلك بتجنب دواعيه من البغي والتعصب والجمود، ثم ثانيا بقبوله كواقع لا مفر منه إن حصل، مع عدم القطع بأن المختلف في الدين ليس على شيء، ليبقى الاختلاف في حدوده التي لا تنفي المشترك المتفق عليه، ثم حصر الوسيلة في التعامل معه بالجدال بالتي هي أحسن، وتأجيل حسم الخلاف في الدين لله دنيا أو آخرة، من دون أن ينتج عن ذلك عدوان أو تحقير أو تنجيس أو ما شابه ذلك، وذلك بفصل الأفكار عن أشخاصها، فيكون النقد والرفض والتوهين والتخطئة والتضليل للأفكار دون معتقديها.

إن قسوة أهل الأديان، وظلمهم لبعضهم، تكاد تبلغ قمة السلم في درجات القسوة والحقد والحسد والتحامل، حتى قتلت به بنو إسرائيل زكريا ويحي، وعيسى لولا أن رفعه إليه، وطعنت في شرف أمه، وأوغلت في الغدر بمحمد (ص)، وكذا فعل المسيحيون ببعضهم وبغيرهم لما تمكنوا من السلطان، فما أكثر ما قتلوا وصلبوا وشردوا وقاطعوا وعزلوا من إخوانهم في دينهم لما بغي بعضهم على بعض في شأن المسيح، ولا يزالون على هذا إلى اليوم عوضاً عن حربهم الطويلة للمسلمين، وكذلك فعل المسلمون خلفاء وعلماء وعوام بمخالفيهم في المذاهب، أكثر بكثير من مخالفيهم في الدين، وكثيراً ما حرَّض علماء الدين السلاطين على إخوانهم ونظرائهم، إمعاناً في البغي على مخالفيهم في الفرق أو المذاهب الفقهية والكلامية، وكثيراً ما تضخم مقولة في جزئية دينية لتصبح هي الدين كله، إن قبلت قبل ما سواها وإن ردت رد ما سواها، فلا يكاد عالم أو فقيه أو عارف أو متصوف اَلمعي إلاّ وقد ذاق السجن أو الطرد والتشريد والحرمان والضرب وغيرها من أصناف الأذى، حتى قد تبلغ القتل والصلب بدعوى الكفر والزندقة، ثم يمر التاريخ فيعود ينصف ذلك العالم ويجله ويعظم آثاره، فكأنما هذه الأمة موكلة بالقضاء على عظمائها لتندبهم بعد ذلك!

إن التنازع الديني والفرقة والاختلاف، يظل سبباً من أوضح الأسباب في شرخ بنية الأمم السياسية والاجتماعية، فهو كالصدع الزلزالي الذي بلحظة عين يشطر الأمة شطرين أو أكثر، ثم لا يعود الالتئام بينهما ممكناً مهما بذل من جهد، فحتى لو ضغطتهما الظروف القاهرة فسيظل مكان الصدع مؤشراً على الصدود بينهما، وسيظل يمثل دالة على مواضع عورة في المجتمع وفكره وعقيدته، بحيث يمكن لأي قاصد مغرض أن يعاود صدعه.

بل إن هذا الصدع الديني سيظل يمثل نظرة جديدة، واختلافاً حول المبادئ ذاتها، وتصدعاً في بنية الفكر والعقيدة لا يقف على نقطة البدء، بل يستمر عميقاً خالقا إجابات مختلفة ومتباعدة حول قضايا واحدة، فإن كان اختلاف النصارى بدأ في تحديد طبيعة المسيح، فإنه لم يقف عند نقطة الاختلاف بل امتد عميقاً ليلامس الممارسات اليومية من طرق العبادة والأعياد والمناسبات والتشريعات وغيرها.

إن أمة الإسلام مبادئها قوية، ولها كتاب متفق عليه مصدراً للفكر والعمل، ولكن حينما ظهرت المذاهب والفرق ودب البغي بينهم، تسببت في شرخ هذه الأمة عميقاً، حتى امتازت فرقاً جليّة التصدع، ولقد كانت قضية الاختلاف في الإمامة بعد رسول الله (ص) هي حجر الزاوية في اختلاف المسلمين في البداية، ولكن هل ظل اختلافهم لا يتعداها، كلا بل امتد عميقاً في صدع زلزالي مستمر لا يكاد يمر بقضية إلاّ اظهر فيها رأيين وأكثر، فامتد ليشمل يوميات الناس في عبادتهم وأعيادهم وأحكامهم وزواجهم وإرثهم، فكأنهم لا يهتدون بكتاب واحد يقولون جميعاً بحاكميته على كل قول، بل ظل مثل هذا الكلام مجرد لقلقة يدعيها كل طرف، ولكن الواقع أن المذاهب قد امتلكت الساحة وحكمت على القرآن وتحكمت فيه، فأمَّته ولم تأتم به، وتحكمت به ولم تحتكم إليه، فهو عند كل فريق لا يدل إلا على ما ذهب إليه.

1 جعلناها بين قوسين لأن في إطلاق هذا المسمى على مفهوم اللاتقيد مخالفة لمفهوم الحرية في الثقافة العرفانية الإسلامية، وهي الجهة التي اهتمت بهذا المفهوم في الفكر الإسلامي

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.