بين المسلم والمسلم .. سلم لا عنف؟

مملكة البحرين

جمعيّة التجديد الثقافيّة الاجتماعيّة

بين المسلم والمسلم .. سلم لا عنف؟

أ.كريمة عبد الكريم

مؤتمر ”الوحدة الإسلامية وديعة محمد (ص)”

مملكة البحرين: 28 إلى 30 ديسمبر 2007م

مقدّمـــة

أصبح العنف سمة بل معلماً لجنسنا الإنساني المتوحّش، ومع أنّ الإسلام جاء برسالة السلام وبثقافة السلم والتأنسن، هذّب الأخلاق، ونقّى الألسن، وزكّى النفوس، وأصلح العقائد، وآخى بين الأفراد، وألبس دعاته لباسه الأبيض، لباسَ الحبّ والسلام، إلاّ أنّ الراصد اليوم لن يُفرِّق أخلاق المسلم عن غيره، بعد أن استُبدلت تلك المنظومة البيضاء النقيّة بغيرها، حتّى أنّه ربّما اشتُهِر عن المسلم أنّه سافكٌ للدماء وإرهابيّ، بل لقد اشتدّ العنف في النفسيّة المسلمة حتى تشاتم وتسابب الإخوة وتكافروا وتقاتلوا، فسفكوا دماء بعضهم، وولغوا في أعراضهم، تحت رايات المذاهب ويافطات التحزّبات والطوائف، فهل هذا الخيرُ الذي أتى به دينُ المحمديّة البيضاء لنكون به شُهداء على الناس ونحن نتذابح؟ هل هذا ما أفنى به (ص) نفسَه لأجل غرسِه وتكريسه، وما رحل إلاّ وأصرّ بأنْ بلّغ شاهدنا وغائبنا به أيّما تبليغ؟!

بعد وفاة النبي (ص) وإلى يومنا هذا عانى المسلمون من ألوان شتى من الاختلافات وانقسموا إلى مذاهب وفرق عدّة، حتى  وصل عدد فرقهم الإسلامية إلى ما يربو على المائتين فرقة، لكلّ فرقة مرجعيتها وعقيدتها، وفي عصرنا الحالي تعاظم الخلاف وتضاعفت حدّة الصراعات بين الفرق أضعافا مضاعفة بسبب تراكمات السياسة، وتناقض المصالح، وتربّص الطامعين، وأدّى تلبّس المذاهب السياسية بلبوس الأيدلوجية، إلى تعالي مشاعر الاصطفاء الديني وارتفاع صور الاصطفاف باسم الدين والمذهب إلى مستويات عالية، لدرجة وصلت إلى حدّ الحرب الفعلية بين بعض فئات المسلمين، وليس خافيا أنّ ذلك قاد الأمور إلى حالة من الفوضى وإثارة الفتن حتى بين أبناء الوطن الواحد، فأبعد كوادر الأمة وطاقاتها عن التنمية الحقيقية، وضيّع أوقاتها وبعثر جهودها بمواجهات لا طائل من ورائها، فوصلت الأمة إلى وضع غير مسبوق من التبعية والتخلّف والتشرذم.

إنّنا نجد في دراسة أسباب العنف ودواعيه بين المسلمين ضرورة هامة، لأنّ العنف أصبح اليوم قضية واقعية يومية مُعاشة، ولأنّ دراسته تُعدّ أولى خطوات محاولة علاج أسبابه، أملاً في إيجاد قناعة مشتركة بين كافة الأطراف، تكون نواةَ إيجاد آصرة حقيقيّة بين مختلف مذاهبهم، وحجرًا أساسا في بناء كيان راسخ وقوي لهيكل الوحدة الإسلاميّة الكبرى.

وعليه، فالمشكلة ليست في تعدّد المذاهب والفرق الإسلامية، إنّما في تنامي ظاهرة التعصّب للمذاهب، لأنّ التعصّب يحمل أصحابه على الخصام والتباغض والصراع ليس بين فقهاء المذهب وأصحاب الرأي (فحسب)، بل بين بالخصوص الأتباع البسطاء والجهّال، الذين هم وقود الفتن والحروب. هذه الظاهرة للأسف متأصلة وليست بجديدة على تاريخ المسلمين، ويمكن قراءتها من خلال صور عديدة أدّت إلى تعميق الخلاف بين أبناء المذاهب الإسلامية وتفكيك أواصر الوحدة والترابط بينهم، منها: كثرة المناظرات الجدلية العقيمة بين فقهاء المسلمين ورجال الدين التي ما هدفت إلى بيان الحق وتمحيص المسائل بل أرادت فقط تعرية الخصم وتحطيمه وكشف ضعف حجته، ومنها: ظهور الأحكام الغريبة عن روح الفقه الإسلامي السمح من قبيل بطلان الصلاة خلف إمام من مذهب آخر، أو تحريم الزواج بين أبناء المذاهب المختلفة، وتكفير أتباع المذهب الآخر أو التشكيك في صحة عملهم والحكم عليهم بدخول النار، ومنها: نشوب الصراعات الدموية وتنامي العنف بين أتباع المذاهب، بل وامتداد الحروب إلى أصحاب المذهب الواحد، ويكاد لا يسلم مجتمع مسلم واحد من آثارها ونتائجها، وإلى اليوم تجد مسلسل الصراعات الدموية لم تنته حلقاته، فمن أخبار المعارك الدامية بين الطوائف في باكستان، إلى المجازر الفظيعة في العراق والتي تكشف عن أرقام متصاعدة من القتلى بين مختلف الطوائف الإسلامية، الصورة هناك مروّعة ومأساوية، وسجال حرب المساجد والأضرحة قائم على أيدي المسلمين، وبتنا لا نشكّ بأنّ شبح الحرب الأهلية وأهوالها أصبح واقعا أو يُراد له أن يكون كذلك.

التعصب المذهبي وما يفرزه من أشكال العنف يعدّ سبباً من أسباب تراجع الإنسان المسلم، وعاملاً رئيساً من عوامل هزيمة وتفرّق الأمة الواحدة، لأنّه يتسبّب في قتل الحرية وتعطيل العقل وتكريس التبعية والجهل، لذا فإنّ قضية التخلّي عن التعصّب للمذهب أو الطائفة والنأي عن إفرازاته لم يعد مطلبا لنهضة الأمة فقط، إنّما هو قبل كل شيء لتحرير الإنسان المسلم وتزكيته بقيَم إسلامه، لأنّه المفروض أن يعيش بعبوديّة الله، إنسانا كريما يتمتع بالاستقلال والحرية، ويتساوى مع غيره في جميع فرص الاعتقاد والاختلاف والتفكير والتعبير، دون أن يجد من يبغضه أو يستعديه ويتربّص به الدوائر في وطنه ووسط أهله بسبب انتمائه وعقيدته.

إنّ من حقّ هذه الأمة المنكوبة أن تعود إلى حالة الاستواء، لأنّ قدرها منذ بدء الخليقة أن تحمل مشاعل الخير والعطاء، ولأنّها أرض الرسالات ومهد الأنبياء وخاتمها، وتقع عليها مسئولية معالجة هذا الواقع المرير والدفع نحو إصلاحه عملا بوصية القرآن الكريم: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)(آل عمران: من الآية110).

تهدف هذه الورقة لدراسة أسباب العنف بين فرقنا الإسلامية، بأمل إرجاعها إلى منظومة القيم التي دعا إليها الإسلام وفي مقدمتها قيم السلم والسلام، باعتبارها مبدءاً عاماً وأساسياً للحياة الإنسانية، وضرورة هامة للتعايش والانسجام بين أبناء الأمة، وتلقي باللائمة الأولى على عقيدة (الاصطفاء الديني) و(امتلاك الحقّ)، وما تفرزه من تعصّب أعمى يؤدي إلى ارتفاع وتيرة التطرّف الديني ضد الآخر المختلف وإلغائه أو محاربته، وتعتمد الورقة في رؤيتها النصّ القرآني مرجعاً لها، كما تستهدي بسيرة النبي(ص) وأسلوب تعامله الهادي مع الطوائف المسلمة المنتسبة لرحابة الإسلام.

أسباب العنف مع الآخر المسلم

لقد دعا الإسلام لتأسيس دولة مدنية تنصهر فيها القوميات وتذوب فيها أحاسيس الولاء الصغيرة، فتحدّث عن بعض الأخلاق القبلية ونصح بتغييرها، وتطلّع لبناء مجتمع متحضّر يعيد الاعتبار للقيم الإنسانية بل ويرتقي بها ويدفع بالإنسان للسير باتجاه عالم التعارف الوسيع ونحو عمارة الأرض، إلا أنّ القصور بقي سائداً في فهم هذه الغايات وإدراك أبعادها، فوصلت الأمة إلى حالة العجز عن الانسلاخ من أثواب الطائفية والقبلية وارتداء حلّة الإنسانية الخالصة.

ومع تسليمنا بواقع وجود القبلية والعشائرية والطائفية والمذهبية، ولكن علينا ألاّ نرضى بهذا الواقع إن كان سبباً لجلب الشرور، أو مانعا عن تحصيل الخيرات، القبلية والطائفية والمذهبية أصبحت اليوم واقعا لا مفرّ منه، لكن من غير المعقول قبول ما تفرزه من عصبيات وتحزّبات وما تجرّه من نخر وتمزيق، والعصبية تعني –فيما تعنيه- الانحياز لشيء والاستماتة في الدفاع عنه تحت تأثير العاطفة دونما تفكير أو تعقّل، وإن كان على حساب المصلحة العامة أو الأخلاق الإنسانية أو الحقّ، والعصبية تستوجب على صاحبها نصرة جماعته في كل الأحوال دون الاعتبار للجماعات الأخرى، وإن استدعى الأمر المواجهة أو التصارع مع الجماعات الأخرى، كما أنّها –أي العصبية- توجّج مشاعر الانتماء والحمية إلى الكيان الجمعي للقبيلة أو المذهب أو الطائفة على حساب الحقوق الإنسانيّة والاقتصادية والسياسية للفئات الأخرى، وتؤصّل لمبدأ التفوّق الذاتي مقابل دونية الآخر، وترفض مبدأ الحوار المتكافئ والاستماع إلى الرأي الآخر، في خلاف واضح لنهج النبيّ (ص) وما جاء به وبيّنه حفيده عليّ بن الحسين (ع) بقوله: (العصبية التي يؤثم عليها صاحبها أنْ يرى الرجلُ شرارَ قومه خيراً من خيارِ قومٍ آخرين، وليس العصبية أن يُحبّ الرجل قومه، ولكنّ العصبية أن يُعين قومَه على الظلم)!

في واقعنا اليوم، نجد أنّ العنف الطائفي أو المذهبي كغيره من أنواع العنف يأخذ أشكالا عديدة لا يمكن حصرها في العنف الدموي، فهناك العنف السياسي الذي يعني التمييز بين المواطنين وسلب حرياتهم وقمع إرادتهم، وإساءة معاملة المعارضين أو الانتقاص من حقوق الناس بدواعي طائفية، وهناك العنف النفسي والرمزي واللّفظي الذي يركّز على توجيه تهم القذف والشتم والسبّ العلني وبلا كوابح إلى المخالفين بهدف الحطّ منهم، أو الضغط عليهم ومحاصرتهم ومضايقتهم في أرزاقهم ومعاشهم بسبب انتمائهم أو التشهير بهم وتلفيق كل ما من شأنه إسقاطهم اجتماعيا، أما العنف الدموي فهو يسوّغ استخدام السلاح وإشهاره في وجه الآخر تحت ذريعة الواجب الشرعي والمسئولية الدينية وذاك أقسى أشكال العنف وأخطره.

في ظل حالة التمذهب داخل المجتمعات الإسلامية، وبغض النظر عن الأسباب السياسية التي كانت -عبر تاريخ الإنسانية الطويل- سبباً رئيسيّاً في جرّ أتباعها إلى ممارسات وأشكال لا حدود لها من العنف باتجاه الآخر المخالف، فإنّ ما يعنينا هنا دراسة الدوافع العقائدية التي تولّد العصبيات وتحمل طرف ما على تبنّي أساليب العنف، علما بأنّنا نعرّف الآخر أنّه من يخالف ذاتيّتنا مخالفة عقائدية أو مذهبية أو فكرية، ونجد بأنّ أهم أسباب اللجوء إلى العنف بين المختلفين هي كالتالي:

أولا: العقيدة تجاه الذات:

فيجزم المذهبيّ بأنّ عقيدته التي هو عليها هي الحق، وما سواها باطل، إلى الحدّ الذي يصل به للاعتقاد بأنّه –وجماعته- من الذين فضّلهم الله وسيرحمهم دون العالمين، وذلك ما يُعرَف (بالاصطفاء الديني)، أي القطع بأنّ عقيدته هي صفوة العقائد وأفضلها، وهي قمة الكمال والنزاهة والأحقيّة، خالصة من الشوائب منقيّة من الزيغ، ومن دواعي الفخر والشكر أن أكرمه الله بالانتماء إليها وحرم غيره، فعافاه الله مما ابتلاهم به من أشكال القصور أو أنواع البدع، فقد انتمى إلى (الفرقة الناجية)، وأعماله تؤدي به إلى الجنة ونعيمها، أما عقيدة الآخرين وعملهم فيوصلهم إلى جهنّم مهما عملوا واجتهدوا، وإن امتلكوا محاسن الأخلاق وجميل الصفات فإنّهم حتما واردوها بسبب فساد عقائدهم، أمّا أئمته ومشايخه فهم القدوات والهداة دون غيرهم، والاقتداء بهداهم والسير على خطاهم يصل بالمرء إلى النجاة والكمال.

عقيدة الاصطفاء الديني إن استحوذت على فكر جماعة فإنّها يمكن أن تكون بؤرة لإقصاء الآخر وإلغائه وسببا لاستخدام العنف ضدّه، وبالأخص إن هيمنت عليهم فكرة أنّهم الجماعة المصطفون المنتقون الموكلون بحماية الدين والدفاع عن بيضته، لذلك تجد هؤلاء شديدي المحافظة على عقيدتهم المذهبيّة، حريصين على توريثها أبناءهم، وفي أغلب الأحيان كلّما ازداد الأفراد تحصيلاً وحفظاً ازداد تأصّل هذه العقيدة في نفوسهم وازداد اليقين بصحتها وفساد ما سواها.

ثانيا: العقيدة تجاه الآخر:

الوجه الآخر للجزم بصحة عقيدة الذّات والثقة المطلقة بأحقيّتها هو النظرة السلبية إلى الآخر، لأنّها تقود إلى الاعتقاد ببطلان عقائده، وبالتالي النظر إليه بانتقاص ودونية، والآخر هو مَن لا يتبنّى عقيدتك، ولا يقول بفكرتك، أي كلّ من يقف على الجانب الآخر منك، لهم مسمّيات كثيرة بحسب مسافة ابتعادهم منك (كونك المركز والمعيار)، الضالون، الخارجون عن الدين، الأنجاس، الأغيار، وأحيانا تطلق عليهم تسميات جارحة كالكفار أو الروافض أو النواصب، وكلّها تنمّ عن الجزم ببطلان عقيدة الآخر وفساد عمله قبال صحة عقيدة الذات وسلامتها وضمان خاتمة أعمالها.

وحين تتطوّر فكرة فساد عقيدة الآخر فإنّها تصل بصاحبها إلى مستوى التطرّف، وحينها تزداد صعوبة قبول الآخر أو التعايش معه، لأنّه يراه لا يستحق أية امتيازات، فتأتي الأحكام تبعاً بتعليلاتها وتشريعاتها بوجوب أن يستأصل من الوجود والحياة، فوجوده يشكّل خطرا على الدين والعباد، ولا بدّ من أن يزال وتنزع عنه الشرعية، وأن ينفى ويُقزَّم، هذه النظرة المتطرّفة هي منبع ثقافة العنف والإقصاء والكره والبغض بين الفرق، وكنتيجة حتمية فإنّ هذه الحالة حين تضاف إليها عوامل التمزيق السياسية والتنافس على السلطة والنفوذ، فإنّ الأمر سيضطرم بألوان العنف، القولي أو الفعلي، وفي هذا المعترك المُطيِّش للألباب لن يتردّد معتنقو العصبية ومدّعو الاصطفاء الديني من انتهاك القيم الإنسانية وخوض إبادات شرسة لمخالفيهم.

المخرج من نظرة الاصطفاء الديني:

لابدّ أن يبدأ الحلّ أولا بإعادة النظر إلى الذات، بتحمّل كلّ فرقة من الفرق الإسلامية مهما كبر أتباعها أو قلّوا مسئوليتها أمام الأمة، بأنّها كغيرها من الفرق تماماً، لها من الحقوق مثل التي للأخرى، وعليها من الواجبات كالتي على الأخرى، وإنّ عقيدتها التي تؤمن بها وتعتز بالانتماء إليها هي عقيدة مذهبية مهما جمعت حولها من أدلة وبراهين، ولا يمكنها بأيّ وجه من الوجوه الجزم بنقائها الخالص، إذ لم يأت الوحي الصريح مزكيا لها دون غيرها، إذن لا بدّ أن يبدأ كلٌّ من نفسه، من ظنّه بعقيدته، فلا فضل لعقيدته على غيرها (إلاّ ما أثمرت مزيداً من التقوى تجاه الله وتجاه الآخر)، ولكلّ رأيه وأدلته، أما الحقّ فمفرّق بين هذا وذاك.

إنّ خير ما يتوجب لهذه الفرق والمذاهب أن تقتدي به قول خير البريّة وهو رسول إلى النّاس جميعاً، الذي كان مسدّداً بوحي السماء، إلا أنّه لم ينزّه نفسَه وعقيدته أمام عقائد الآخرين رغم ثقته بسلامتها ويقينه بنزاهتها، رسول الله كان يقول للآخر الذي يجادله في عقيدته: (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) (سـبأ:50)، فيا ليت ينظر المسلمون -الذين يقفون اليوم على بعد أربعة عشرة قرنا من رسول الله مختلفين متضادين فرقا ومذاهب- بعين الإنصاف إلى غيرهم، فما من فرقة مسلمة منزوعة الحقّ، والحقّ ليس خالصا لأحد دون سواه من المؤمنين، وما خصّ به فرقة دون الأخرى، وما نحن عليه اليوم هو محصلة الافتراق والصراع بعد قرون من وفاة النبي(ص) توزّع إثرها الحقّ بين أبناء الأمة بعدما تفرّقت شيعا، ولا يمكن الجزم بأنّ هناك فرقة إسلامية بعينها هي على الحقّ المطلق، والآخرون على الباطل المحض، فالقوم ما تفرقوا بعد وفاة النبي(ص) إلا مجتهدين مريدين الصواب، ووقتها تفهّم الصحابة طبيعة هذا الخلاف فتعايشوا وتناصحوا وتساندوا وتولّى بعضهم بعضا، لكنّ السياسة والمطامع وعصبيّة الجهل دخلت بين الإخوة فأفسدتهم، فكان أن لعب ساسة الأمويّين والعبّاسيّين ومن جاء بعدهم أدوارا خطيرة في توظيف هذه الفرق والاستقواء بها تشريعاً وتقويةً لسلطانهم.

إنّ لكلّ فرقة مذهبية الحقّ بممارسة خصوصية مذهبها غير المسيئة للآخرين، ولها العذر أن لا تقبل التشكيك في تفاصيل اعتقاداتها وممارساتها، لأنّه شأن خاص بها، ولكن عليها أن تصحّح نظرتها إلى نفسها ونظرتها للآخر، فليست هي الأزكى والأطهر والأفضل بين الفرق، وليست عقيدتها هي المقبولة فقط عند الله دون غيرها، والآخر ليس نجسا ولا من أهل الباطل، وليس فرقةً ناريّة، إنّما هو أخ في الدين ثمّ نظير في الخلق، هو الإنسان الشريك لها في هذا الوجود، ولتتأمل كل فرقة في قائمة المشتركات فستجدها طويلة لا حصر لها، على المستوى الإنساني والديني والوطني، تلك القائمة ستطالبها بأن تأخذ بيد الآخر ليسيرا معا نحو التعارف والتعاون على البر والإصلاح.  فالخطوة الأولى إذن في هذا المجال هي أن يعيد كل فريق تسميته لنفسه وللآخر، فلا هو طاهر نزيه ولا الآخر نجس، ثم بعد ذلك عليه أن يتخذ خطوة عملية بأن ينقل الفريق الآخر من خانة المخالف إلى خانة الأخ والصديق والإنسان، فيحرّم على نفسه سبّ الآخر أو الاستهزاء بعقيدته أو احتقار آرائه ناهيك عن اتهامه بالكفر والزندقة والضلال.

إنّ (عدم تزكية الذات) و(تقبّل الآخر وتفهمّه) كيفما كان، هما خطوتا بداية طريق النهوض ونفض غبار التخلّف والجمود، ثم إنّهما – وإن بدتا لضيقي الأفق انسلاخاً عن الهوية وعدم الوفاء للانتماء- تمثّلان إعادة المصالحة مع الدين الرحب الواسع، لأنّ توازن الذات وإنصاف الآخر هي فضيلة وعقلانية وحكمة يمكن أن تقود إلى ميلاد خطاب واحد متّسق ومعتدل مبني على أساس رعاية المصالح العليا للأمة بجميع طوائفها، يكون مصداقا لعالمية الإسلام وقبوله التنوّع، وبالتالي سببا لاعتناقه وانتشاره.

مبدأ السلم واللاعنف بين المسلمين:

الأصل أن لا عنف مع الآخر المخالف، هكذا تعلّمنا سيرة الأنبياء(ع)، سيرتهم كانت الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ثم الجدال بالتي هي أحسن، ولا مكان للسيف ولا للغة الدم في حركة الأنبياء.

وفي قوله تعالى : (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا، فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ، فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات:9)، ليس منفذا لجواز التقاتل بين المؤمنين، بل إنّها تحدّد أسلوب التعامل مع المؤمنين في حال تنازعهم واختلافهم على أمور الدنيا لا الاختلاف في أمور الدين، وفيها إشارات هامة لا بد من ذكرها:

أولا: يدلّ قوله: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) أنّ التقاتل بين المؤمنين أمر وارد لأنّه طبيعة بشريّة، وطبيعة الحياة وقوانين تدافعها على موارد الرزق والنفوذ والمصالح قد تؤدي إلى التقاتل بين الناس، وربما يشتعل القتال رغبة في الانتصار للذات وقهر الآخر، وهي أمور من طبيعة المجتمعات القبلية التي نزل في بيئتها القرآن الكريم، فجاءت الآية الكريمة لتقدّم منهجا للتعامل مع مثل هذه الحالات، فلا من تصادم ولا قتال بين المؤمنين لاختلافات في العقيدة والفكر أصلا، وليس مقبولا أن تورى الحروب بسبب اختلافات دينية على الإطلاق، وفي كل الأحوال يتعامل الإسلام مع مثل هذه المشكلة الداخلية في حدودها وضمن حيثياتها وظروفها، ويسعى لحلّها وإعادة الأمور لما يجب أن تكون عليه، ويوكل مسئولية معالجة الأمر إلى الدولة وحدها، وهي المؤسّسة الوليّة للأمر والمعنيّة بالخطاب، بأن تسعى إلى إصلاح ما فسد وإعادة اللحمة بين الأخوة والعمل على تضميد الجراح عبر قضاء محايد يحكم بين الفريقين بالعدل، ويتولّى متابعة دفع الديات لتطييب الخواطر وإرجاع الأمور إلى نصابها: (فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).

وتوضّح الآية أيضا أنّه إن كان من مبرّر للدولة أو السلطة القائمة للقوّة فهو لإيقاف الاعتداء، ودفع البغي، لئلاّ يشيع قانون الغاب بالعنف والعنف المضادّ، فلا سكوت عن المعتدي بعدما تصالحت الأطراف المتنازعة، ولا بدّ أن يعاقب المعتدون، وتلك صلاحية الدولة وحدها وضمن قوانينها، ولا يجوز بأي حال من الأحوال أن تدّعي أي فئة حقّها في قتال غيرها إلاّ ردّاً لعدوان في حال عدم وجود حكومة تبسط القانون والأمن: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة:190)، تلك التوجيهات مطلوبة في حال مقاتلة الآخر المحارب المشرك، فمن باب أولى أن يعمل بها في حال نشوب القتال بين المؤمنين، وقتال الإمام علي(ع) للخوارج الذين ابتدروه بالقتال والإخلال بالأمن مثال يُحتذى في السياق.

ثانيا: أنّ النبي(ص) لم يسعَ بعد تأسيسه للدولة المدنية إلى إلغاء الطوائف، فقد بقيت المدينة حاضنة لطوائف عديدة، وفي اللغة “الطائفة” من طَوَفَ وهو ما يدلّ على دوران الشيء على الشيء، وأن يحفّ به[1]، والطائفة من الناس هي الجماعة التي تحفّ بشيء تعدّه من ثوابتها فتلتزم به وتُناضل من أجله، وقد يكون هذا الشيء الجامع عقيدة دينية أو انتماء عرقياً أو ولاء فكرياً أو غيره، ولقد أطلق القرآن على القبائل في المدينة وهي ذات انتماء عشائري قبلي لفظ طائفة كما ورد في قوله عن (قبيلتين) همّتا بالانسحاب في معركة أحد تحت تأثير زعماء المنافقين (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا)(آل عمران:122)، وهما بنو سلمة بن الخزرج، وبنو حارثة بن الأوس، وقد هموا بالانصراف من المواجهة مع عبدالله بن أبي سلول.

النبي(ص) إذن لم يمنع هذه التكوينات رغم اختلاف مشاربها وعناوينها، والمعروف أنّ مجتمع الجزيرة العربية مجتمع عشائري قبلي، فأبقى النبي(ص) على تسمياتها واحترم تشكيلاتها، حتى أنّ أقرب الفصائل إلى الدعوة النبوية ورسالة التوحيد وهم المهاجرون والأنصار، حافظ النبي(ص) على أسمائها وخصوصيتها، حتى ليصحّ أن نسميها طائفة المهاجرين وطائفة الأنصار، وبحكم توسّع دولة النبي(ص) فربما انضمّت إلى المجتمع المسلم تجمّعات عشائرية أو عرقية، وربّما دخلت جماعات باسم طائفة التجّار أو الشعراء أو ما إليها، وعلى كلّ الأحوال، فقد أقرّ النبي(ص) كافة الطوائف ولم يمسّ خصوصيتها ولم يشر لها ناقدا بقول أو إشارة.

وفي سيرة النبي(ص) نجد على سبيل المثال، أنّه في فتح مكة خرج في عشرة آلاف شخص، وقد عقد الألوية والرايات وفق الإطار القبلي والعشائري، وحتى المهاجرون الذين شكّلوا سبعمائة شخص فقط، جعلهم في ثلاث رايات حسب تكتلات معينة، فراية مع الزبير، وراية مع علي، وراية مع سعد بن أبي وقّاص، والأنصار حمّلهم رايات عديدة بتعدّد رؤوسهم وعشائرهم، فراية لبني عبد الأشهل وأخرى لبني مالك بن النجار ولبني ظفر وبني أمية، وبني ساعدة، وبني خطمة وغيرها، خروج النبي(ص) بالرايات وتسميته كلّ راية باسم مرجعيتها الأصليّة، يعكس محافظته على حالة التجمّعات والطوائف الموجودة، وإبقاء الامتيازات والأسماء وعدم التنكّر لأصول أي طائفة وانتماءاتها.

إلا أنّ النبي(ص) عمل على ترتيب أولويات الحميّة والولاء والانتماء، فجاءت الآيات تحرّم الولاء لغير المؤمنين وإن كانوا آباءهم أو أبناءهم أو من طائفتهم أو عشيرتهم (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)(المجادلة: من الآية22)، كما أنّه حرص على تعزيز العلاقات بين المؤمنين بتأصيل مبدأ الأخوة بينهم دون أن يفسخوا ولاءهم لعائلتهم وعشيرتهم وقومهم، وعزّز (بوثيقة المدينة) الانتماء للمدينة مركز الدولة فاعتبر الدفاع عن المدينة واجباً على الجميع بغضّ النظر عن انتمائه ودينه في حال تعرضها للهجوم، وقد أخذ على الأنصار في بيعته الأولى في العقبة أن ينصروه ويقدّموه على أهلهم وذويهم، ثمّ بعد قدومه للمدينة سنّ ذلك في وثيقة دستور المدينة التي ارتضاها وسلّم بها سكّان المدينة ومن حولها بما فيهم اليهود والمشركون، وفيها أراد (ص) أن يؤكّد على أنّ النصرة والولاء لكلّ جامع خيرٍ، من الدين والوطن والنبي(ص) والقيَم، على الجوامع الصغرى مثل العشيرة والقبيلة واللسان والقوميّة، وأنّ الاجتماع على قيَم الدين والدفاع عن مبادئها هو المقدّم على ما سواه، فقيَم الدين وسلامة الوطن مسئولية الجميع ويجب أن يحتل المرتبة الأولى قبل مرتبة الولاء للطائفة أو العشيرة والقبيلة.

فالنبي(ص) إذن لم يلغِ الطوائف والعلاقات العائلية والقبلية والعشائرية، وليس من الحكمة إلغائها، لأنّ الإنسان بطبعه يميل لمثل هذه الانتماءات ويرتبط بها عبر علاقات القربى والرحم وله فيها مصالح كثيرة، ومع اعتماده لترتيب لأولويات الانتماء، فإنّه حارب العصبيات التي تفرزها حالة الانتماء المطلق لتلك الطوائف والتي تدعو أصحابها لدوس المبادئ من أجل نصرة العشيرة أو الطائفة وإن على حساب الطوائف الأخرى، وقد قال رسول الله(ص): (من كان في قلـبه حبة من خـردل من عصـبية، بعـثه الله يوم القيـامة مع أعراب الجاهلية) [2]، وقال (ص): (ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية)[3]، وحينما ضرب شابٌّ أمامه بالسيف قائلاً لخصمه (خُذها وأنا الفتى الفارسي) وجَّهه (ص) أن يقول (خُذها وأنا الفتى الأنصاريّ)، ليكون (نصيراً) لقيَم الرسالة، مهما كان فارسياً أو هنديا أو عربيا.

ثالثا: في قوله تعالى: (حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) تبيّن حرص الدين على استقرار الأمر وعودة المجتمع إلى حالة الاستواء، فالمراد من (أمر الله) في الآية (أمرُه) بعدم التقاتل بين الإخوة، وهو الصلح الذي أوقف ظاهرة التقاتل الوارد في الآية السابقة، تطبيقاً لأمر الله الأكبر وهو: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)(البقرة:208)، أي يجب الضرب على يد الطائفة الباغية، لتعاود الاندماج في مجتمع السلم وتلتزم باحترام الآخر وبصلاح ذات البين وباعتماد أساليب التحاور الإنساني في حال الاختلاف.

رابعا: فإن قلنا أن الآية تدعو الدولة لممارسة دورها في ردع الباغين، إلا أنّها تؤكّد على أنّ قتال هؤلاء هو من باب ردع المعتدين، وهي تحدّد أيضا مقدار القتال المسموح به، فلا عقيدة الآخر وفكره وجنسه أو عرقه بل ولا فعله وانتهاكاته وشروره وقسوته هو الذي يحدّد مستوى ونوع العنف ضدّه، إنّما المبادئ والقيم والأهداف هي التي تحدّد نوع ومستوى القتال، وكلّما سمت هذه المبادئ والقيم واقتربت من الإنسانية ستخف حدّة العنف، وغاية الردّ منع البغي وأخذ المجتمع بأسره إلى السلم، فتراها –ضمن قوانينها- تميل للعفو والتجاوز لأنّها أكثر إنسانية ورحمة ومسالمة، تقاتل في كلّ الظروف كطرف مناقبي لا يفجر ولا يجهز على جريح ولا يفسد البيئة ولا يقطع شجرة ولا يعتدي على ضعيف، يحبّ الخير والسلام، ويبغض القتال والعدوان، لا يخرج بغضبه قط إلى باطل، ولا يكون أبدا في أي موطن شرسا أو أهوجا يُصيب البريء بجناية المجرم.

لذا فإنّ تشريع قتال البُغاة من الطوائف في الآية هو تشريع قانوني بحت، غرضه ردع المعتدي بلا نظر إلى جنسه أو لونه أو مذهبه أو غيرها ولو كان هو الطائفة الحقّة (!) وسليل الأنبياء جميعاً، قانون عام لا يحابي أحدا، ويسري على الجميع بلا استثناء، وبه اكتسبت تشريعات الدين صفة العالمية لأنّها لا تفرّق بين أحد لمذهبه أو دينه أو جنسه أو عرقه أو عائلته أو أي شيء آخر، فلا يجيز الإسلام مثلا قتل السارق غير المسلم، بينما حدّه الأعلى بقطع يد السارق المسلم، الكلّ عنده متساوون أمام القانون، والقاتل حدُّه الأعلى يقتل ولا يُمثّل به ولا يُعذَّب قبلاً، بلا نظر إلى دينه أو مذهبه أو انتمائه أو لونه أو قربه وبعده، وهذا ما أراده الرسول(ص) حين كلّمه أسامة في امرأة سرقت، فقال (ص): (أيها الناس إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ، وأيمُ الله لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)، فالعدالة عمياء لا تفرق بين أحد، ولو كان الجاني أقرب الناس إلى قلب النبيّ وأطهرهم وأزكاهم كابنته فاطمة.

إن الالتزام بمبدأ تطبيق القانون على الجميع، يجعل المشرّع ينظر إلى الآخر كإنسان قبل أي شيء، وبهذا الاعتبار فإن القانون سيكون عادلاً سمحاً حتماً، لأنّه يشرّع لردع الإنسان وإعادته عن غيّه لا لردع مخالفٍ في عقيدة ومذهب، فليس هناك تشريع لفئة بالخصوص، لأنّ مثل هذا التشريع سيكون تشريعا ظالما جائراً. وقد أشار القرآن إلى اليهود كونهم يرون أنفسهم أنّهم شعب الله المختار، وقد خلقت الجنّة لهم، عاشوا بهذه العقيدة وسرت في سلوكهم ومعاملتهم مع الناس، يردّدون مقولة (ليس علينا في الأميّين سبيل)، فجوّزوا لأنفسهم نهب الآخرين والانتقاص من حقوقهم، لقد أدان القرآن الكريم فعل اليهود، وردّ عليه مهدّدا بأن الجنّة إنما خلقت للمؤمن الصالح وليس لعرق من الناس دون غيرهم، وإنّ ظلم الإنسان للآخر مرفوض مهما كان هذا الآخر، فمبدأ من ينتسب إلى الشرائع السماوية يجب أن يتجلّى بدعوته إلى الرحمة والمساواة بين الناس جميعا.

المنافقون مثال للآخر، والنبي مثال للتعامل مع الآخر:

دخل الإسلام المدينة قبل هجرة النبي (ص) مع من بايع النبي(ص) في العقبة الأولى ثمّ مع من بايعه في العقبة الثانية، بعدها انتشر الإسلام واتسعت رقعته على يدي رسولي رسول الله (ص) مصعب بن عمير وعبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنهما اللذين أرسلهما رسول الله (ص) معلمَين ومرشدين لأهل المدينة يعلّمونهم أحكام الإسلام وأخلاقياته، ويقرأون عليهم القرآن وشرائع الدين، ومع ذلك فقد بقي في مجتمع المدينة أناسٌ ظلّوا على شركهم ووثنيتهم، كما ضمّت المدينة عددا من قبائل اليهود الذين منذ أتتهم أخبار الدين الجديد توجّسوا منه واتخذوا منه موقف المريب.

لم يكن المسلمون في المدينة على حال واحد، فمنهم الأنصار الذين أخلصوا في بيعتهم لرسول الله وللدين الجديد، قد استقرّ الإيمان في قلوبهم وتشربته نفوسهم، فصدقوا ما عاهدوا الله عليه، وكان من أهل المدينة جماعة سمّيت بالمنافقين، وهم مسلمون تظاهروا بالإسلام والتصديق بنبوة محمد (ص) وقبول رسالته، إلا أنّ قلوبهم لم تذعن لرسالة الإسلام، فأبطنوا الكفر والعصيان والكراهية لمحمد وللدعوة الجديدة، ظاهرهم مع النبي ومع طاعته وولايته على المجتمع، أما باطنهم فكاره لذلك النبي(ص) الزعيم القادم من بعيد الذي خطف منهم زعامتهم، وملك قلوب الناس فأرخصت له الأموال والأرواح، فعقدوا العزم على التربّص به والتآمر عليه، وتطلّعوا لإبطال دعوته والنيل من مقامه.

ومع هذا فلم يظهر المنافقون للنبي(ص) وأصحابه إلا الودّ والقبول والطاعة والمساهمة في محاربة الأعداء وفي تأسيس الدولة، تماما كما فعل الصادقون من الأنصار، فقبِل النبي(ص) ظاهرهم رغم علمه بحقيقتهم، فلقد كان مبدؤه التعامل مع الناس بظواهرهم وليس بناء على دواخلهم، فترك أمر البواطن ليوم آخر يُطَّلع فيه على الأفئدة، وعمل بحكمته على احتوائهم بالموعظة ودفعهم نحو صالح الأعمال وتحذيرهم من يوم الحساب يوم تبلى السرائر، فإذا علمنا أنّ المنافقين كانوا من زعماء القوم في المدينة وأثريائها وأصحاب النفوذ فيها، ولقد أخافهم دخول النبي(ص) وكثرة أتباعه، وأفقدهم وجوده الكثير من مصالحهم وتطلعاتهم نحو الزعامة، وأنّه كان لهم أتباع كُثُر يستمعون إليهم ويتأثرون بهم يشكّلون معهم أكثر من ثلث مجتمع المدينة، فلنا أن نتصوّر الآثار المدمّرة التي يمكن أن تحصل في المجتمع لو واجههم النبي(ص) بحقيقتهم خاصة مع علمه بطبيعة المجتمع المدني العشائري وتشابك علاقات القربى والأرحام والمصالح بين مسلمي المدينة ومنافقيها القائمة أصلا قبل مجيء النبي(ص) فما كان من الحكمة أبداً تجاوزها ناهيك عن تفكيكها.

ولقد حاول المنافقون الاستفادة من ساعات المواجهة في الحروب لزعزعة المؤمنين وخلخلة صفوفهم، وكانوا يثيرون النزعات الجاهلية ويستغلون حداثة العهد بالدين الجديد، فجاءت الآيات لتكشف للمؤمنين حقيقتهم وتذكر مواصفاتهم وتحركاتهم المضادة، وسعيهم باستمرار لإضعاف الجبهة الداخلية للمسلمين والتشكيك برسالة النبي والطعن في صحة قراراته، نذكر منها قوله تعالى:(وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) (الأحزاب:12)، ومنها كشف فعلهم في تثبيّط العزائم وإشاعة روح التخاذل والتعويق وبالأخص في لحظات المواجهة والحرب تجدهم (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً) (الأحزاب:18)، ومنها إخبار القرآن عن مساعيهم للنيل من شخص النبي(ص) ويتناجون فيما بينهم للتحريض على عداوته والحضّ على عصيانه والسخرية منه واتهامه بالسذاجة والتبعية (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ)(التوبة: من الآية61)، كما توضّح الآيات ردّة فعلهم أمام قراراته ووقوفهم محبّطين عنه مشكّكين في فهمه وعقله (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورُ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ) (التوبة:48)، وغيرها كثير حتى وصل بهم الحال إلى حدّ التآمر عليه وطعنه في عرضه بتوجيه الاتهام لزوجاته كما في حادثة الإفك.

إنّ أمرا واحدا من تلك الأمور تكفي لأن يتخذ النبي(ص) قراراً حاسماً ضد “طائفة” المنافقين، ولقد أشار كثير من الصحابة على النبيّ (ص) بالتخلّص من أذاهم وتصفية زعمائهم، إلا أنّه لم يتعامل معهم أبداً كأعداء، بل تصرّف معهم بصبر ورحمة وتأليف القلوب، ورغب في التعايش معهم ومنحهم حقوقهم كاملة، فاستقبلهم في مجالسه واستمع لآرائهم، وشاركهم في شئون الحرب والسلم، ومنحهم من عطاياه وخصّص لهم كما لغيرهم نصيبا من غنائم الحرب، ولم يردّ على أذاهم، بل سعى لاستيعابهم ومحاولة إصلاحهم، وكثيرا ما تجاهل دسائسهم ومكرهم وقابلها بكريم خصاله وسماحة نفسه.

اختيار النبي(ص) التعامل معهم بحلم وأناة وشفقة وإعراضه عن حربهم وقتالهم رغم كل ما فعلوه، كونهم لم يخونوا الوطن ولم يسفكوا الدم الحرام، هذا الموقف جدير بالتأمل والمراجعة من قبل المسلمين من أتباع محمد(ص)، لأنّه لم يتساهل (ص) مع غيرهم، لم يتساهل مثلا مع غدر وخيانة اليهود الذين باعوا الوطن وتآمروا لسفك دم المسلمين وغيرهم من أهل المدينة، وها هنا بعض الشواهد:

في يوم وفاة زعيمهم عبدالله بن أبي قال عمر بن الخطاب(رض) للنبيّ (ص) لمّا رآه يهمّ بالصلاة عليه، فقال: “أتصلّي على ابن أُبيّ وقد قال يوماً كذا كذا، ويوماً كذا كذا؟ وعدّ عليه قوله، فما كان من النبي(ص) إلا أن تبسّم وقال: أخّر عني يا عمر! فلما كثر عليه عمر، قال(ص): إنّي قد خيّرت فاخترت، ولو أعلم إنّي إذا زدت على السبعين غفر له زدتُ عليها، وهو قوله عزّ وجلّ: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ)(التوبة:80)[4]، يقول محمد دروزة في كتابه سيرة الرسول: “إنّ النبي(ص) قد اعتبر ما جاء في الآيات القرآنية بمثابة توجيهات متروك إليه أمر تقدير ظروف تنفيذها، والسير فيها بما يوافق مصلحة الإسلام والمسلمين، لا سيما أنّ بعض الآيات الواردة في هذا الصدد قد تخلّلتها جمل تلهم معنى التعليق على شرط، مثل جُمَل: (فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ)(التوبة:74) و (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ)(الأحزاب: 60) و(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ)(النساء:89) و (إنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ)(التوبة:66)”[5].

وفي طريق عودة جيش المسلمين من غزوة بني المصطلق قي شهر شعبان سنة أربع من الهجرة، حصل سوء تفاهم لتزاحم على الماء بين رجلين من المسلمين، أحدهما من المهاجرين والآخر من الأنصار، فصاح كل منهما باسم جماعته لتنتصر له، فلما علم رسول الله بذلك بادر للحضور إلى موقع الحدث وصاح فيهم: “ما بال دعوة الجاهلية وأنا بين أظهركم، دعوها فإنها منتنة”[6]، فانتهت الحادثة بتنازل الأنصاري المضروب عن حقه، فالنبي(ص) أراد تنبيه المسلمين لخطورة العودة إلى العصبيات الجاهلية، لكن عبدالله بن أبيّ أراد اغتنام الفرصة لتأليب الأنصار على المهاجرين وإثارة الفتنة، فصار يذكّي في قومه روح العداء للمهاجرين قائلا: “هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم دياركم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير داركم، ثم لم ترضوا بما فعلتم حتى جعلتم أنفسكم أغراضا للمنايا فقاتلتم دونه –أي النبي(ص)- فأيتمتم أولادكم وقلّلتم وكثّروا، فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضّوا من عند محمد”، وقد أثارت مقالته المسيئة للنبي(ص) المحرّضة عليه غضب المسلمين، فطلب عمر بن الخطاب من رسول الله أن يسمح له بضرب عنق رأس النفاق عبدالله بن أبيّ، قائلا: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فرفض النبي(ص) قائلا: (دعه، لا يتحدّث الناس أنّ محمدا يقتل أصحابه)[7].

وقد تآمر بعضُ المنافقين بعد غزوة تبوك لاغتيال النبي(ص) وهو في طريق عودته إلى المدينة، لكن رسول الله(ص) اكتشفهم، وأمر مَنْ معه وهو حذيفة بن اليمان بمهاجمتهم، فهربوا واختلطوا بالجيش حتى لا يعرفهم أحد، وأخبر حذيفة رسول الله بما كانوا تمالؤوا عليه وسماهم له، فأمره النبي(ص) بكتمان أمرهم، فقال حذيفة: يا رسول الله أفلا تأمر بقتلهم، فقال (ص): أكره أن يتحدّث الناس أنّ محمداً يقتل أصحابه.[8]

وحينما علم زعيم الأوس أسيد ين خضير بما حصل، قال لرسول الله(ص) مُرْ كلَّ بطن –أي فرع من قبيلة- أن يقتل الرجل الذي همّ بهذا، فيكون الرجل من عشيرته هو الذي يقتله، وإن أحببت والذي بعثك بالحق، فنبئني بهم، فلا تبرح حتى آتيك برؤوسهم، فإنّ مثل هؤلاء يُتركون يا رسول الله؟! حتى ما نداهنهم وقد صاروا اليوم في القلّة والذلّة، وضرب الإسلام بجرانه، فما يستبق من هؤلاء؟ فقال رسول الله(ص) لأسيد: إنّي أكره أن يقول الناس أنّ محمّدا لما انقضّت الحرب بينه وبين المشركين وضع يده في قتل أصحابه، فقال أسيد: يا رسول الله فهؤلاء ليسوا بأصحاب!، قال (ص): أليس يُظهرون شهادة أن لا إله إلا الله؟ قال: بلى، ولا شهادة لهم! قال (ص) أليس يُظهرون أنّي رسول الله؟، قال: بلى، ولا شهادة لهم؟، قال (ص): فقد نهيت عن قتل أولئك.[9]

استرسلنا في هذا، ليفهم طوائف المسلمين اليوم، المنتسبين لمحمّد والمستنّين بسنّته الشريفة، والمسارع كلّ فريق لتكفير الفريق الآخر ولقتله تحت ألف ذريعة وراية واختلاف اعتقاد وولاء سياسي، أنّه إن كان طائفة المنافقين هم نموذج لمن خالف منهج النبي(ص)، بل هم النموذج الأسوأ لفرقة تنتمي للمجتمع المسلم وشكّلت خطرا كبيرا على الدعوة الإسلامية وعلى النبيّ شخصيّاً وخذّلت وضعضعت وشكّكت وتآمرت، ومع ذلك فقد أبى النبي(ص) أن يؤذيهم أو يكفّرهم أو يخرجهم من دائرة الإسلام ناهيك عن استخدام العنف والإقصاء ضدّهم، وحتى الآيات التي وردت بتعليمات شديدة ضدّهم كمنع النبيّ الصلاة على من مات منهم، ومجاهدتهم واستخدام الغلظة معهم، ما هي إلا توجيهات ذات سياق خاص خَصّ الوحي بها النبي(ص) لا سواه لإعانته على إصلاحهم ودفعهم نحو التراجع عن غيّهم أو لإحداث خلخلة في أوساطهم، وهي آيات خاطبت النبي(ص) بشكل خاص كقوله تعالى: (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً)(التوبة:84) لاحظ دلالة كلمة (منهم) التخصيصيّة، والخطاب المفرد (ولا تُصلِّ) ولم يقل (ولا تصلّوا)، ومثله قوله عزّ وجلّ للنبيّ: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ )(التوبة:73) ولا يجوز لأحد أن ينزل نفسه منزل النبي(ص)، فيحاسب كما حاسب النبي(ص)، مع أنّ النبي ما حاسب بل صلّى حتّى على رأس النفاق وكفّنه بردائه! فما نستفيده من سيرة النبي(ص) حرصه على كرامة الناس وحرّياتهم ورعاية مصالحهم وعلى تأسيس مجتمع التنوّع السلميّ المتآلف، واحتواء كافة الطوائف ومختلف الفرق وتوحيدها على كلمات جامعة، ودرء شحنائها بكرم أخلاقه وسمو خصاله، حتى قال عنه أبو سفيان: (والله ما رأيت رجلاً قط أكثر إكراماً لصاحبٍ من محمدٍ لأصحابه)!

“محمد لا يقتل أصحابه” ومن هم أصحابُه؟ هم كلّ مَن جاءه فقال لا إله إلا الله وشهد أنّ محمّدا رسول الله ولو ظاهرا، وقد قال لأسامة بن زيد حين قَتل في المعركة مشركًا بعد أن نطق بكلمة التوحيد: يا أسامة! أقتلته بعدما قال:لا إله إلا الله؟! قال أسامة: “فما زال يكررها حتى تمنيتُ أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم”[10].  وحرّم مال ودم كلّ من قال لا إله إلا الله بقوله (ص): “من شهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّدا رسول الله فقد حقن ماله ودمه وحسابه على الله”[11]، فسبيله (ص) الدعوة للسلم والدفع بالتي هي أحسن، فلا لعمليات تصفية وقتل الناس بمجرد الاختلاف معهم، لأنّها حيلة المحقون والضعيف، والدين قوي بمبادئه وقيمه، وبمبدأ “محمد لا يقتل أصحابه” وأنّه “لا ينقّب في قلوب الناس ولا يشقّ بطونـهم” أغلق النبي أبواب الفتن والعصبيات، فدخل الناس في دينه أفواجا فكان بحقّ رسولا للناس كافة ورحمة للعالمين.

ولنستمع إلى نداء النبي(ص) مخاطبا أصحابه حين قال: “أي شهر هذا؟ أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلى، قال: أي بلد هذا؟ أليس البلدة؟، قلنا: بلى، قال: فأي يوم هذا؟ أليس يوم النحر؟، قلنا: بلى، قال: فإنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضُلاّلا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد الغائب، ثم قال: ألا هل بلغت، ألا هل بلغت[12].

تحذير قرآني من تقاتل المسلمين فيما بينهم:

آيتان في كتاب الله من الجدير بالمسلمين التوقف عندهما والتأمّل في مرادهما، قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ، ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة:84-85)

تحكي الآيتان حال اليهود، وقد حفظ فعلهم الذكر الحكيم ليبثّ رسالة لنا نحن قارئي القرآن، رسالة في غاية الأهمية صاحَبها تحذير النبي(ص) من مغبة الدخول فيما دخل فيه اليهود والنصارى، بقوله: “لتركبن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع, حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه”[13].

تبيّن الآيات السابقة أنّ اليهود قد عاهدوا وقدّموا المواثيق وأقرّوا وشهدوا بأن لا يسفكوا دماء بعضهم البعض ولا يعتدوا على بعضهم ولا يحاربوا بعضهم ولا يخرجوا بعضهم من أراضيهم ولا تتظاهر فئاتهم على بعضها بالإثم والعدوان وإلاّ فعقوبتهم خزي الدنيا وشديد عذاب الآخرة، إلا أنّهم خالفوا المواثيق ونقضوا العهود فأعملوا سيف القتل فيما بينهم، وحاربوا بعضهم البعض وأخرجت طائفة منهم طائفة أخرى من ديارهم، بدواعي لا يذكرها القرآن، لأنّها تفاصيل غير مهمة، إنّما المهم مخالفة أصل المبدأ بنقضهم العهد وتجاوزهم حالة السلم والتعايش والتعاون على البرّ والاحترام المتبادل، فلم تناقش الآية قضية انقسامهم إلى طوائف وأحزاب، لأنّه أمر حاصل ومتوقع وملازم لطبيعة الناس، إلا أنها أدانت الفعل المترتب على هذا الانقسام من إباحة حرمة الدماء والخروج عن السلم الأهلي والأخوّة الدينيّة والإنسانيّة وتعامل الطوائف بين بعضها بالإثم والعدوان، وهو المحرّم بعينه بمورد آخر صريح (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ)(المائدة:2)، عدم التعاون على العدوان حتى على طوائف المشركين ذوي سوابق العنف والجور ومحاربة الدين، فكيف على طوائف المسلمين؟!

فما بال المسلمين اليوم يركبون أبشع ما ركبه اليهود، بكل تفاصيله، فالمتطرّفة من أصحاب المذاهب يجيزون لأنفسهم قتل بعضهم البعض، ويضيّقون عليهم في معيشتهم وأرزاقهم بالتمييز الوظيفيّ الطائفيّ، ويدفعونهم لمغادرة مناطقهم وترك ديارهم وأوطانهم بسلبهم حقوق المواطنة، ويتظاهرون عليهم ويتحالفون مع سلطات الجور عليهم بالإثم والعدوان بالتهميش والإقصاء والظلم ومنع فرَص التمكين والاستباحة، فقد دخلنا في كلّ ما دخله اليهود تماما كما حذّرت الآيات وحذّرنا النبي(ص). فبهذا الفعل أصبحنا في زمرة من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، آمنّا بطقوس العبادات، وكفرنا بغاياتها (لسلامة قلوبنا) وتهذيبنا أي (تسليمها) من آفاتها، إذ الكتاب جوهره حسن المعاملة فيأمر بالتعاون على البرّ والتقوى وبالخلق الحسن والعشرة الطيّبة، وهذا ما ضيّعناه.

إن البديل الأنسب لتصحيح مسار أمة الإسلام اليوم هو بالعودة إلى النهج النبوي والتأسّي بسيرته الكريمة في نبذ العنف وإرساء السلم الاجتماعي وحماية الحقوق والحريات، فقد رفض قمع أي مخالف ورفض عنف السلطة، وأسس لدولة اللاعنف، وترك للناس حرية التعبير عن آرائهم وأفكارهم مهما كانت مخالفة أو غريبة، وضمن لهم عدم التعرّض للتنكيل والحصار، ويكفينا رفع شعار “محمّد لا يقتل أصحابه” الذي كرّره النبي(ص) مرارا وتكرارا.

نحن لا نرفض الطائفية والمذهبية ولا القبلية والعشائرية، لأنّها سنّة الله في خلقه إذ جعلهم شعوبا وقبائل وطوائف وفرقا ومذاهب، لكنّ المرفوض هو سيادة عقيدة الاصطفاء الديني والأفضلية المذهبية أو الطائفية، وما تنتجه هذه الحالة من الإساءة للآخر ومن عصبيات ونزاعات وحروب تؤدي إلى البغضاء والعنف وتمزيق المجتمع وتشتّته، ونحسب أن استواء النفوس واعتدالها ووعيها بدورها وواجباتها جدير بإعادة الرشد إلى هذه الأمة والنهوض بها والسير نحو نيل المأمول. وقد قال نبي الرحمة(ص): “اختلاف أمتي رحمة”، إذ يستحيل اتفاق أمّة متنوّعة في المقوّمات الفكرية والإيمانية والاجتماعية على كافة التفاصيل، فالتفاوت في الفهم أمر إيجابي ومطلوب وهو دليل على الصحة لا السقم، كما أنّ التعدّد يمكن أن يكون دافعا للتقارب والتآلف لا التفرقة والتشعّب والوقوع فيما حذر منه القرآن الكريم بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (الأنعام:159)،  وهي آية أخرى من كتاب الله  تقطع الصلة بين النبي(ص) وبين أولئك الذين يصل بهم الحال حين الاختلاف إلى حدّ السجال العقائدي والطائفي والافتراء والطعن والتشهير وكلّ أشكال الخصومة في الدين.

الإسلام دين السلام:

دعا سائر الأنبياء قبل النبي الخاتم محمد(ص) إلى الإسلام، إلا أنّ المسلمين اختصّوا بهذا الاسم من دون سواهم قال تعالى: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)(الحج:78)، فادّخر للمسلمين اسم الإسلام، المشتق من السلام، الراجع بدوره إلى اسم الله السلام: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِن)(الحشر:23)

والسلام على صعيد الفرد بشعوره بالطمأنينة والسكينة وعدم التشويش والتناقض روحًا وفكرا مع نفسه أولاً ثم مع غيره، وعلى صعيد الجماعة والمجتمع يتجلّى بقيم الانسجام والتكافل والمودّة والمحبة والتعاون والالتئام بين ألوان فئاته وأفراده.

وعلى ذلك فقد وضع الدين جملة من التعليمات لبناء وتأصيل هذا الأساس، فجعل تحية المسلمين حين يلقى بعضهم بعضا: السلام عليكم ورحمة الله، تحية غزيرة المعنى عميقة الدلالة، يعلن المسلم بها نيته ومسلكه مع غيره، فهو في مجتمع السلم عضو فاعل يشارك في بسط السلم وإشاعته ويتجنب انتهاكه أو هتكه. وفي الصلاة نجد أيضا ذكر السلام على عباد الله الصالحين في نهايتها، والكثير الكثير من الأذكار والأدعية التي يردّد فيها المسلم لفظ السلام، وكلّها إشارات تدل على اهتمام الدين بتكريس هذا المبدأ وتأصيله في قلب وفكر المؤمن لينعكس فعلا وسلوكا على جوارحه وأعماله.

ولو تتبعنا آيات القرآن لوجدنا أنّ مشتقات كلمة “سلم” وردت فيما يزيد عن 133 آية، وهو ما يدلّ على أنّ القرآن اهتمّ بالسلام وجعله ضمن أهداف رسالته الرئيسية، ليؤكد أنّ حالة السلام هي الحالة المثلى التي ينبغي أنْ يصل إليها من حظي بهداية الله واتّبع رضوانه، (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المائدة:16)

إنّ ما يلفت النظر في هذا الدين هو رعايته لمنظومة القيم التي تصيغ الإنسان والمجتمع، ومهما افترق المسلمون إلى فرق ومذاهب يبقى الالتزام بهذه القيم من صميم واجباتهم الدينية، ولا يكون المسلم مسلما إلا بالحفاظ عليها والعمل بها، وعلى قمّة هذه المنظومة تقع قيم السلم والسلام، لأنّ الإنسان الذي ينشد السلام يحمل في جوفه “قلبا سليما” وهو لبنة بناء كيان  مجتمع السلم، فمن مسئولية “المؤمنين المسلمين” أي كلّ من قال لا إله إلا الله وآمن بالنبي(ص) الاستجابة لنداء القرآن الكريم في الدخول في السلم كافة، )يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)(البقرة:208)، هي دعوة مباشرة موجّهة لكل من انتسب لهذا الدين وقال إنّه من المسلمين بلا نظر إلى درجة إيمانه أو أسبقيته أو إخلاصه أو قربه وبعده.

مبادئ الإسلام في تحقيق السلم:

جملة من المبادئ رسخّها الإسلام العظيم للمؤمنين به والمنتمين إليه تدعو إلى تحقيق مجتمع السلام نذكر منها:

  1. المؤمنون في الإسلام كلّهم أخوة مهما اختلفت لغاتهم وأنسابهم وأوطانهم وطوائفهم ومذاهبهم، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات:10)، فأوجب عليهم أن يتعايشوا تحت مظلّة الأخوة بما تحمله من معاني المودة والتكاتف والتلاحم والتلاقي على الخير، وبما تتضمنّه من الكفّ عن أيّ اعتداء أو ظلم أخ لأخيه، كما أنّ الآية بصيغتها القاطعة تفرض على المسلمين أن يكونوا حماة للأخوة وأن يسعوا على الدوام نحو إصلاح ما فسد منها، وتبيّن الآية أنّ تعايش المؤمنين في كنف الأخوة هو سبب لتحصيل الرحمة الإلهية للأمة.

واليوم نحن أحوج ما نكون للتوحّد من أجل تأصيل معاني الأخوة بين بعضنا البعض، بلا تكلّف أو مجاملة، من واجبنا أن لا نسمح لخلافاتنا المذهبية أن تفسد أخوّتنا ومحبتنا لبعضنا، نحن نأمل في الأخوة الشعورية والوجدانية بين أبناء المذاهب المختلفة، أي التي مصدرها الشعور الصادق بمحبة بعضنا والإخلاص لبعضنا وتمنّى الخير والرفعة لكل أطياف الأمة، ولا أمل بإزالة كتل الجليد وتضيق هوّة الشقاق فيما بيننا وفتح آفاق التعاون والعمل الخيّر النافع بيننا إلا إذا أبدت كل فرقة صدق مشاعرها تجاه الأخرى، فالأخوة ليست شعارات ترفع ولا كلمات تردّد، إنّها عمل وفعل وتطبيق، وهي نظام حياة، ومسئولية عظمى تلزم مدّعيها التعاون والتكامل والتكافل والغيرة والنصرة.

في المجتمع المسلم يكون المؤمنون والمؤمنات أولياء لبعضهم البعض (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة:71)، أي يجب أن يحبّوا بعضهم البعض ويخلصوا لبعضهم البعض، تماماً كما أنّ الله وليّ الذين آمنوا وهم أولياء الله، فعليهم الإيمان به والعمل في سبيله وعليه تعالى نصرتهم والدفاع عنهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور، كذلك المؤمنون والمؤمنات حين يتولى بعضهم بعضا، يُسدِّد بعضُهم بعضاً للخير والتطوّر، ويدافعون عن بعضهم البعض، ويحمون ويعينون بعضهم البعض في فعل الخير وترك المنكر، ويتشاركون لرفعة مجتمعهم، ولا سبيل لتحقّق هذه الموالاة إلا بتجاوز الخلافات والمذهبيات والمصالح الضيقة.

  1. أمر الدين بالتعاون على سبل الخير ونشر الصلاح للناس جميعا (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)(المائدة:2) ، وجعل التعاون على الخيرات ونبذ الآثام وأشكال العدوان واجباً إنسانياً فوق الأديان والمعتقدات، لكنّه أكثر وجوبا وفرضا بين المؤمنين أنفسهم، فكلّ ما من شأنه المعاونة على بسط الخير وتنشيط الصلاح وتشجيع العمل أمور يتوجب على المؤمنين جميعا أن ينبروا لها ويضعوها في أهدافهم ومشاريعهم، وكلّ ما يجلب الفساد والآثام والاعتداءات سواء بالكلام أو الأفعال أمور لا بدّ وأن يتجنّبها المؤمنون ولا يقعوا في شباكها، ولقد أخبر النبي(ص) أنّ محبة الأخ المؤمن هو أساس الإيمان: “لا يُؤمن أحدُكم حتى يُحبّ لأخيه ما يُحبّ لنفسه”، واعتبر أنّ العمل الذي يحبّه الله ويرفعه هو ما كان لنفع كل الناس لا لطائفة معيّنة “الخلق كلّهم عيال الله فأحبّهم إليه أنفعهم لعياله”، وعلى هذا الأساس كان الحب والرحمة والتعاون هو مبدأ التعايش الإنساني، وبهذه المعاني يكمل الإيمان وترتقي النفوس وتطهر القلوب، وبها تقبل الأعمال، وبدونها يدخل المجتمع في نفق التباغض والآثام، ولكي يبقى المؤمن متذكّرا لهذه المعاني رغّبه الإسلام في إفشاء السلام كوسيلة للحبّ والتعاون: فقد قال رسول الله(ص): “لا تدخلون الجنّة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا، ألا أدلّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم”.
  1. دعا الإسلام إلى التخلّق بالصفح والعفو وشجّع على السعي للإصلاح إذا ما فسدت الأمور بين الإخوان، وأكّد على معاملة المسيء بالإحسان حرصا منه على بناء نفوس متحابّة متسامحة، فما بعث النبي(ص) وتحمّل مشقّة البلاغ إلا ليتمّم مكارم الأخلاق ويدعو إلى كريم الصفات، نذكر منها قوله تعالى في الدعوة للعفو والإصلاح: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى:40)، وقوله عزّ وجلّ بالحثّ على الإحسان إلى المسيئين: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت:34)، وفي مدح أصحاب الأخلاق العالية قوله: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت:35).
  1. أكّد الدين على فضيلة التسامح بين الناس، ولا نعني بالتسامح عدم الاكتراث بالآخر وتجاوز أذيته والعفو عن أخطائه فقط، بل هو تقبّل الآخر والسماح بوجوده وبوجود رأيه مهما كان سيئا أو منحرفا، المتسامح –بهذا المعنى- يُؤمن بقوّة مبدئه وبسلامة أفكاره وصحّة منطقه وصدق نيّته وإخلاصه للناس وتجرّده عن الهوى والمصالح الشخصية، إلا أنّه يتقبّل الآخر ويسمح له –وبكل شفافية ومحبة ورحابة وانشراح وتحفيز- بالتعبير عن أفكاره وقناعاته واختياراته وإن بدت مناقضة لتلك التي يؤمن هو بها ويعيش من أجلها، فهو مستمع حسن إلى آراء الآخرين وأفكارهم، مستعدٌ لتحمّل معاناة الاستماع إلى أفكار يجزم بأنّها سيئة وغير نافعة أو منطقية، ليُسلِّم نفسَه ومجتمعه من سطوة دعاوي الاصطفاء ودواعي الإلغاء.

إنّ التخلّق بمثل هذا الخلق من شأنه أن يفتح كافة الأطراف على بعضها البعض وينقلها من حالة العداء أو الريبة فيما بينها، إلى حالة الحوار والتعايش والتقبل والتلاقي على الخير والبر، كما أنّه يساعد على بناء إرادة قوية لكل طرف ليرتضي بالطرف الآخر بكل أخلاقية ومحبة، ويتحمل المسئولية تجاه مجتمعه، من هذا المنطلق فإنّ دعوة الدين إلى التسامح تعني بعنوانها الكبير احترام حقّ الآخر في التعبير عن آرائه ومقاصده وإن بدت دنيئة أو غير منطقية، ولا يفهم من ذلك أن المطلوب هو الرضا بما هو دنيء أو تقدير الرذائل، إنّما المراد تجنّب الاستبداد وتمثّل الطاغوت بفرض التصوّر العقائدي والفكري الخاصّ لجماعة.

والتسامح بهذا المعنى يلتقي مع الديمقراطية التي تقوم في الأساس على وجود آراء مختلفة، وأحيانا متناقضة، إنّه يعني الاعتراف والإقرار بحقّ الآخر في التعبير عن الفكرة المناقضة، وهو بهذا الشكل يرتقي بوعي الفرد ويوسّع مداركه للتأقلم مع المتغيرات من حوله، وخاصة تلك المتعلّقة بالأفكار والأيدلوجيات، وهو ينأى بالجماعات وأصحاب المذاهب عن الميل للسباب والشتائم والإقصاء ناهيك عن الاعتداء والفعل الإجرامي، إنّ التسامح بهذا المعنى يعدّ قيمة تعنى بتقدير واحترام الآخر المخالف والرضا بأصحاب المذاهب الأخرى المختلفة في بعض العقائد والممارسات.

  1. كل ما يؤدي إلى إيغار الصدور، وإيقاع العداوة والبغضاء بين المؤمنين، بل بين الناس جميعا، اعتبره الدين حراما يجب على المؤمن اجتنابه والامتناع عن المشاركة فيه، مثل قوله تعالى في النهي عن السخرية بالآخرين أو التعرّض لهم باللمز والنبز: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الحجرات:11)، وقوله تعالى لتجنّب إساءة الظنّ بالآخرين أو التجسّس عليهم والتعدّي على خصوصياتهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) (الحجرات:12)، فالإيمان بالله والعمل بتعاليم الدين هي الحلقة الأقوى التي تجمع المؤمنين وتوحّد مجتمعهم، وهي كافية لتأسيس مجتمع متحصّن عن أشكال الاستهزاء والغيبة والنميمة والتجسّس والظنّ السيئ، ومن المهم  تكريس هذه الأخلاقيات المجتمعية بين كلّ المؤمنين باختلاف طوائفهم ومذاهبهم، لأنّ مثل هذه الأخلاق العالية يمكن أن تشكّل دعامة وحصانة أكيدة من استشراء الكره والعداوة وانتشار بذور الفتن والعداوة، والدفع بقوة نحو استثمار الوقت وبذل الجهود لصالح الخير والصلاح.
  1. يهتم الدين باستواء النفوس واعتدالها، ويأخذ بيد الفرد ويسعى لإصلاح نفسه وتهذيب أخلاقه، من أجل أن تسمو روحه ويدرك غاية وجوده ويعي واجباته، حتى أنّ دعوته له بمعرفة ربّه وعبادته تعني في أسمى معانيها التحرّر من عبادة غيره بدءاً من نفسه التي بين جنبيه إلى الخضوع لسواه من المخلوقين، وبذلك تتحرّك في داخله مشاعر محبة الخير والعمل والفلاح والنجاح والابتعاد عن كل أشكال الأذيات، لأنّ العبادة وفعل الخير شرطا الفلاح في الدنيا والآخرة (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(الحج:77)، وهكذا يجد نفسه مسالما محبا لغيره مشاركا في إسعاده وراحته، مراعيا لحاجات جاره وصديقه، حانيا على اليتيم والمسكين والفقير، لأنّ نفسه رحيمة بالإنسان عطوفة عليه، يقول النبي(ص): “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده”، ” ولا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه”، “المؤمن من آمنه الناس على أموالهم وأنفسهم”.
  1. حذّر النبي(ص) في مناسبات كثيرة من الوقوع في دماء المسلمين وأكّد على حُرمةُ دم المسلم؛ فالمسلم معصوم الدم والمال، وحرمته أعظم عند الله من حرمة الكعبة، بل من الدنيا أجمع، فقال النبي(ص): “والذي نفسي بيده لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا”[14]، وقد صعد النبي(ص) المنبر ذات يوم فنادى بصوت عال: “يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه: لا تؤذوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله”، فـ”المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده”، و”المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يشتمه”، و “المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله”، واعتبر الخوض في دماء المسلمين خروجاً من الدين إلى الكفر، فكرّر (ص) في حجة الوداع من خطورة مثل هذا الأمر فقال: “ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض”[15]، وأنّ مصير المتقاتلين هو النار: “إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار”، قالوا : يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟! قال: “إنه كان حريصاً على قتل صاحبه”، كما عدّ قتال المسلمين كفراً وخروجاً عن الملّة، فقال (ص): “سباب المسلم فسوقٌ وقتاله كفر”،  فقتل المسلم لأحد من المسلمين بذريعة اختلافه معه هو من قبيل القتل المتعمّد الذي يستحق صاحبه عليه الغضب واللعنة، قال تعالى : ]وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً[النساء: 93. وقد وصل تحذير النبي(ص) إلى نهيه أن يشير بسلاحه إلى مسلم فربما تخدعه نفسه فيؤذيه فقال (ص): “لا يُشِرْ أحدُكم على أخيه بالسلاح؛ فإنَّه لا يدري لعل الشيطان ينـزع يده فيقع في حفرة من النار”[16]، والحاكم على كّل ذلك قاعدة رئيسة هي حرمة كلّ المسلم على المسلم : “كلّ المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه”[17].
  1. اهتمّ الدين الإسلامي بالعديد من المظاهر والأحكام التي تساهم في بسط المحبة والتلاقي والتواصل بين المسلمين، فدعا إلى صلاة الجماعة في خمس لقاءات في اليوم، يتجمّع فيها المسلمون ليقفوا في صفوف متراصّة، يتوجّهون فيها لطلب الرحمة والسلام والصفاء في نفوسهم، ثمّ يتصافحون تعبيرا عن إيمانهم ومحبتهم وأخوّتهم، كما دعا إلى صلاة الجمعة سعياً إلى ذكر الله وجمّلها بخطبة تحثّ على الانخراط في الخير والتحلّي بمعالي الصفات. وقد وضع الشرع ضوابط لبناء المساجد، فاشترط أن لا تقل المسافة بين مسجد وآخر عن مسافة محدّدة في زمن خلى من وسائل النقل الحديثة والطرق المعبّدة، إذ أنّ روح الشارع وغايته في جعل المسجد مكانا لتجمّع المسلمين من أصحاب المنطقة الواحدة تحت قبّة واحدة لتحقيق الألفة والتلاحم والتكاتف، فلا يتشتّتوا في الحضور في مساجد عدّة، وإنّ ما نراه اليوم من ازدحام المساجد قرب بعضها ليس مما أوصى به الدين، كما وأنّ تخصيص مساجد لكل فرقة هو ممّا يخالف روح الدين الواحد الموحِّد، وما يزيد الأمر سوءا رفض استقبال المصلين من الفرق الأخرى، فالمساجد لله لا ينبغي أن ينهى أيّ أحد عبدا قصدها للصلاة، ومساجد المسلمين في بلادهم يجب أن تكون كما المسجد الحرام لكل فرق المسلمين، يدخلونه آمنين ويقفون صفوفا متراصّة للصلاة ويأتمون بإمامة إمامه.

ومن الأمور التي أكّد عليها الإسلام التكافل بين الناس، فشجّع على تقديم الصدقات للفقراء والمساكين دون النظر إلى جنسهم أو مذهبهم أو حتى ديانتهم، لأنّ المعونة يجب أن تصل للإنسان المحتاج لترفع عنه عوزه، ومن العيب ما نراه اليوم من ممارسات الصناديق والجمعيات الخيرية التي توجّه أموالها فقط للمحتاجين من أصحاب طائفتها أو مذهبها دون غيرهم.

ومن مظاهر مجتمع السلم في الإسلام -وهي كثيرة لا يتّسع المجال لذكرها كلّها- اشتراك المسلمين جميعا في الاحتفاء بالحج وشهر رمضان والعيدين، وهو مظهر لا نجده في المذاهب المنبثقة من الأديان الأخرى، فالمذاهب المسيحية مثلا تحتفل بأعيادها في تواريخ متباعدة، ولو تجاوز المسلمون الاختلافات الفقهية في مسألة إثبات الهلال كما نأمل لتجلّت بوضوح مظاهر هذه الوحدة.

بهذه التعاليم أقام الإسلام مبادئ السلم في داخل المجتمع، فحرص على تربية النفوس على الخلق الكريم والتعاون الإنساني الجميل، وحذّر من كل ما يؤدي إلى اضطراب الأمن واختلال النظم وتسعير العداوات، وهذا هو الأساس الصحيح للدعوة إلى مجتمع السلم، وهو الحصانة لمنع نشوب الحروب والفتن، وبه تحفظ الحقوق للأفراد وللجماعات، فإن استشعرت النفوس الأمان في هذا المجتمع، وحصّلت الضمانات التي ترعى لها حقّها وتصون حاجاتها وتمنع تآكل قيم السلم بين أفرادها، فإنّ من الممكن أن تنشأ في هذا الكيان نفوس لا تميل إلى النزاعات وتأبى العدوان والشقاق، وتبتعد عما يثير عصبياتها ويذكي شرورها، بخلاف المجتمعات التي تعيش أجواء الظلم والتعدّي أو يغلب عليها الحرمان والاضطهاد وفقدان الأمن، فإنّ لها قابلية الاستثارة واشتعال العدوان وأشكال العنف.  وعلى ذلك فالتأسيس لمجتمع السلم النابذ للعنف من شأنه أن يبني حصانة وقائية، تقي المجتمع من أسباب النزاعات وتطفئ أوارها قبل أن تقع، وتزرع بدلا عنها المحبة والمودّة والتعاون والتنافس على فعل الخيرات.

لقد حرص الإسلام على تأصيل هذه القيم، بل وعدّها من المقدّسات التي لا يجوز المساس بها، وجعل العمل بها من ضرورات الدين التي يتوقف عليها الإيمان به والانتماء له، فالدين الخلق والدين المعاملة والدين النصيحة كما يقول النبي(ص)، وكلّما ترجمت هذه القيم إلى سلوكيات وكلّما اتسع نطاقها في المجتمع كانت دليلا على حيويته وتقدّمه ورقيّه وسموّ مبادئه، وفي هذه الحالة يصحّ لنا القول عن هذا المجتمع أنّه مصداق حقيقي عن النمط الذي أراده الله سبحانه للناس، وهو وحده الجدير بتقدير ربّ الكون لأنّه مجتمع سوي قائم عـلـى احـتـرام إنسانية الإنسان وخصائصه البشرية.

خاتمــة

أمام الفتن التي تغلي مراجلها في عالمنا الإسلامي، جدير بنا أن نعود إلى مصادر قوّتنا لكي نتبصّر الطريق ونتصرّف وفق ما تمليه علينا الأخلاق الإنسانية التي دعا إليها دين الإسلام العظيم، الدين الذي تحدّث بقوة عن القيم والحقوق وطالب بأدائها لكلّ إنسان، واعتبرها ضرورات فطرية للإنسان من حيث هو إنسان، وبها سمي الإسلام دين الفطرة، واستحقّ أن تختم به الرسالات، فتحمّل هذا الدين مسئولية رعاية القيم والحقوق، وحرص على تحقيقها وإيصالها لأصحابها، وبالغ في تقديس القيم والحقوق إلى حدّ أن جعلها واجبة يخرج من الدين من حاد عنها، فحصر الدين في المعاملة، وعرّف الدين بالخلق، وجعل العمل بالقيم شرطا يتوقّف عليه الإيمان والتديّن بالإسلام.

القيم الإنسانية التي دعا إليه الدين إذن هي أكبر مصادر قوتنا، وهي تطالبنا كأفراد وجماعات أن نعود إليها، ونبدأ بدراسة أسباب بعد المسافة بيننا وبينها، ثمّ نتخذ بعدها قرارات أخلاقية نلتزم بها، ليس وفقا لما نحن عليه من انتماء لطائفة أو لمذهب، إنّما وفقا للوعي بمسئولية الإنسان وبمصلحة المسلمين عامة، ولعلّ أوّلها هو التحكم في الذات الفردية والجمعية، فلا مكان للشرف والكرامة مادمنا أسراء عصبيّات أنانية وانتماءات ضيّقة، ولا يمكن أن نأمل السلامة دون امتلاك السيادة على النفس وعلى الجماعة، السيادة التي تمكّننا من التغلّب على الدوافع السلبية، والتخلّص من أي نزعة للتراجع أو السقوط في دوامة العنف والهمجية، يجب أن نتعاون لكي نقضي على أشكال العصبيات في مهدها، وأن نبدي سلوكا يليق بنا كخير أمّة أخرجت للناس، فنرابط لسدّ ثغورنا، ونصطف جميعا أمام الفتن بنيانا مرصوصا لئلا تتفاقم، أو تصل إلى مستوى الصراع بين أبناء الأمة التي حمّلها الله القرآن، وأعطاها منزلة الشهداء.

إنّنا اليوم نعاني من آثار التفرّق والتمزّق التي أصابت الأمة الإسلامية، ومن سوء تعاملها مع بعضها بعدما انقسمت إلى طوائف ومذاهب، وأكثر من استفاد من هذه الحالة هو الأجنبي الطامع في ثروات المنطقة، فقد استطاع أن يستغلّ هذه الحالة ويبسط نفوذه السياسي والاقتصادي بل والثقافي على كل أقطار عالمنا الإسلامي، ولقد كان سلاحه الفتّاك عبر ما يزيد على القرن من الزمان هو تأجيج الأحقاد ونبش الخلافات وإثارة العصبيات وإشعال فتيل الحروب.

نحن لا نحاكم الطائفية أو المذهبية أو الحزبية ولسنا نطالب بإلغائها، ولا نقصد أبدا أن تتنازل الجماعات عن عقيدتها وخصوصيتها، إن ما نرفضه هو العصبية الكريهة وسيادة أجواء التشنجات الطائفية والمذهبية، وما نصرّ على نبذه هو انحياز الأفراد المتشدّد لكل ما يصدر عن أبناء طائفته أو مذهبه، ورفض الحوار والاستماع إلى صوت المنطق وحرمان الآخرين من إبداء رأيهم بكل حرية، وتجفيف منابع الخير والتطوّر أمام الأطراف الأخرى، واعتبار الآخر كافرا يحلّ قتله أو تهجيره.

علينا أن نخطو خطوات نحو الوحدة الإسلامية، ونلقي عنّا العصبيات الطائفية والمذهبية، لنكون بالفعل دعاة إصلاح وحملة لواء محمد، وليكن مرجعنا كتاب الله وتركة نبيّه(ص)، ومهما اختلفنا فإنّ جميع المذاهب الإسلامية تستقي من ينبوع واحد هو القرآن والسنّة، وكلّها تتّفق على أصول واحدة هي الإيمان بالله والتصديق بالنبي محمد(ص)، وجميعها يتّجه إلى قبلة واحدة، يجب أن نتقبّل واقعنا ونوفّر أمامنا الفرصة كي نعيش تنوعا مذهبيا وطائفيا نحرّم فيه الصراع والتنافر وأي شكل من أشكال التمييز الطائفي والاضطهاد المذهبي، ونقفز في خطوة إيجابية نحو الارتقاء بمستويات التعايش والتعاون والانسجام والمحبة.

إنّ الحلّ يكمن في أمرين بهما يتحقّق تماسك المسلمين وهما طريق نهضة هذه الأمة وعودتها إلى السؤدد المأمول، الأول اعتراف كلّ طرف بحقّ الآخر في التمسّك بقناعاته ومعتقداته، وممارسة شعائره الدينية، والإيمان بالتعايش الإيجابي والتعاون بين أصحاب كل المذاهب عملا للمصلحة العامة للمسلمين، والأمر الثاني اكتساب القيم الأخلاقية وتشرّبها والسير باتجاه إحراز قممها، على مستوى الأفراد والجماعات، لتعود هذه القيم مؤدية لوظيفتها في المجتمع بطريقة تحافظ على حرية واستقلالية الاعتقاد، ودافعة نحو تأسيس ثقافة إنسانية عالمية تجسّد حاجات بني الإنسان وتحرس قضاياه المشتركة وتعيد الاعتبار لهذا الإنسان وتعينه على تأسيس أنظمة اجتماعية وسياسية واقتصادية ذات قيم حقيقية خالدة.

[1] – مقاييس اللغة – ابن فارس ص 604

[2] / محمد بن يعقوب الكليني / الأصول من الكافي ج2 ص308 الطبعة الثالثة -طهران 1388هـ

[3] – الغدير، ج6، 198.

[4] – صحيح البخاري، ج2 ص 98.

[5] – سيرة الرسول – محمد دروزة ج2 ص 78.

[6] – سيرة ابن هشام، ج 6- باب قوله سواء استغفرت لهم

[7] – ‏”‏رواه البيهقي، ورواه أحمد والبخاري ومسلم بنحوه‏”

[8] – البداية والنهاية لابن كثير، ج 5 ص 240.

[9] – امتاع الأسماع للمقريزي، ج 2، ص 98.

[10] – صحيح البخاري، ج 8  ص 36.

[11] – كمال الدين وتمام النعمة للصدوق، ص 410.

[12] – إمتاع الأسماع للمقريزي، ج3 ص 169.

[13] – مجمع الزوائد للهيثمي، ج 7 ص 258.

[14] – الغدير- ج 11 ص 57.

[15] – متاع الأسماع للمقريزي- ج 14 ص 219.

[16] – أخرجه : البخاري 9/62 ( 7072 )

[17] – أخرجه : مسلم 8/10 ( 2564 ) ( 32 ) ، وأبو داود ( 4882 ).

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.