تباينات العقيدة والمقدّس ومشوار البحث عن الكلمة السواء

مملكة البحرين

جمعيّة التجديد الثقافيّة الاجتماعيّة

تباينات العقيدة والمقدّس

ومشوار البحث عن الكلمة السواء

أ. جلال القصّاب

مؤتمر ”الوحدة الإسلامية وديعة محمد (ص)”

مملكة البحرين: 28 إلى 30 ديسمبر 2007م

 بسم الله الرحمن الرحيم

المحتوى

مدخل
أوّلاً: مقدّس خارج الدائرة الإسلاميّة

  1. نظرة العلمانيّة-المادّية للمقدّس (يُخالفها الإسلام)
  2. الطوطميّة كمقدّس خرافي (نسفها الإسلام)
  3. مقدّسات (وعقائد) الشعوب الأخرى (احترمها الإسلام أو صحّحها)
    ♦ عامل التسامح وعامل التقليد

ثانيا: مقدّس داخل الدائرة الإسلاميّة (المعضلة)

  1. ماهيّة المقدّس
  2. إشكاليّة المقدّس/العقيدة (قيد البحث)
    • على مستوى العقائد الخاصّة
    • على مستوى المقدّسات الخاصّة
    • خُلاصة الأزمة تضخّم وتشدّد
  3. أزمة تفتيتنا بالمقدّس الخصوصيّ- مظاهر وسمات
    • قابليّتها للمراجعة والتمحيص
    • يبرّرها عنفُ الآخر
    • عدم أصالتها
    • عدم رسوخها القلبي
    • عدم إحكامها
    • زيادتها وتطاولها
    • مصدرها ضيّقٌ وغرضُها
    • منابعها قابلة للوقاية والعلاج
    • دواؤها حيث الداء

ثالثاً: البحث عن الكلمة السواء (في المقدّس-العقيدة-السلوك) (الحلّ)
أوّلاً: على المستوى الشعوريّ
ثانياً: على المستوى العملي
♦ تكوين الطليعة النموذج (حمَلَة الكلمة السواء)

  1. ما هي الكلمة السواء؟
  2. واجبات الطليعة لتكوين الكلمة السواء
  • إنشاء قواعد التواصل
  • تقديم نظرة القرآن عن الآخر
  • استنباط العقائد المشتركة
  • اكتشاف كلمات سواء متنوّعة
  • إبراز العِبَر السيّئة وتجارب التوعية
  • تقديم فقه التعايش واللاعنف
  • تأليف القلوب ونبذ الرؤى المذهبيّة
  • مناهضة ثقافة الكراهية ودعوات التفتيت

3. كلمة سواء في العقيدة والثقافة الجامعة
أوّلاً- نموذج مبسّط للمضمون الاعتقاديّ والتقديسيّ
أ‌- توفير المضمون المشترك
ب‌- إزالة المعوّقات
ثانياً- نموذج أوّلي لثقافة جامعة

مدخل:

لقد عرف الإنسان العقيدة والمقدّس منذ باكورة وجوده، وأمّةُ الإنسان عموماً وأمّة الإسلام بالخصوص أمّةٌ مرتبطةٌ بالسماء، تحضّرت وتطوّرت وصلُحتْ ورادت وقادت حين ارتبطت بالسماء، والارتباط بالسماء جلب لدخيلة هذه الأمّة (عقائد) شتّى كانت توجّه رسالتها ونظرتها لكلّ شيء، لله، للكون والطبيعة، للنفس، وللآخر، كما جلب لها (قداسات) تعبّر عن تاريخ ارتباطها بالسماء وتُعلن عن استدامته واحتفاظها بجذورها.
فهل ظلّت هذه (العقائد) و(القداسات) كما كان في بدئها، وكما يُراد لها، مطوّرةً للأمّة ومحييةً ومحافظةً على سموّها وعقلِها وإلفتها ووحدتها كما جمعتها وحدةُ الإله والقبلة الواحدة، أم تحوّلت إلى عوائق وسبباً للانحطاط والجمود والتفتّت وإعانةً لأعداء الأمّة وهدراً لقيم رسالتها الإنسانيّة؟!
إننا كمتديّنين وورثة لرسالة خاتم المرسلين، نعتقد بصلاحيّة ديننا لرقي الإنسان في أبعاده المادية والروحية، لكنّا نقرّ بالوضع المتردي لإنسان هذا العالم بمتديّنه ومنكره، ونؤمن بأنّ صلاح الإنسان لا يكون إلا به وبارتباطه بقيم الدين، وبأنّ الإصلاح لا يتمّ إلا إذا ابتدأ من النفوس وتمّ تصحيح النظرة للآخر المختلف في (عقائدنا) و(مقدساتنا)، ويُزاح بذلك ركامٌ ثقيلٌ من كوابح التقدّم وموانع الصلاح.
في هذا البحث، نقترب من (المقدّس) ونتعرّف عليه، نبحث عن سمات (المقدّسات) و(العقائد) الخاصة بجماعاتنا المؤمنة، ونسلّط الضوء على كيفيّة فعلها التفتيتيّ لمجتمعاتنا وأواصرنا عندما تطغى خارج مساحتها الخاصة، وفي ختامه نُعلن عن مشوار إصلاح تنعقد بوادره بيد الطليعة المصلحة في نسج راية السلام، بإرجاع الخاصّ إلى خصوصيته، وتعميم العامّ الجامع للكلِم على الصلاح والتقوى، ليملأ فضاءات العقول ويُسكِّن كوامن النفوس.
سنستهلّ البحث في مفهوم (المقدّس) بمقاربات أخرى وتعريفات مباينة لنا، لها غاياتها وإشكالياتها المختلفة، لكنّ غرض عرضها يخدم ما نتوخّاه من استبصار المعضلة واستبصار علاجها، باعتبار أنّ الميزان الذي نستخدمه تجاه (الآخر المختلف) وفروضه وآرائه واعتقاداته ومقدّساته؛ أكان آخر إنسانيّاً، أو دينيّا، أو مذهبيّاً، هو ميزان الإنصاف والاحترام نفسه أي (ميزان العدالة والاعتدال)، فصنّفنا المقدّس والنظرة له إلى: 1- مفهوم المقدّس داخل الدائرة الإسلاميّة، و2- مفهومه خارج الدائرة الإسلاميّة، مع أنّ هذا الثاني حاضرٌ كمنظورٍ بين أبناء أمّتنا أيضاً بأنواع فكره وألوان اتّجاهاته، وتوصّلنا إلى الآتي.

أوّلاً: مقدّس خارج الدائرة الإسلاميّة:

وهو يعني أنّنا كمسلمين لا ننظر إلى (مقدّسنا)، كنظرة العلمانية/المادّية له، ولا على أنّه نوع من أنواع الطوطميّة، ولا ندرجه بمصافّ مقدّسات الشعوب الأخرى، على ما سيأتي بيانُه:

1. الطوطميّة كمقدّس خرافي (نسفها الإسلام):

  • حاول بعض المفكّرين جعل (المقدّس) الديني، أكان شيئًا أو أثراً أو شعوراً، نوعاً من أنواع (الطوطميّة) كالتي ظهرت لدى القبائل البدائيّة في أستراليا وأفريقيا وأمريكا، مع أنّ التقديس الدينيّ الصحيح الذي أتت به الرسالات قائمٌ على العلم لا الجهل، وعلى الوحي والعقل لا الغريزة، فقد نبذ الكثير من هذا الانحطاط العقليّ وحاربه في نماذج إسلاميّة راقية احتفّت بالجهاد والتبصرة والدعوة للتعقّل وفهم الأسباب، لنسف الوهم بآثار الضلال والتقديس لـ(الأصنام، العجل، البحيرة، السائبة، الأيكة، شجرة ذات أنواط، الشمس، النجوم والكواكب، تقديس الآباء والسلف.. وغيرها).

2. نظرة العلمانيّة/المادّية للمقدّس (خالفها الإسلام):

  • في الفكر العلمانيّ (ونقصد شقّه اللاديني)، (فالمقدّس) يعني كلّ الدين، أو بعضه، أو التراث الديني خاصّةً، أو التاريخيّ المستحضر عصرياً، وأحياناً كثيرة يعمّ البشريّ بالإلهي، فهو يُنظر إليه (أي المقدّس) كعقبة ضدّ التقدم، ويُصنف بأنّه اختراعٌ لإعطاء الأمان للعوام، وخديعةٌ تُساق بها، وهو ضدّ خطّ العلم والعقلنة والحداثة، لأنّها تنظر للأشياء أو تُعطيها أثراً خفيّاً وبُعداً غير ملموس إلا في أذهان أصحابها ولكن غير واقعية (!)، ومع ذلك فهي تقوم بفرض نفسها وقوانينها على عالم الواقع وخياراته بدون مساحة لمناقشتها ونقدها، هكذا ترى العلمانية المادّية المقدّس.
  • هذه النظرة برزتْ إشكاليتها لا من جهة تحقيق علميّ وتطوّر عقليّ، بل من مخاض الواقع السياسي والاجتماعي المأزوميْن، كونها اصطدمت بممثليّ (المقدّسات) المنافسين لها على المساحة المشتركة اجتماعياً/فلسفياً/شعبيّاً، فهي صراع أيدلوجي، وسياسيّ، ومعرفيّ، صراعُ مناهج وسلطنات على الوجود نفسه، حيث لا يتمّ في الفكر العلماني (ونُؤكِّد على المادّي منه) القبول بمرجعيات ورائية ووسائط غيبيّة، لا معرفيًا، ولا سياسيا ولا تشريعيّاً، ربّما اتّكاءً على العلميّة المعمليّة البحتة القائلة: (في البحث العلمي لا يُوجد مقدّس بل تُوجد حقائق نسبيّة وبيّنات وأدلة وبراهين)، مع أنّ الواقع العمليّ والإنساني والاجتماعي ليس مختبراً، لذلك فهذه الأطروحات تخلط الفيزيقي بالميتافيزيقي في سلّة اختبار واحدة، بل لا ترى العلم الروحاني ولا أثره، عدا أنّها تخلط الصالح بالطالح من الفكر الديني وتكيلهما بالكيل نفسه لتجعل الوحي كالخرافة؛ لا تَدين بتقدّم الإنسانيّة لتدخّل السماء وحكمة الأنبياء وكأنّ التطوّر منبتر عن التاريخ التعليميّ المديد ووليد لحظته الآنيّة المُبهرة، تُدين التاريخ كلّه لا الفاسد منه، وتنفي الدين كلّه، لا المشوّه المزيد فيه، تُسخّف القداسات لا الزائفة والمضافة، وبناءً عليه فليس بضارّها أن تذهب للمدى الأبعد لنفي فعالية (المقدسات) في واقعنا الإنساني والمعرفيّ والعلمي والسياسي والنفسي الفعليّ.
  • ميزة النظرة الواقعية الآنفة (الفيزيقية أو الطبيعية)، التشكيك في كلّ المسلّمات المفروضة سلفاً، فهي تتناول نقد (المقدّس) كلّه باعتباره تاريخياً كلّه، أو غير صالح كلّه، بل أحياناً بما يتوازى وينسجم مع الهجمة التغريبيّة، وتعزف ذات مقولاتها الفلسفية، حين اصطدامه بمخلفات دينية وجهالات تلفّعت بالدين وسياسات ظالمة واستبدادات وجرائم مورست باسمه في بيئاتها، بل حقيقتها أنّها نفسها وليدة تلك المخاضات ووليدة أدواتها، فهي توابع المدرسة النقدية الأوربية التي ناهضت استبداد اللاهوت والتي وجدت في (مدوّنة التوراة) نصّاً بشريّاً مليئا بالأخطاء المعرفيّة والعلميّة فنقدته واجتازته وتحرّرت من مقولاته ، لكنّها استوردت هذه الأداة والتجربة لتمارس تجربتها مع ديننا وقرآننا الصحيح، تنظر إلى مقدسهما وثوابتهما أنها من بقايا عصور الظلام (محاكاة لأوربا النهضة)، وكمعوّقات للتنوير، متناسية أنّ مجتمعات العالم كلّها تعجّ بالمقدّسات التي تنمّ عن جذور انتمائها بالأرض والتاريخ الناصع والمبدأ، وبقيمها الروحيّة التي هذّبت إنسانها ، ومتناسية أنّ الإسلام (في وجهه الناصع) ليس كمسيحية القرون الوسطى، بل هو من أسّس المنهج التجريبي وأخضع علوم الطبيعة له، وصدّره لأوربا عبر منافذ أسبانيا، ومن مناهله انبعثت أسباب نهضة أوربا، وهو مَن حارب الوصايات والتقديس الأبله والوثنيّة بأشكالها ودعا للتنوير والعقل والحرّيات الفكريّة والعمليّة.
  • وميزتها التشكيك في منظومة القيم، وتعريض كلّ المرجعيات للنقد تحت عنوان (نسبية القيَم) و(لا قدسية لشيء)، و(هل القرآن معصوم) (القرآن كسبٌ بشري)، و(كلّ نصّ قابل للنقد)، و(تاريخانيّة النصّ)، تأسيًّا بعلماء علمانيين واجهوا الاحتكار الكنسيّ للمعرفة وقتلها كلّ جديد باعتباره هرطقة وزندقة، فطعنوا في التوراة والإنجيل، واستنتجوا أنه نسيج بشريّ ومنتَج تاريخيّ مشحون بالأخطاء المعرفية والعلميّة، وبالتالي تحت ذريعة المنهج العلمي أسقطوا المنهج الأخلاقي ونسفوا الحكمة التي ظلّت مشرقة ومرفرفة عبر تاريخ البشريّة ليُحيلوها مجرّد سفسطة عقليّة ومنتجات بشريّة، بالإمكان تجاوزها وتفكيكها كنصوص ميكانيكيّة بلا حيويّة ولا فعل ولا روح.
  • إنّنا نسجّل هنا أنّ القرآن (النصّ الخالد)، الصالح بتعاليمه وعلومه لكلّ زمان ومكان، والذي يدعو إلى العلم والحكمة والتحرّر العقليّ، يُحارب هذه النظرة المادّية باستعباد العقل في سجن المادّة، وقد سبق وحاربها، ويُحارب الغرور المعرفي أو احتكار الحقيقة أو تجميد آليّات اكتشافها وفق الأفق البشريّ السائد، وردّ مزاعم الذين لا يُؤمنون بالروح ولا بقوة الإيمان ولا بأثر الدين وبثبات القيَم، لكنّنا من جهة أخرى نعي ونتفهّم أنّ كثيراً من هذه الأطروحات ليست وليدة نشاط فكري نزيه وناضج، وليست إلحاداً وتمرّداً على الدين والخالق، بمقدار ما هي ردّة فعل على الاستبداد الديني البشريّ (الأوروبي قبلاً الذي كرّس تجسّد اللاهوت بالناسوت) واحتكار المعرفة في الإنجيل وسجْن العلماء وتعذيب المخترعين وإحراق الفلاسفة والمفكّرين، إنّها ردّة فعل على الجهل والظلم والفظاظة والإكراه الذي تلبّس بالدين، وهذا ما وقعنا فيه كمسلمين أيضاً، حيث استُغلّ الدين لتشريع الظلم والاستبداد الديني والسياسي معاً، وقمعتْ رجالُ الدين الفكر وحرّية العقل والفلسفة وحركة التجديد والإصلاح وحقوق المرأة، وتدخّلتْ سطواتهم في مفاصل الحياة المدنية والشخصيّة وتفسيرهم الفجّ للمسائل العلمية، حتّى بلغ الأمر أنّ عالَم الدين نفسه لم يسلم من ألسنة أمثاله وبات مُعرّضاً للتكفير والتضليل والمُحاربة لو أتى بأمرٍ مخالف، فكيف بالآخرين؟! ولو فصلنا الدين الصفيّ عن الفكر الديني البشريّ وسطوات الدينيّين (وقداساتهم الإضافيّة المخترعة)، لما عادت مسألة خصومة العلمانيّ والدينيّ بهذه الحدّة، ولما كفر بالدين من كفر.
  • كما ينبغي التأكيد -بفرض أنّ غايتنا توخّي الإصلاح في أمّة محمّد (ص) بتذليل ما بين طوائفها وتخفيف تشدّد مذاهبها (كما سيأتي لاحقاً)- إلى أنّنا في غير حاجة لنقد هذه الاتّجاهات ولا التعرّض لها والاصطدام بها، سيّما لوجود الكثير من المفكّرين والغيارى ممّن انبرى لمواجهتها، لكن يُقلقنا أنّ بعضهم وهو يقوم بذلك مستميتًا بالدفاع عن بيضة دينه، قد يكون أمسك بدينٍ عروتُه هشّة، أو هو زلق وقابل التكسّر والتشظّي، فلم يُراجعوا حزمة (مقدّسهم) المُنافَح عنه مراجعة الطبيب لمداواة دينهم ممّا علق به قبل أن يستميتوا بالدفاع عن سليمه وسقيمه فينفّروا الناس منه ويُهلعوا المفكّرين الباحثين عن الحجّة والعلم.

3. مقدّسات (وعقائد) الشعوب الأخرى (احترمها الإسلام أو صحّحها):

  • من المهمّ، ونحن بصدد تأليف “قلوب” الأمّة، واستثارة عقولها، ضمن غاية (الإصلاح) ما استطعنا، أن نطهّر مدخل نظرتنا (ومشاعرنا) للآخر (الإنساني) قبل (الدينيّ والمذهبيّ)، فنسجّل إقرارنا ببراءة نوايا جميع بني الإنسان، وحملهم على محامل الخير في تلمّسهم دروب الإيمان والحقيقة، فما من شعب إلاّ ويتوخّى الحقيقة، فهم كمن طلب الحقّ فأخطأه -من وجهة نظرنا- لا كمن طلب الباطل فأصابه، فليس الآخر من الشعوب مصرّاً على ضلالةٍ انكشف له بطلانها، ينبغي ألاّ نجعل أنفسنا أوصياء القلوب وعلاّمي الغيوب والنوايا، نسجّل احترامنا ثقافات الشعوب وعقائد طوائفها، هذا الإقرار والاحترام بل والقبول والتفهّم هو من نُبل الأخلاق ومن التواضع الذي هو حلية المسلم، وهو لا يعني الموافقة والتصديق، فالموافقة تلزمها الاقتناع بالحجّة والبرهان.
  • إنّنا نتأدّب بأدب الإسلام ونبيّه (ص) في نظرتنا للآخرين، فلا نسبّ مقدّساتهم ولو كانت أوثاناً (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام:108)، ولا نُحطّم معبوداتهم، ففعلُ النبيّ (ص) التاريخيّ بتحطيم أصنام مكّة بالخصوص وفقط بأمر الوحي لأصنام مثّلت تحالف الإثم والعدوان والاحتكار والظلم والفجور، ولم تكن تمثّل شعائر الحرّية والإيمان واختلاف الدين، فكانت غايته كلّها حكمة ورحمة وفق حيثيّاتها وبين قومه وأهله الذين اعتدوا عليه وأخرجوه، أمّا الاعتداء على الآخرين ومقدّساتهم فليس من الدين في شيء، بل أمرنا ربّنا بالتعايش والتعارف والتعاون والبرّ والقسط وبعدم الاعتداء والإيذاء وأن نقول للناس حُسنا، وركّز حرّية الاعتقاد للنّاس ولو اختاروا كفراً، وأوصانا لنكون رحمة للعالمين، نؤلّف قلوب كافّة الناس للدين بالحجّة والتسامح، لا نستفزّهم ونستنفرهم عليه، وعلى القادرين منّا فقط مجرّد محاورتهم ودعوتهم إليه بالتي هي أحسن.
  • إنّنا نعتقد -أنّه في شأن (المقدّس) كمظهر إنساني عالمي- لا شيء نُحل (تقديساً دينياً) إلا وله بداية منطقية أو أثرٍ صحيح أو خادِع، بدأ دينيًّا ولو في ملامحه الأولى، فالنار المقدّسة مثلاً بدأت كنصْب على قبور موتى الحكماء والمعلّمين رمزاً لبقاء أرواحهم في العالَم الآخر كالشعلة الإلهية المُسرَجة، والبقرة المقدسة بدأت من تقديسها كنعمة مسخّرة وفيرة الخير وسببٍ من أسباب استيطان الإنسان باستئناسه الحيوان وممارسة الحرث والزرع والحصد، وكان للبقرة/الثور السهم الأكبر بهذه النُقلة الحضاريّة الهائلة ، فهي بدأت صحيحة على المستوى الإيماني والانفعالي الدينيّ، لكنها قد تشطّ وتنحرف على المستوى الاعتقادي والشعائريّ بعد أجيال، وبعد موت الأصل، ووجود رجال دين نفعيّين وكهنة يستجهلون الناس ويكتمون الحقائق، لتصير وثنًا يُعبد من دون الله، وهذا نفسُه ما يحصل مع الضرائح المقدّسة، والمذاهب المقدّسة، والرجال المقدّسة، وغيرها، فهي كانت وسائط ثمّ قد تُصبح نفسها الغايات، بل أرباباً تُعبد من دون الله تعالى، يُستباح بتقديسها، دينُ الله، وغاياتُه، وأهدافُه، وقيمُه، وتعاليمُه فينا، فكم شبّت بغضاء على “تربة” أُخذت للسجود، وكم سالت دماء بريئة على “هدم جدار ضريح” و”تدنيس قبر رجل” من السلف أو تفنيد مجرّد رأيٍ له.

 عامل التسامح وعامل التقليد:

استعرضنا هذا التنوّع الثلاثي في النظر إلى المقدّس خارج دائرتنا الدينيّة، لإثبات مقولةٍ قد تشكّل أمّ الخروج من المأزق، وهو تعديل نظرتنا للآخر، الفكرة تقول: أنّ الآخر سواءً كان مذهبيّاً له مقدّسه الخاصّ واعتقاده، أو طوطمياً يُمارس مقدّسه، أو ينظر إلى كلّ المقدّسات أنّه نوع من الطوطم، أو علمانيّة مادّية فما دونها لا تُؤمن بالمقدّس، أو بقايا الشعوب التي لها مقدّساتها وعقائدها الخاصّة، فكلّهم يجمعهم أمرٌ واحد أنّهم (لا يُؤمنون بمقدّسنا الخاصّ)، وهذا لا يعني عدم قدرتنا على التعايش معهم والتعاون والتوادد، فلا داعي لاستعداء وبغض البعض دون الجميع، فالملّة الإنسانيّة واحدة، والاختلاف شأنٌ فطريّ.
كما أردنا إثبات أثريْن يُشكّلان عامليْن للعلاج وللمعضلة:
1- أثر التسامح (عامل علاج): به نُثبت مسلكنا في التعامل العاقل والأخلاقيّ مع الآخر، لنُذلّل لأنفسنا أمراً، بأنّ تفهّمنا واحترامنا وبالتالي تعايشنا مفتوحٌ بذراعيه تجاه الآخر، الذي مقدّسُه يُخالف مقدّسنا كلّيةً أو الذي لا يرى مقدّسنا إلاّ خرافة، ممّن هو خارج دائرتنا الدينيّة، فنتسامح معه لأنّ له الحقّ في اختيار رأيِه، ونتعاون معه في كلّ مجالات الخير المشتركة، إذن، فكيف يُرتجى أن تكون نظرتنا وعلاقتنا ومشاعرنا وتعاوننا مع من يساكننا دائرتنا الدينية ويُشاطرنا مقدّساتنا ؟!
2- أثر التقليد (عامل معضلة): فبشأن تعلّق الآخر بمقدّسه بالخصوص (بل وذهاب العلمانيّين لنفي القداسة)، فلأجل أن نعي أنّها كلّها كانت حصائد التقليد (الأعمى) لرجالٍ سادوا أو لمناهج شاعت وأيدلوجيّات معلّبة والتي يُسمّيها “فرانسيس بيكون” (صنم المسرح)، وليس حصيلة الفكر الحرّ والنظر المجرّد، فمدرسة التقليد التي أخذت من (كبراء وسادة) أوروبا والغرب كما في شأن (المتعلمنين) المنبهرين، أو التي أخذت تقليديّاً عن (آبائها) سلفاً عن سلف، هي التي أنتجت عقائد الحاضر ومفاهيمها ومقولاتها تجاه (المقدّس)، والحقّ أنّه نفس الطريق الذي أخذناه نحن، فكلّ مقدّساتنا تاريخيّة أخذناها عن آبائنا وساداتنا وكبرائنا، كما قال القرآن بشأن الأقوام الأولى، فمن أجل نزاهةٍ حقيقيّة، وتواضعٍ حقيقي، ونظرة سويّة للآخر، وعدم تعصّبٍ ضدّه واستعلاء عليه وإدانةٍ له، علينا أن نُعذر الآخرين ولا نُكفّرهم ونحقد عليهم، كما علينا أن نُعمل بالنقد والتمحيص كثيراً من عقائدنا ومقدّساتنا الموروثة، فقد يكون بعضها لا يقلّ سخفاً أو ضرراً وزرايةً، علينا أن نرسم الخيط الدقيق بين المقدّس والتاريخيّ، بين مقدّس الربّ ومقدّس الأب.

ثانيا: مقدّس داخل الدائرة الإسلاميّة (المعضلة)

1. ماهيّة المقدّس:

إنّ المتتبّع لاستعمالات اللفظ (قدس) باشتقاقاته، قرآنيا، ومعجميّاً، واستعمالاته على ألسنة العرب والسيَر، يستخلص منها احتفافَه بالسمات التالية:

  • له ارتباط بالسماء، دلّ على ذلك مشاهدة عيانيّة، أو أثر، أو نصّ، أو وحي، وأحياناً كشفٌ ورؤيا، أو مجرّد قصّة تُؤثر.
  • اتّسم بطهارة ذاتية، معنويّة، تُعبِّر عن نفسها أحياناً بأعاجيب تُفصح عن شأنها برفضها التدنيس.
  • له بركة دائمة، روحيّة، وربّما مادّية أيضاً.
  • شأنه الثبات، والكمال في ذاته، بدون تغيير ولا منقصة تستدعي الإتمام.

فملخّصاً: (القداسة) هي ذلك التعلّق بما مسّه الغيب أو ما يتّصل به في مكنون الشعور، وبهذا فـ(المقدّس) لا ينبغي تغييره ولا تدنيسه، لأنّه ثابت، كاملٌ في شأنه، له ارتباطٌ بالإله وبعالم الروح. أمّا (العقيدة) فهي الحقائق الربّانية والإخبارات اليقينيّة التي مستقرّها القلب لا الاجتهادية الظنونيّة .

ولأنّ مدار (القداسة) يجول حول (الثابت الدينيّ لا العلميّ، أي الثابت لدى النفس لا في الواقع)، فلذلك ينبغي أن نتفهّم تباين هذا “المقدّس” من فئة إلى أخرى لتباين ثقافاتها ومللها وعقائدها وتاريخها.

2. إشكاليّة المقدّس/العقيدة:

لو سألنا: هل هذه الحالة المرصودة في الأمّة من الخصومة المذهبيّة في العقائد والمقدّسات والتهاتر بها والتخاصم، خاصّة بأهل الإسلام؟
كلا، فاليهوديّة والنصرانيّة يتضمّنان مذاهب لا تتزاوج بينها، ومصادرها المرجعيّة وعقائدها ومقدّساتها وأعيادها وشرائعها مختلفة، وتبدّع ويُكفّر بعضها بعضاً .. (شهود يهوه، نسطور، يعاقبة، سامريين، كاثوليك، أرثوذكس، بروتستانت، مورمون ..)، وقد قامت حروبٌ بينهم كما في إيرلندا (كاثوليك وبروتستانت) وكما في يوغوسلافيا (صرب أرثوذكس وكروات كاثوليك)، وهذا أمرٌ حكاه القرآن وحذّر منه، ونصح بوحدةٍ ينبغي أن تكون بين أهل الكتاب تعتمد (الكتاب، التأهّل به، هدى الله هو الهدى، عدم احتكار الهدى ومصادرة الله عن الشعوب، عدم سلب أشياء الآخر)، وأوجز بمقاصده أنّ اليهود على شيء، والنصارى على شيء، ولدينا السنّة على شيء، والشيعة على شيء، وغيرهما على شيء، ولا يُوجد أحدٌ هو على (كلّ شيء) لأنّه حتماً عندها سيعتقد وسيقول للآخر المختلف عنه (لستَ على شيء)، سيقولها للآخر الذي لديه كتاب سماوي مثله !
فهل هي طبيعية إذًا؟ كلاّ، إنّما هي نتيجة الغلوّ في الدين والمخاصمة به، الأمر الذي حذّر القرآن وصاحب القرآن (ص) منه، فهو نتيجة تشوّه الدين وجموده وعصبيّة أصحابه، وتفسيره الخاطئ، أي حين يتحوّل الدين إلى ملكيّة خاصّة، إلى قوميّة وفئويّة، إلى مذاهب ومدارس مسيّجة، إلى رجال متصارعة، وأهواء تُقدّس وتأويلات باطلة، فهذا الصراع والخلاف يقع ولا بدّ، لكنّه غير مشروع في دين الله العالميّ الأمميّ، الذي جاء للتآلف ولدخول السلام للكافّة، وذمّ اختلاف الأحزاب (وهي المذاهب) من بعد هدى الرسالات.
فإشكاليّة هذه الخصومة أنّها تُعشّش وتتغذّى وتنتعش بالاختلافات (الاعتقاديّة)، و(المقدّساتيّة)، وآن الأوان أن نضع عليها إصبع الاتّهام والعلاج.

  • على مستوى العقائد الخاصّة:

ما هي ألوان العقائد (المذهبيّة) التي تنحو بالأمّة (المسلمة) إلى الافتراق عوضاً عن الوحدة والائتلاف؟
فإنّ جميع المسلمين يرون أنّ للعقيدة السنام في تكوين الفرد المؤمن، والمبعث الأساس للعمل الصالح في الدنيا، وهما معاً مقياس الفلاح أو الخيبة في الأخرى، وجميع المسلمين يعرفون القيم الإنسانية والأخلاق المحمديّة (ص) الراقية والتامة؛ ولا يملّ خطيبٌ وواعظٌ من التذكير بها وبالتحلّي بها بطول عالمنا الإسلامي وعرضه، إلا أنّ الخلل ألمّ (بعقيدتنا) التي تجاه الآخر، وانحدر (بأخلاقنا) في التعامل معه.
ونظراً لما أسّسه الإسلام من (حرّية الفكر) كقيمة إنسانية أصيلة، ونظراً لما للناس من تباين في مستواهم الإدراكي والعقليّ وميولهم النفسيّة، ونظراً لما في النّاس من فطريّة البحث، تحفّز اندفاعهم بمسائلة التصوّرات العقائدية والعلميّة والتحرّش بنصوصها المفتوحة منذ القِدَم، ظهر الاختلاف كنتيجة طبيعية لهذه الحرّية والتباينات والميول والطبائع والاستجابة للحثّ على طلب العلم، إلا أنّ السياسة وطغيانها أفسدت الحالة الإنسانية وأخرجتها عن الحدّ الطبيعي للاختلاف الفكريّ إلى التمذهب العصبويّ والتنازع والافتراق، وأصبح المسلمون بعد مدّة ليست بالبعيدة من رحيل نبيّهم الأعظم (ص) فرقًا متنازعة تؤسّس لعقائدها التي تعزل بينها وبين الآخر، ومنها ما شطح ليُبرّر التنكيل ويُشرِّع التجاوز والاعتداء عليه، وهكذا تحولّ الاحتراب بين أبناء الأمّة والتنازع بينهم محاطاً بسياج النصوص والشرعية، وكانتونات الفرق مغطاة بعقائد لا تمسّ ولا تناقش إذ الكلّ يدّعي أنّ ذلك أسّ دينه وما دون ذلك كفرٌ بواح أو شرك ظاهر.
اليوم يُقرّ علماء الأمة وجهّالها بوجود المشكلة، وأنّ الحالة المستشرية بين أبنائها حالة مرضية لابدّ لها من معالجة، والمعاناة اليومية للمسلمين من جراء هذا التنازع وتكالب الأعداء عليهم يعزّز الشعور بضرورة حلّ يُلامس الواقع، ويبقى تخيّر السبيل الأنجع إلى ذلك عقبة كأداء أمام المصلحين لتغلغل الخلاف إلى اللبّ العقيدي للمسلمين، وتوسّع العقائد المذهبية لتبتلع عقيدة الإسلام السمح الميسّر، وتجثم مكانها على صدور الأتباع.
فهل يمكننا فرز اللّب من العقائد عمّا ألحق به من الآراء، وجعل الآراء في دائرة الجواز وفي محطّة الأخذ والترك؟ هل بمقدورنا نزع فتيل الخصومات الاعتقادية بإيجاد كلمة اعتقادية سواءٍ بين فرق الإسلام؟ هل يُمكننا فرز عقائد الإسلام المشتركة للتوصّي بها والالتئام والتثقّف، عن عقائد الفرق، لإعذار بعضنا فيها وعدم تضخيمها؟

  • على مستوى المقدّسات الخاصّة:

لقد صدق هرقليطس (Heraclitus) حين لاحظ أنّ الناس يبحثون عن العلوم في عوالمهم (الخاصّة) الضيقة، وليس في العالم الكبير أو (المشترك) ، وكما أسلفنا أنّ التفرّق إلى فِرقٍ ولّد (عقائد) خاصة ضيّقة، كذلك ولّد لكلّ فرقة (مقدّساتها) الخاصة بها، زيادة على (المشترك) الذي قدّسه الإسلام الذي نزل عن النبيّ محمد (ص)، فنحن أمام أسئلةٍ ملحّة وهامّة تعنينا، توخّيا للإسهام في مداواة أمتنا:
– هل شاركنا في تفريق ديننا، وتفتيت وحدتنا، التي هي جوهر انتمائنا لله ورسوله (ص)، حين وسّع كلّ فريق من مقدّساته الخاصّة، حين أنتج كلّ فريق مقدّساتٍ مبالغ فيها ليُنازع الآخر عليها، تجعل التعايش أمرًا مستحيلا لأنّ الآخر المختلف لن يُوصم إلا بكونه منتهكاً لمقدّساتنا؟! هل وسّعنا حدود حرماتنا فوق حرمات الله، فصيّرنا عبور المخالف واختلاف رأيه انتهاكا وتعدّيا؟
– هل حوّلنا “الاختلاف” الذي هو للتنوّع، ولتوسيع مدى الرحمة واليسر، وآليّة لمنع أيّ إجماع لأمّة الإسلام على ضلالة، حوّلناه تحجّرا وتضييقاً وتميّزاً واستعلاءً وتقديسا للخصوصيّات ولمعاداة بيننا وإلى تباغض واقتتال؟ فالذي يُناقش (عصمة وليّ) أو (عدالة صحابي) أو يُشكك فيها (باحترام) يُهيّجنا ويُفجّر حممنا، فهل نحن أجّجنا هذه الموانع؟
– ثم هل نستطيع تفهم (مقدّسات الآخر) منّا فلا ننالها إلاّ بالتسامح الأخلاقي أو الجدل العلمي وأدب الحوار، فلا نفرض مقدساتنا بالقهر، ولا ننسف مقدسات الآخرين بالقوّة والهزؤ، فنجتثّ قبورهم، ونُطفّي نيرانهم، ونذبّح أبقارهم، ونفجّر أضرحتهم، وندنّس كتبهم، ونسبّ رجالهم، ونستخفّ بشعائرهم؟!
– هل نستطيع أن نحلّ مشاكل اختلافنا بالتعايش والعقل والحوار ورؤية الغايات (الجامعة) الأسمى، فيكون التغيير سلميا، والقناعة قلبيّة، والدعوة بالحكمة والموعظة، والجدال بالتي هي أحسن؟!
– هل معنى حكمنا على عدم “مقدّسية” شيء أن نُصيّره مُهانًا ومدنّساً، أم معناه ألاّ ينبغي الاحتراب عليه وإعلائه فوق الأولويّات؟ ومعناه عدم تثبيته والاعتقاد به كمسلّم فوق النقد؟ فهل أضحت مقدساتنا كالبقرة وكالنار المقدسة؟ هل أضحت أقدس في قلوبنا من الله ورسوله وجوهر رسالة الدين؟ هل أضحى المؤمن أخفّ حرمةً وقداسةً من الكعبة؟ وإلا ما معنى أن يتقاتل مسلمان (شيعيّ وسنّي، وغيرها من تقسيمات تاريخيّة مطّاطة) بيافطة دينية ومسوّغ ديني (مذهبي) وكلّ يزعم أنّ الآخر وطأ على مقدّسه؟ لماذا يطأ الآخر على مقدّسه الخاص؟ ولماذا كان مقدّس ذاك الخاصّ طويلاً ليكون عرضةً للواطئ؟
– وأين هي مقدّسات الاثنين (المشتركة) لتُوحّدهما معاً وتنبو بهما عن هذه الجهالة؟! فما بالنا لا نسمع عنها وعن إحيائها والتبصرة بها على مستوانا الشعبيّ وليس النخبوي فحسب إن وُجدت؟
– هل ثمّة مقدّس حقيقي وآخر وهميّ أو مبالَغ، كأن نقول أنّ مثال الوهميّ: (اللحية، الشطرنج، عدالة الصحابة، عصمة الأئمة، إيمان أبي طالب وآمنة، أفضليّة خليفة على آخر، التفاضل بالأسماء، العزاء المواكبي وطقوسه، زيارة أو عدم زيارة القبور، تقبيل أو عدم تقبيل الحجر، الاحتفال أو عدم الاحتفال بمواليد الأنبياء والأولياء، اجتهادات الصحابة والفقهاء في الأحكام، أقوال الصحابة، وتفاسير المفسّرين، وكتب القدماء) وكأن نقول أنّ مثال المقدّس الحقيقي: (صحّة القرآن كتاب الله، مقام النبيّ (ص) وعصمته عن الفواحش والظلم وعن عدم التبليغ وليس بالضرورة عن الخطأ والسهو، الأعراض المحرّمة، القيَم العامّة، أركان الدين، وحدة الأمّة وقبلتهم)؟
– هل بالإمكان القول أنّ مقدّس الله صالح للاعتقاد، ومقدّس الآخرين غير صالح للانتهاك؟
– ما الذي داخلنا من مساوئ بتوسعة مساحة المقدّس وتثبيته؟ هل صدّنا عن الحقيقة والبحث؟ أأورثنا مخاصمة الآخر عند تناولها إيّاها؟ أخسرنا منطق عقولنا في تبيّن الأولويّات؟ أصرنا فريسة للعب العدوّ بنا لأنّ مساحة استثارتنا كبيرة؟ هل زادت عوامل تصلّبنا وجمودنا لأنّ الثوابت أكثر من اللازم؟ هل استنفدنا طاقاتنا وبذلْنا جهودنا سدىً في الدفاع عمّا لا موجب للدفاع عنه ولا أجر؟ وهل بذلك قصّرنا عن الدفاع عن المقدّس الحقيقي لضياع جهودنا على غير الحقيقي، وانشغالنا بحروب جانبية على المقدسات الوهميّة؟!
هذه وغيرها بعض إشكالات المقدّسات الخاصّة، وإنّ سردَنا لها بهذه الطريقة إنّما هو للإدانة ونقد الذّات، وهو مقدّمة لاستبصار الحلّ المنشود والقيام بواجبنا الشرعيّ والأخلاقيّ.

  • خلاصة الأزمة (تضخّم وتشدّد):

•(التضخّم): هل أدخلنا في مقدّس وثوابت عقائد الأمّة، ما ليس فيها، فتعصّى علينا الالتقاء بكثرة الاشتراطات وكثرة خطوطنا الحمراء، وأدّى إلى مزيد خصومة وعداء برؤية الآخر ينتقص ويدنّس ثوابتنا ومقدساتنا المفتعلة والمبالغة؟
•(التشدّد): هل قواعد (الاحتياط) و(التشدّد) و(التمذهب) و(التحزّب) ووصف أيّ عمل خارج هذه الاجتهادات الرجاليّة والتاريخيّة والمذهبيّة أنّه باطل وبدعة (عمل العاميّ بدن تقليد باطل-مثالاً) (وجوب التعبّد على المذاهب الأربعة-مثالاً)، وردّات الفعل من التجديد، كلّ ذلك أورثنا عدم (التسامح) وعدم (إعذار الآخر)، وضيّق عنا مساحة التيسير التي قد تجمعنا مع الآخر، فأوقع بيننا النفرة (فمن جعل اللحية من ثوابت الدين نفر من الآخر حين فسّقه، ومن جعل الصلاة على محمد وآله لا يحتمل سواها نفر من غير قائلها .. وغيرها)؟!
3. أزمة تفتيتنا بالمقدّس الخصوصيّ- مظاهر وسمات:
قبل التطرق للمعالجة كان لا بدّ من الاقتراب من الأزمة وتسليط الضوء على الظاهرة وسماتها، إذ بوسعِ أيّ ملاحظ متجرّد لواقع الأمّة وضعُ إصبعه على الكثير من الجراح، إذ يكفيه قراءة سيرة النبيّ الأمين (ص) وأصحابه ولو ملخّصاً ليعرف كيف بدأ الإسلام غريباً وسهلاً، ثمّ القفز على الركام التاريخي ليشطبه من ذاكرته، ليحلّ بعصرنا ويرى غربة ذاك (الإسلام) الأوّل الآن بين أهله، بتمزيق متمذهبيه واحتقان قلوبهم على بعضهم، وسيلحظ التشظّي بالخصوصيّات المتفاقمة (عقائد ومقدّسات)، وأنّها تتّسم –إيجابيّاً أو سلبيّاً- بالآتي:
 قابليّتها للمراجعة والتمحيص: فإنّ أكثر ما يُحرّك جماهير الأمّة عواطفها لا عقلها، لأنّها تتحرّك بقلبها الذي فيه مقدّسها، وهذا من حقّها، لكن من حقّنا عليها أيضا لئلا يكون المقدّس (والاعتقاد) وتوسعته وتضخيمه، وقودًا لإحراق بعضنا ببعض، أن نراجع قائمة مقدساتنا (وعقائدنا)، لنمنع اهتياج بعضنا على بعض، بفعل جاهل أحمق، أو كيد خارجي مهمته “فرّق تسد”، لنتعايش ونتآلف ونعود أمة واحدة كما أمر القرآن ووصّى النبي (ص) وائتلف أصحابُه.
 يبرّرها عنفُ الآخر: كما في حكاية الريح وصاحب المعطف الذي كلّما اشتدّت الريح تعلّق الرجل بمعطفه أكثر، هذا المشهد يكشف لنا بالمحاكاة تعلّق الطوائف بمقدّساتها بل اصطناع التقديس الخصوصيّ كلّما اشتدّ التعرّض لها والنقد والمحاصرة والعداء والجدل المذهبيّ المتطاوَل من الآخرين، فسياسات الجور والطغيان والاستبداد التاريخيّة، والاستلاب الغربيّ والهجمة الشرسة، وصراعات الطوائف، وتعرّض بعضها لمحاولات المحق والإبادة والحصار والتهميش والتضليل، أوجد لديها مناعة وتعلّقا أكثر من اللازم بخصوصيّتها الطائفيّة، ومميّزاتها المذهبيّة، بحيث صارت جزءً متأصّلاً من هويّتها الدينيّة والوجوديّة، وهي ليست كذلك إلا بمقدار ما كان التشبّث بها رفضًا ودرءاً للآخر المتعدّي ليس إلاّ، بحيث لو لم يكن موجودًا أو ما مارس استئصالا ولا عداءً لكانت غير مقدّسة ولا عنصرا أصيلا من الهويّة ولباءت كغيرها وعادت إلى حجمها، لقد صارت هويّتنا تُميّز بموائزنا المذهبيّة، لدرجة أنّ خلافاتنا الطائفية بات يعرفها وينشرها كل من هبّ ودبّ (حتى الفضائيّات الغربيّة!)، بقصد الإدانة والتعيير والنبذ وتوسيع الهوّة لا التعارف، وصار لا يعرف أحدُنا عن قرينه إلا هذه الموائز المنتفخة في ذهنه والمُختصرة للآخر فيها ، التي صيّرتنا عرضةً لكلّ طارقٍ شرراً منّا.
 عدم أصالتها: أنّ كثيراً من التقديس كان صناعة تاريخية بشريّة بقوة السلطان وسياسة الدول الزمانية، بفرض أماكن أو إخراج نصوص فيها، أو اختلاق قصص وروايات لها، هذا الحال أصاب العقائد (كعقيدة الجنّ) والشرائع (كالمقاتلة، والتكفير والتنجيس)، والمقدّسات (كتقديس أماكن بعينها لأنّها تدعم وجود الدولة الزمانية (كفلسطين لدول الحروب الصليبية، ونفسها لهيكل اليهود المزعوم)، وكما ينحل بعض الهندوس قداسة على مكان ما بغرض الاحتراب الطائفي مع المسلمين، ويفعل الصهاينة ذلك في آثار في فلسطين ومصر والأردن، لفرض موطئ قدم، ويصير مع الزمن مقدّساً، فإذا كانت السياسة كاتبة التاريخ فما المانع ألا تكون كاتبة معظم العلوم غيره؟! وإذا كانت هي التي فرضت مذاهب بعينها بقوّة ووحشية، فما المانع من فرض وترسيخ تفصيلاتها؟!
 عدم رسوخها القلبيّ: وأنّ الكثير ممّا ادُّعي أنّها (عقائد) الإسلام، وأنّه لا نجاة إلا بها، وتحورب عليها، لو حلّلناها وفق ميزان (معنى العقيدة) وهو عقد القلب عليها، أي رسوخها في قرارة قلب الإنسان ومشاعره، فهي غير موجودة ولا معروفة عند معظم المسلمين من أصحاب الطوائف، عامّة أهل الإسلام، وهم ناجون لا محالة، لكنّهم لا يعرفونها ولا يفرّقون بين أنّ صفات الله هي عين ذاته أم لا، وأنّه مستوٍ على عرشه بهذه الكيفية أم تلك، بل لا يعرفون حتى “مستو على عرشه”، ولا يهمّهم كلام تجسيمه تعالى أم لا، وليس بمسألة ملحّة وذات أهمّية، لولا أن يُضخّمها لهم خطباءُ الكلام، ولولا أن يستلّوها من كتب الكلام القديمة وخصومات مدارسها التاريخيّة، فكيف تكون عقائد وهي ليست مغروسة في قلوب الناس المؤمنة؟! وحدُّها أن تُغرس عنوة في عقول بعض المتعلّمين والمشايخ ليُجادلوا بها، ولا تُثمر في إيمان وتوكّل وحبّ ولا عدمها، هذا دليل أنّ ثمّة انتفاخاً وتورّماً في العقائد، انتفاخاً وتمدّداً في مساحتها، وتورّماً في حجم بعضها.
 عدم إحكامها: وأنْ لو أراد الله أنْ لا يختلف الناس في عقائدهم لأتى بها كلّها بكلامٍ مُحكم لا يحتمل دلالة أخرى ولا تأويلات، ولكنه فعل ذلك في محكمات وبديهيّات العقائد والتشريعات فقط، وجعل النصّ محتملا على أكثر من معنى في العقائد الفرعية العامّة والتشريعات القابلة للتغيّر والمتغيّرة القوالب.
 زيادتها وتطاولها: فإنّ أبده عيّنات زيادة العقائد المذهبيّة وتضخّمها وإفسادها وئام القلوب، والأمّة:
 (الاعتقاد) ببطلان عمل الآخر (المسلم)، وبضلالته، وبنجاسته، وبدخوله النار، وبعدم جواز الاقتداء به في الأعمال، وحرمة التعاون معه في البرّ ووقاية الأمّة، في حين كان ينبغي للعالِم إن كان عالِماً، مجرّد الاعتقاد (باحتمال/أو بيقين!) صوابية ذاته المذهبيّة وأعمالها ونجاتها، وترك الآخرين وعدم الحكم عليهم، ما داموا لم يخرجوا عن ربقة الإسلام وضرورات الدين الواضحة وأركانه وقيَمه، عملاً بقواعد القرآن الكريم وهدي السنّة المحمّدية في هذه المسألة، أيْ إعذار الآخر فيما اختلف فيه.
 (الاعتقاد) بالانتساب والامتداد التاريخي ومسمّياته الخلافيّة وأحكامها في عصور الفتن، والتلبيس باستصحاب الألقاب المتنابَزة، فالأباضيّة خوارج وضُلاّل، والشيعة روافض وكفّار وسبئيّون وصفويّون خبثاء، والسنّة نواصب وأمويّون ..الخ، وكذا (الاعتقاد) بالعكس؛ كاعتقاد الفِرَق في نفسها أنّها (الفرقة الناجية) (الطائفة المنصورة) (أهل الولاية) (أصحاب الصراط المستقيم) (أهل السنّة والجماعة) (شيعة عليّ) ما يعني أنّ الفرق الأخرى على نقيض التوصيف المُسبَغ.
 (الاعتقاد) بوجوب محاربة المخالف وإيذائه وتخزيته والتبرّك بذلك والتقرّب إلى ربّ العالمين!
 تضخيم قيمة (الاعتقاد) بالفروع والجزئيّات وآثارها لتُهتك الأصول من (القيم) و(المعاملة الحسنة) بها وتهون الرئيسيات من العقائد المشتركة الكبرى والمقدّسات، فالجدل البيزنطي على “زواج المتعة”، و”الرجعة”، و”التجسيم”، وآراء “التفسير” ومقولاته، و”عدالة الصحابة”، و”التربة والقبور”، و”خلق الأعمال”، و”خلق القرآن”، و”حوادث التاريخ” و”تعديل الرجال وتجريحها” وغير ذلك ممّا يتنافس في الحذق به نبّاشو القبور ومدقّقو كتب أموات الفريقين، يفضي دائماً إلى تضاغن وتماقت أو سباب مع أنّ هذا هو الحرام عيناً، يتجلّى هذا التضخيم المتزمّت في توصيف تارك هذه الجزئيّة بالهلاك والثبور، وعدّ ما هو متغيّر واجتهادي (مقدّساً) وأصلاً (اعتقاديّاً): (من قال كذا يُقتل) (فليس بيننا وبينه إلا الدم) (يكفر) (يُفرّق بينه وبين زوجته) (يحلّ دمه) (خرج من ربقة الدين) (برئ من ملّة محمّد) (أجمع العلماء على كفره) (لا يُصلّى خلفه وهو واليهودي والمجوسي واحد) هذه كلّها أقوال علماء ماضين يُعاد استحضارها واجترارها وتكرارها، و(كذا) الآنفة قد تعني كلّ (عقيدة) مخالفة، تعني (خلق القرآن) أو (قِدمه) التي قُتل عليها علماء بسيف السلطان كأحمد ابن نصر وعُذَّب آخرون كالإمام أحمد، ثمّ جرى العكس لمّا تبدّلتْ السياسة! أو تعني أنّه اجتهد فقال بـ(جواز كذا) قبالَ من (يعتقد) بعدم جواز هذا الـ(كذا)، حتّى قد قال البعض: (الإرهاب من الإسلام ومن أنكر ذلك فقد كفر لقوله تعالى “تُرهبون به عدوّ الله”)، وتحت قاعدة (مَن أنكر المعلوم من الدين بالضرورة فقد كفر) -ثمّ يُتوسّع بالاجتهاد في إسباغ (العقائد) المذهبيّة لتكون “المعلومات من الدين بالضرورة” وهي ليست كذلك ولا تُعلم بالضرورة- تمّ تضخيم (المعتقدات) الضروريّة! .. وتمّ استباحة حرمات معلومة بالضرورة، ككرامة المسلم وحرمة دم الإنسان.
 تشويه واستبشاع ما لدى الآخر، فزواج المتعة زنا، والمسح على الخفّ مبطل، والاعتداد بأقرب الأجلين زنا، وتحليل الشطرنج كنكاح الأمّ، وذاك الفعل نجاسة، والتقيّة نفاق، وذاك الاعتقاد زندقة وبدعة وضلالة وفي النّار .. الخ، هذا التشويه يستطيل أكثر، بعدم تعريف معتقد الآخر بالإنصاف كما هو، بل بتعدٍّ وغلوٍّ يُدَّعى أنّه من لوازم القول ، وفق منطقِنا وصدرنا الضيّق، فعقيدة (لله تعالى يدٌ ورجل) تُعرَض بازدراء مبالَغٍ على (أنّ قائلها يقول أنّ الله مثلنا يهرول ويضرب)، التي هي لوازم اليد والرجل البشريّتين، وهذا تكذيب لله أنّه ليس كمثله شيء! هكذا يتمّ عرضها وبهذه البشاعة، مع أنّ قائلها لم يقلْ ذلك، وعقيدة (يدُ الله تعني قوّته ومعونته) تُعرَض وكأنّ قائلها ينفي صفات الله ويُكذِّب قوله ويُلحد في أسمائه ..الخ، وغيرها من أمثلة التهييج بين الفِرق بتحطيم خصومهم وتبشيع أقوالهم بلوازمها الكيديّة!
 الخصومة بالتاريخ، وجعل إمامة أهل البيت محورًا للخصومة والحقّ، وعدالة الصحابة كذلك، والتاريخ على أي نحو جرى، وجزئيّات أحكام الفقه، بدلاً من الاحتكام لقيَم الرسالة والتوحّد بها، منطقيٌّ أن يتخاصم مجرمٌ ومسلم على الدنيا، ومسلمٌ ومسلمٌ على الدنيا، وغيرُ منطقيّ أبداً أن يتخاصما على الآخرة ، إلا إذا كان أحدهما أو كلاهما منتحليْن، شعَرا أم لم يشعرا!
 مصدرها ضيّقٌ وغرضُها: إنّ (العقائد) و(القداسات) الثانويّة والفائضة، والتي هي مثار اختلاف ومادّة للتهييج، إنّما يصنعها ويبثّها في العادة علماء الطوائف، فهم مشيّدو الأسوار، وشاحذو الأسنّة، ومفرّقو الدين شيعاً كلّ حزب بما لديهم فرحون، والعامّة تتلقّى بالقبول منهم وتعقل وتتهيّج بهم، فإن كان للأمّة من صلاح فسيبدأ منهم، وإن كان من فتنة فسيبدأ منهم ، فقد حذّر نبيّنا (ص) منهم (ويلٌ لأمتي من علماء السوء)، (ألا إنّ شرَّ الشرّ شرار العلماء، وخيرَ الخير خيار العلماء)، وسُئل عن شرّ الناس فقال (العلماء إذا فسدوا)، و(إنّ في جهنّم رحى تطحن جبابرة العلماء طحناً)، وإنّ التهييج الطائفي والتمييز والتفريق وتضخيم خصوصيّات التباين والخصومة هو صناعة أحد السلطتين أو كليهما؛ السياسية والدينية، على مدى التاريخ، وكلاهما خائنان للأمّة إذا ضربوا على أوتار تفرقتها، قال عليّ (ع) (السلطان الجائر والعالم الفاجر أشدّ الناس نكاية) ، حتّى أنّ بعض (العلماء!) تفوح منهم روائح البغضاء في قمّة الحمق، فيعدّون أن لا جامع بين مذاهب الإسلام، فالفرََق الأخرى تعبد ربًّا غير ربِّهم، وتنهج دينًا غير دينهم، وقرآناً غير قرآنهم، ونبيّاً غير نبيّهم! ويستلّون هذه الرؤى من أقوال قديمة، دُسَّت في الكتب لأهدافٍ مريضة، أو كانت وليدة عصرها السقيم هو الآخر بكلّ حيثيّاته وجدالاتِه العقيمة وفتنِه.
 منابعها قابلة للوقاية والعلاج: وأنّه إن كان من حلّ فهو بالوعي لأثر هاتين السلطتين وسطوتهما، وبعمليّات إصلاح الحكم السياسي، والمرجعيّات الدينية (وإصلاح طرائق فتواها)، أي علينا تقويم (العلماء) لئلاّ يكونوا وبالاً على الأمّة، ويُصبحوا أئمّة فرَقِها (وتفرقتِها)، بلْ يغدون بلاسم جراحها ومؤلِّفة قلوبها، بِحثِّهم ليكونوا علماء الإسلام والأمّة، بدلاً من علماء الطوائف والمذاهب والأحزاب، علماء التسامح بدل التشدّد، والتوسعة بدل التضييق، يحترمون الآخر بدل ازدرائه وتكفيره، بهم يبدأ الخير والصلاح أو بهم يبدأ الشرّ والفساد، كما قال نبيُّنا (ص).
 دواؤها حيث الداء: وأنّ الأمّة لا تخلو من النموذجين دائماً، لتبقى سنّة التدافع قائمة، بين المصلح والمفسِد، المُطفئ نار الفرقة، والمؤجّج لها، علينا أن نؤسّس لثقافة تتيقّظ لهما، وتفرز بينهما، وأنّ عرضاً لبعضٍ من أقوال وخطب الفريقين، كفيلٌ بعرض الصورة جليّةً بدون تعليق:
– فمن الأقوال المؤجّجة:
 ثمّة الكثير من تصريحات وأقوال، تُعرَف من روائحها ونتائجها التهييجيّة والتفتيتيّة، ممّا يُندى لها الجبين، ونربأ عن وضعها، لأنّ مجرّد وضعها أو التعريض بقائليها لاسيّما وهم كبار في الطوائف، قد يثير منتسبي الطوائف على بعضها، ويعزف أنشودة التباغض في نفوسها، ويثير حفائظها، كما كان فعل كيد اليهود في الزمن الأوّل حيث المهاجرين والأنصار ، ونموذج منها فقط، قولٌ لعالِمٍ سنّي يتضمّن قول آخر شيعيّ، والقولان نموذجٌ لما يُمكن أن نتهاوى فيه من حمقٍ وخصومة:
(إنّ دين الرافضة ليس هو دين المسلمين، وملّتهم مُنابِذة لملّة المؤمنين، وليس لديهم أرضيّة خصبة للدين الإسلامي، وقبول ما تمليه الشريعة من أحكام ونظم جليلة، وقد صرّح بذلك سادتُهم وكبراؤهم؛ يقول نعمة الله الجزائري عن أهل السنة : “إنّا لا نجتمع معهم على إله، ولا على نبيّ، ولا على إمام، لأنّهم يقولون: إنّ ربهم هو الذي كان محمّد نبيّه، وخليفته من بعده أبو بكر، ونحن لا نقول بهذا الربّ، ولا بذلك النبيّ لأنّ الربّ الذي خليفة نبيه أبوبكر ليس ربّنا، ولا ذلك النبيّ نبيّنا”، فهلْ بعد هذا القول مِن كفر، إنّ المكفِّرات لدى الرافضة التي أجمع المسلمون عليها في كلّ قطر ومصر، أنّها من نواقض الإسلام، ومفسدات الإيمان كثيرة وطويلة ..).
– ومن الأقوال الموحّدة:
 (هذا الكتاب من الكتب الضالة وليس لك (الكاتب) الحقّ في نشره، عليك حذف المقدّمة وكل ما فيه إساءة إلى الخلفاء) .
 (لا فرق بين الشيعة والسنّة في الأصول، وإنّما هو اختلاف في فروع الفقه كالاختلاف بين المذاهب الأربعة .. المصحف واحد يطبع في القاهرة فيقدّسه الشيعة في النجف أو في طهران ويتداولون نسخه بين أيديهم وفي بيوتهم دون أن يخطر ببالهم شيء البتة، إلا توقير الكتاب ومنزّله -جل شأنه- ومبلِّغه (ص)) .
 (يجب أن نلاحظ الواقع الذي نعيش فيه؛ فلا يمكن أن نبني الوحدة بإحياء خلافات الماضي، بل نبني الوحدة بالتركيز على حاجات الحاضر، وعلى المسلمات الثوابت في العقيدة والشريعة الإسلامية التي تجعل من المسلمين أمة واحدة) .
 (صحيح أننا في حاجة لأن نعالج أخطاءنا التاريخية، لكننا نعالجها بالوسائل المشروعة والحوار العلميّ الهادئ المعتمد على الكتاب والسنة، وعلى أن يكون لنا من الأدب ما نقدس به مقدساتنا التي تكونت عبر تاريخنا، وكذلك قضايا الأمة الكبرى، نرفعها عن المزايدات الطائفية أو السياسية أو المذهبية) .
 (الأصول الأساسية للإسلام لا خلاف فيها -والحمد لله- بين المسلمين، فكلّهم يعتقدون بتوحيد الربّ تعالى، وبنبوة نبينا محمّد والأنبياء قبله -صلوات الله عليهم أجمعين- وبالمعاد، والجنة والنار، وبالصلاة والصوم، والحجّ والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنّ كتابهم واحد، وقبلتهم واحدة، إلى غير ذلك من أركان العقيدة والعمل. وأنّ هذه الأصول المتّفق عليها والمشتركة بين المذاهب الإسلامية هي بالذات ملاك الأخوّة الإسلاميّة، ومعياره وحدة الأمة، دون غيرها من المسائل المختلف فيها والآراء الخاصة بكلّ مذهب، التي تدخل في معايير المذاهب نفسها دون أصل الإسلام) .
**********************
ثالثاً: البحث عن الكلمة السواء (في المقدّس-العقيدة-السلوك) (الحلّ)
أوّلاً: على المستوى الشعوريّ:
ممّا سبق، يتّضح أهمّية وضرورة وعي أفراد أمّتنا لأمرين:
1- نوعيّة مقدّسهم واعتقادهم: فإنّ لدى الأمّة مقدّسين اثنين واعتقادين، واحداً للمذهب، وآخر للدين، وعليها أن تتحلّى بالتسامح بألاّ تجعل (مذهبها) يُساوي (الدين/الحقّ) حتى وإن اعتقدت بأحقّيتها ، فهذا من شأنه أن يصيّر الآخر المخالف المذهبيّ خارجاً من دائرة (الدين) التي احتلّها المذهب بخصائصه القدسيّة والاعتقاديّة.
علينا أن نفرز المذهبيّ عن الدينيّ، فالدينيّ يُوحّدنا ويقوّينا، والمذهبيّ يميّزنا وقد يفرّقنا ويُضعفنا، وعلينا مسئوليّات إيمانيّة وسلوكيّة تجاه كلّ منهما، وتجاه ما لدى الآخر، علينا أن نُحدّد (المقدّس/والاعتقاد المذهبيّ) لنعرف كيفيّة التعامل معه درءاً للفتنة والتنازع، وعلينا أن نُحدّد (المقدّس/والاعتقاد الإسلامي) أو نجتهد للبحث عنه لتأصيل وحدتنا.
2- درجة مقدّسهم واعتقادهم: فإنّ المقدّس له درجاته (العرض مقدّس، الحرّية، الوطن، البيت، الكرامة)، ولا شكّ أنّ مقولة (الموتُ أولى من ركوب العارِ والعارُ أولى من دخول النار) تتيح تنضيد المقدّسات وفق أولوليّاتها وأهمّياتها، فيُتنازل عن حفظ النفس، لأجل حفظ الشرف غير مدنَّسٍ بعار، ويُتنازل عن العرض والشرف تركاً لما يُدخل النار، كقتل بريء واغتصاب ضعيف وخيانة عهد وإتيان كبائر، فالمقدّس درجات، قد يُضحّى بشيء أو بجزء منه من أجل آخر أعلى (سبق أن قُلنا أنّ المقدّس هو الذي لا يجوز انتقاصه وتدنيسه وتعريضه للتفريط والتضييع والمساومة والتنازل، وينبغي الاستماتة ولو بالنفس لحفظه عن التدنيس والمسّ بالسوء)، وقد كانت الكعبة مقدّسة عند العرب لا تُمسّ ولا تُهدم لكنّه ضُحّي بهذا المفهوم لأمر أجلّ وقداسةٍ أعظم .
ثانياً: على المستوى العمليّ:
لكن كيف نبدأ هذا الطريق الشائك للفرز وتحديد الأولويّة؟ وما هي ملامح هذه الرزمة (القدسيّة/الاعتقاديّة)؟! وعلى عاتق من تقع هذه المسئوليّة في جمع أو استنباط هذه الرزمة الموحّدة والسلوك الضابط؟
لقد أشرنا للتوّ أنّهم (أي علماء الأمّة) المؤتمنون عليها، الغيورون على نهضتها، وهي تعني الفقهاء والمفكّرين والمثقّفين، وكلّ من له نظر وغيرة في الدين.
• تكوين الطليعة النموذج (حمَلَة الكلمةِ السَّواء):
إنّ تكوين الطليعة النموذج هو المنطلق الوحيد والبوّابة الكبرى للتغيير، قال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:104) من أجل (عمران) ما بيننا، وامتثالاً لأمر الله تعالى، علينا واجب إيجاد هذه الطليعة في الأمّة، الأمّة الطليعيّة في الأمّة الكبرى، التي تدعو إلى الخير لا الشرّ، وتأمر بالمعروف (وأعلى معروف هو الكلمة السواء) وليست “الطائفيّة البغيضة” وعصبيّاتها من المعروف، وتنهى عن المنكر (وأسوأه ما يثير الضغائن والحروب).
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) (المائدة:15)، من ميزة هذه الطليعة التسامح والعفو، فإذا كان التجاوز عن أمور (العفو عن كثير) هو من العقل مع الطوائف الاجتماعيّة لأجل المصلحة والأهداف العليا، كما بيّنته الآية الشريفة، فإنّ على الطوائف والمذاهب أن تعفو عن كثير من تركيز خصوصيّاتها وتثبيت مواقعها على حساب الآخر، وتتجاوز إدانة الآخر وتقريعه، نفعل ذلك لأجل جلاء النور المشترك والكتاب المبين.
(العلماء الأمناء) الحريصون على الأمّة، هم نواة طليعة التوحيد هذه، عليهم الخروج من ثقافة الخلاف والتنافر والجدل والاحتجاج على الأفضليّة التاريخيّة وغيرها من سفاسف، لينتشلوا أرجلهم قليلاً من مستنقعات الفِرَق والغوص في أعماق وحولها، ويشخصوا برؤوسهم إلى آفاق رحابة سماء الإسلام العظيم التي تُظلّ الجميع كما كانت أيّام البشير محمّد (ص)، فينبروا بعد التحرّر من مضائقهم العقليّة والنفسية لتأسيس فقه جديدٍ تسامحي ميسّر، يدير بالأمل قواعدنا الشعبيّة تجاه المحبّة والتسامح والتقبّل والإخاء، ويُعلي بالإسلام على المذاهب، ويُؤلّف القلوب ويزكو بها أن تتحاقد لاختلاف فكريّ أو رُؤيويّ أو انتمائي فئويّ، ويزيحوا بإطلالتهم الرصينة المشايخ المجانين بالمذهبيّات، المتوتّرين بالعصبيّات، من الفريقين، عن التصدّر بمنابر التوعية (!) بالدين، وبزمام توجيه الناس، فكانوا الداعي الأكبر في انكساف شمس الدين وأفول قيَمه، وإفساد أخلاق أهله، وقلوب أبناء أمّته.
هذه الفئة من الطليعة الرسالية النموذج، هي التي ينبغي أن تتوهّج عمليّاً بأنوار (الكلمة السواء)، وثقافة (الكلمة السواء) المُسالمة المتسامحة، ليجتمع أفراد الأمّة على (كلمة سواء) اقتداء بالنموذج وتأثّراً برسالته.
1. ما هي الكلمة السواء؟
قال تعالى: (تعالوا إلى كلمة سواء)، فما هي (الكلمة السواء) بين مجاميع فرَقِنا؟ ما تنزيل هذه الآية في واقعنا؟ فقد أسّست الآية الشريفة في تنزيلها الأوّل ما يجمع ملل التوحيد (ملل أهل الكتب السماوية)، ولم تُدرج الموائز الخاصّة فتلافتْ حتى الاعتراف بنبوّة نبيّنا (ص)، بل أرست المشتركات مثل التوحيد، وعدم الشرك، وعدم ربوبيّة الأشخاص، أي نبذ الطغيان، وهذه كلّها أبجديّات الحرّية الاجتماعيّة والعدل الاجتماعيّ والتحرّر من الاضطهاد الديني والسياسيّ وإسقاط الوصاية الدينيّة، جعلها نبيُّنا (ص) (القاسم المشترك) الأسمى الذي يتساوى فيه وبإزائه كلّ ممثّلي الأديان، ليقفوا صفّاً ضدّ الدعوات المناهضة للإيمان من شرك ومادّية وطغيان، وهي مقدّمة للمساواة الاجتماعيّة فالقانونيّة في الحقوق والواجبات تحت شعار (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) ، فهي (أيْ عناصر الآية) لم تكنْ إملاء جهة على أخرى، ولا سيطرة، ولا تسييد المميزات والخصائص الثقافية الإسلاميّة المحمّدية، بل المشتركات الكبرى التي تشفع للتعايش والتعاون بين الأديان، الكلمة السواء هي المبادئ والقيَم والعقائد المشتركة النافعة للتعايش والتعاون والاحترام وواجبنا تأليف الناس عليها.
فثمّة (كلمة سواء) بين الأديان هي التي يتجلّى بها (تسامح الدين وشموليّته).
ثمّة (كلمة سواء) بين الطوائف هي التي تتجلّى بها (وحدة الأمّة) وقوّتها.
ثمّة (كلمة سواء) بين الشعوب وهي التي تتجلّى بها (عالميّة الإسلام).
ولقد وُجد في كتاب الله خطاب (يا أيّها الذين آمنوا) 89 مرّةً، لتدعيم وحدة الأمّة المؤمنة وبيتها الرسالي الداخليّ، لكنّه لم يكن الخطاب الوحيد تجاه الآخر المؤمن، بل ثمّة خطاب (يا أهل الكتاب/يا أيّها الذين أوتوا الكتاب/يا أيّها الذين هادوا) 14 مرّة للوصول إلى منطلقات مشتركة مع الأديان بالتوادد والتوافق والاحترام وعدم الاعتداء، وأيضاً حفل كتاب الله بخطاب (يا أيّها الناس) كأكبر مشترك وهو الإنسانيّة 19 مرّةً، آملاً في العثور على تقاطعات مشتركة اعتقادية/أخلاقيّة/سلوكيّة، مع كلّ بني الإنسان.
فمن الضرورة بمكان ما دام الإسلام دين السلام العالميّ، التفتيش عن (كلمات سواء) تجمع المشتركين بمجالٍ ما، للبناء عليها تجاه التعارف والتعاون والسلام، فالإسلام أوّل من دعا لإيجاد (الكلمة السواء) .. بخطابه الإنساني غير العرقي ولا الديني لشعوب الإنسانية ؟ (وإنّ رؤيتنا لمستقبل الأرض يمرّ عبر الدعوة إلى هذه الكلمة السواء، التي أوجب ديننا علينا أن ندعو الآخرين إليها، (تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم)، في إطار نصرة الحقّ والخير والعدل في كلّ مكان، بصرف النظر عن الجنس أو العرق أو اللون أو المذهب أو الرأي، إنّ الحوار الإيجابي البنّاء هو الجسر الحضاريّ الذي يجب أن يمتدّ في كلّ اتّجاه، لتمتزج أفكار بني الإنسان ومشاعره على موقف موحّد من قضايا الإنسان الكبرى).
2. واجبات الطليعة لتكوين الكلمة السواء:
قال الشيخ محمّد رشيد رضا: (لم يَسْلَم المسلمون مما جرى لمنْ قبلهم من الأمم باختلاف التأويل والروايات الآحادية وأهواء الرؤساء والتعصب للمرشدين، ونرجو أنْ يعودوا بتربية الزمان القاسية إلى الوفاق بالعود إلى الأصل المُجمَع عليه، وهو الكتاب والسنّة العمليّة المتَّفق عليها، ويعذر بعضهم بعضًا في الروايات القولية الآحادية, مع البحث والمجادلة بالتي هي أحسن)، لقد شخّص ذلك الشيخ المتوقِّد الداء والدواء معاً.
إنّ على هذه الطليعة الرساليّة أوّلاً، سواءً كانت فقيهةً، عالمةً، أو مثقّفةً، أن تتحلّى بالإخلاص لله تعالى وللأمّة، وتتّصف بالشجاعة الكافية، شجاعة المخالفة، وعدم ممالأة الأتباع أو الخضوع لها، وبالتفاني ونكران الذات، لأنّ عليها مسئوليّة انتشال الإسلام الحقيقيّ من انتهابات المذاهب، وإبرازه عالياً فوق الخصوصيّات، وذلك بـ:
• إنشاء قواعد التواصل: على عائق هذه الطليعة مسئوليّة إنشاء وإقرار قواعد التواصل والتعارف والتعاون على كلمة سواء من الإنصاف والاحترام وحسن الظن والانتماء إلى هوية الأمة ودينها وثقافتها.
• تقديم نظرة القرآن عن الآخر: عليها أن تُقدّم النظرة القرآنية في التعامل مع الفكر الآخر، في وقت غلب على فصائل الأمة أحاديّة التفكير وأحادية التمحور والفكر التصادمي الذي لا يرى للآخر إلا الإقصاء والتجاهل وربّما التكفير!
• استنباط العقائد المشتركة: استنباطها وتكريسها بين طوائف المسلمين مثل (التوحيد والنبوّة والقرآن وأركان الدين وأصوله، الأخلاق، القيَم والفضائل، والرذائل، الواجبات والمحرمات الأصلية، العبادات، شرائع العدل الثابتة لدى الفريقين، لتثقيف وتربية النشء الجديد بها بمراكز التربية والتعليم.
• اكتشاف كلمات سواء متنوّعة: على هذه الطليعة أيضاً، لأجل أن تتحمّل رسالة الإسلام الرحمة للعالمين، أن تكتشف كلمة سواء بين أنواع الإنسان في دائرته الكبرى، وكلمة سواء (قواعد التعايش والتواصل والتعاون والاحترام) بين الأديان في الدائرة الوسطى، وفي الدائرة الأصغر فباكتشاف وتأصيل وتفعيل كلمة سواء بين الطوائف والمذاهب.
لقد استطاع النبيّ الكريم (ص) أن يُوجد (كلمة سواء) مع اليهود وغيرهم، وأخرى مع المشركين (بالتعايش السلمي والأحلاف والعهود، وحرية العقيدة “لكم دينكم”، والمواطنة المتساوية كما في وثيقة المدينة)، فعلى هذه الطليعة الهادية مسئوليّة إخراج أنوار السيرة الشريفة وأخلاقيّاتها وتبيان فقهها التوحيديّ الذي اعتنى بتأسيس هذه الكلمات السواء مع الأديان الأخرى، والتي جاهدت لتلاحم بين طوائف المسلمين وطبقاتهم وقبائلهم وأجناسهم وطوائفهم، وتسامت على سوابق ثاراتها وأحقادها واختلاف عاداتها وطبائعها، وتقبّلت آراء رجالها (الآراء التي تطوّرت وتحوّلت لمذاهب تاريخية ورثناها لليوم!)، فقد أقرّ (ص) تباين الاجتهادات، ومنع فتن الطوائف ووصفها بالنتانة وبحميّة الجاهلية.
بل إنّ من كلمات السواء أيضاً، التعاون لدرء خطر جامع، انحلال أخلاقيّ، أمراض اجتماعيّة وحضاريّة، وباء صحّي عام، كارثة وطنية أو عالمية، عدوّ مشترك، وهذا الأخير بالخصوص ضروري لتوحيد طوائف أمّتنا بإبراز عدوّها المشترك الماحق لوجودها وهوّيتها.
• إبراز العِبَر السيّئة وتجارب التوعية: مسئوليّتها تفتيح وعي شعوب الأمّة، عبر دراسة وتقديم آثار التجارب الإنسانية السيّئة التي عجزت عن الوصول لكلمة سواء، وآثار الأخرى التي نجحت (كتعاونيّات المصالح المشتركة، السوق الموحدة، معاهدات عدم الاعتداء، اتّفاقيّات التعاون المشترك، تسهيل التبادل التجاري ..) هي نماذج لكلمة سواء تلزم الأطراف بالتساوي.
• تقديم فقه التعايش واللاعنف: كما من شأن هذه الطليعة تقديم فقه جهاديّ جديد ضدّ الظلم فقط لا ضدّ الاختلاف، يتحرّر من الفقه التاريخيّ والعصبوي المأزوم والآخر الرسميّ السياسيّ، فقه نبويّ إنساني، لا يجيز العنف والعدوان إلاّ على المعتدين بالحرب، ويرفع وصايته عن ضمائر الناس ويُسقط كلّ الفتاوى التي هي ضدّ الآخر ويُجرّمها، لتفعيل قواعد التعايش بين الطوائف ورسم قواعد سلوكها، وعقوبات مخالفاتها، استهداءً من التجربة النواة الأولى الشريفة والخطاب القرآني المبارك، في رسم قواعده وبنوده العريضه، من مثل:
o (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)(آل عمران:103)
o (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة:190).
o (فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ)(البقرة:193)
o (فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ)(الحجرات:9) ..
o (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات:10).
o (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)(المائدة:2).
o عن النبيّ (ص): (إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فكلاهما من أهل النار”، قيل: فهذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: “إنّه أراد قتل صاحبه”). وقال (ص): (كلّ المسلم على المسلم حرام ماله وعرضه ودمُه)، و(سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)، وقال: (لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) .
o وقال (ص): (الجنّة حرامٌ على من قتل ذمّيًا أو ظلمه أو حمّله ما لا يطيق، وأنا حجيج الذمّي فكيف المؤمن) وفي خبر آخر (من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة) وفي رواية (من أعان على قتلِ ذمّيٍ) وأخرى (على قتلِ مسلمٍ) وأخرى (على قتلِ مؤمنٍ) فحرمة الدماء واحدة لديه (ص).
o عن النبيّ (ص): (ستكون فتنٌ القاعد فيها خيرٌ من القائم، والقائم فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من الساعي، من تشرّف لها تستشرفه، فمن وجد ملجأ ومعاذاً فليعذ به) .
o (وعن ابن مسعود (رض)في الفتنة: “قلتُ: يا رسول الله، فما تأمرني إن أدركتُ ذلك؟ قال: كفَّ يدك ولسانك، وادخل دارك”).
o (وعن جندب (رض) رفعه إلى النبيّ (ص)، في الفتنة: “ادخلوا بيوتكم، وأخملوا ذكركم؛ قال: أرأيتَ إن دُخِل على أحدنا بيته؟ قال: ليمسك بيده، وليكن عبد الله المقتول لا القاتل”.)
o وغيرها الكثير من ضوابط، لم يبخل ويُقصِّر بتأسيسها النبيّ الأكرم (ص)، والعقل يهدي لمثلها.
• تأليف القلوب ونبذ الرؤى المذهبيّة: على هذه الطليعة قدر الإمكان أخذ زمام المبادرة لتأليف القلوب بثقافة حصينة تأخذ مكانها على صعيد الممارسة لتُثمر التلاقي في الواقع، تشكيل الثقافة هذه محورها أن تُعيد للدين موقعه الربّاني الجامع كبرنامج غايته احتواء كلّ الإنسان وتهذيبه وتأهيله وتفتيح وعيه، وتنبذ عنها الرؤى المذهبيّة التي غايتها تحرير ما يميّز مذاهبها ممّا يلتبس بها، وتمييز أتباعها وتفضيل رجالها، فالدين لله والمذاهب للرجال، الدين للفضائل وللقيم الكبرى من عدل ورحمة وخير وإحسان، والمذاهب للاختلاف في التفاصيل والتنظيرات والآراء.
• مناهضة ثقافة الكراهية ودعوات التفتيت: وعليها عبء مناهضة صيحات، ومشاريع، ودعوات، وثقافة، وفقه، وبرامج التفتيت والبغضاء التي تُشيعها زعامات الفرق الدينية المتحصّنة بتمثيل الدين والمتلفّعة بآثار السلف، والمسكونة بهواجس خصومة الآخر وقطيعته وبغضه وتضليله، والقابعة في الماضي تجترّ خلافاته وتستحضر سجالاته، ولا ترى الإسلام إلا في الفرقة، ولا الأمّة إلا اثنين وسبعين فرقة، كلّها في النار إلاّ هي، وتجد جهادها المقدّس وسبب وجودها وشهوتها وفقهها وأدبها وخِطبها ومجدها ورسالتَها وأجرها في إسقاط بقيّة الفرق الضالّة بحسب مقولتها، وفي تكرار مآثر السلف ونسبتهم لها، وبشنّ الحرب بألوية عقائد السلف وكلامهم وآرائهم ونظراتهم لبقيّة الملل والطوائف والرجال، وجلّ كلامهم عن الآخرين تختصره عبارات (رافضة، نواصب، جهمية، معتزلة، مشبّهة، معطّلة، قدرية، أشاعرة، ضُلال، مبدعة، زنادقة، كفّار، عبّاد القبور) ويخصّون أنفسهم بألقاب (الفرقة الناجية، والطائفة المنصورة، والفئة المحقّة، وأصحاب الدين، وأهل اليقين، وأهل الولاية، وأهل الشفاعة، وأصحاب الصراط المستقيم ..الخ) وتعريفهم بالآخر الفكري -المخالف في بعض اجتهادات كلاميّة لاجتهادات رجالٍ استأثروا هم بها- ينتهي دائما بدعاء التخزية والبغض (أخزاهم الله، لعنهم الله، فضحهم الله، قبّحهم، قوّض بنيانهم، أكبّهم على وجوههم، شتّت الله شملهم .. الخ) فهم يعيشون الحرب بين المسلمين، ويُوقدون نارها ويشبّون أوراها، نزاعاً على تاريخٍ لا يصنع حاضرًا، واجتهاداتٍ لا تقدّم ولا تؤخّر في الإيمان والعمل الصالح ورقيّ الأمّة وإلفتها وريادتها.
فعليها (وبدلاً من توافر فتاوى التحريض والتفريق) أن تقوم هي أوّلاً، وتقنع كافّة علماء الأمّة وزعاماتها ثانياً، بالإفتاء لأتباعها بحرمة الدخول وتغذية وتهييج كلّ ما من شأنه زرع البغضاء الطائفية وتمزيق الوحدة الإسلامية، وبتحريم القتل المذهبيّ والكيد والسخرية والجدالات الممرضة للنفوس الممارسة بهوسٍ في المجالس والمنتديات.
3. كلمة سواء في العقيدة والثقافة الجامعة:
إنّ رسم معالم هذه العقيدة الجامعة عبر (نموذج مبسّط لمضمون اعتقاديّ)، وربّما ببداية عمليّة بوضع مسودّة لـ(نموذج أوّلي لمعالم ثقافيّة)، يبدو أمراً مهمّاً لفتح الحوار فيه والبناء عليه كنواة.
أوّلاً- نموذج مبسّط للمضمون الاعتقاديّ والتقديسيّ: لأجل إرساء كلمة سواء في العقيدة، وتأسيس ثقافة جامعة توحّد شعور فرق الإسلام وطوائفه، ينبغي إنشاء مضمون مبسّط لهذا الاعتقاد، وهذه الثقافة، بنبذ ما يُسمّى بـ (مفردات المذهب)، كما ينبغي إزالة موانع ومعوّقات تشكيلها من عقائد ومقدّسات زائفة.
أ- توفير المضمون المشترك:
• نستلهم من مفهوم (ويعفو عن كثيرٍ) ومن مبدأ (الأولويّات) المتقدّم ذكرُه، أنّ ثمّة تنازلات يقدّمها طالب الكلمة السواء (العلماء الأمناء/طليعة التوحيد) للالتقاء مع الآخر على منصّة مشتركة جامعة، هي تقاطع دوائر الكيانات/المجموعات، أمّا الخصوصيّات الطائفيّة/المذهبيّة فتموضعُها في منطقة الفراغ، وهي منطقة غير حدّية، لا يُمكن أن تكون من الثوابت العامّة المشتركة والجامعة، بل خاصّة بالمتغيّر والمُختلَف فيه، وبالإمكان الحوار حولها بأدب والاختلاف، أمّا المشتركات فليست ساحتها منطقة الفراغ بل المركز، فيُدافع عنها دفاعاً عن اللحمة (وبعضها ثوابت وآخر مقدّسات)، ولا يُساوم عليها لأنّها لدى الجميع، وبإمكاننا تبيين ذلك مختصراً بالآتي:
الرسم الأوّل مثال لعلاقة سليمة، والمنطقة المشتركة هي المثلث الزيتوني.
الرسم الثاني مثال لعلاقة خاطئة (طغيان) طائفة على أخرى وتهميشها وإزوائها.
 منطقة الفراغ مساحةٌ تُعرض فيها وتُملأ بالاجتهادات الميسرة للعامة، وهي المناطق المشتركة (الأخضر، البنفسجي، البرتقالي) وأيضا وبالأساس (الزيتوني)، أما الفراغ الخاص بكل فئة كالأصفر الخالص، والأزرق الخالص، والوردي الخالص فلا بأس بتخصيصه للخصوصيّات والاحتياطات، وهي منطقة لا تحوي حرمة واضحةً ووجوباً صارماً وباطلاً بيّناً وصحّةً أكيدة، بل محتملات حرمة ووجوب وآراء، فيتسع فيها مجال الاجتهاد الآخر وقبول الآخرين وإعذارهم، وهنا يتبيّن مفهوم التسامح للاختلاف، وعدم السيطرة والإكراه، فلدى كلّ رأي حقّ ما، وتثبيتُ هذه المناطق وتقديسُها جمودٌ وفتنةٌ، فقط الزيتونية اللاشرقية واللاغربية تثبت.
 العبادات التي أتى بها النبي (ص) وأصّلها القرآن هي في المركز، وأشكالها وكيفيّاتها المختلف فيها تقع خارجه (كيفيّة الوضوء، الجمع والتفريق للصلوات، كيفية الوقوف للصلاة، الأذان، وقت الصوم الشرعيّ، القراءات، طرائق مناسك الحجّ، فالصلاة والوضوء والحج وصوم رمضان والزكاة فرائض ثوابت، وكيفيّاتها محتملات على ضوء ما رُوي ومورس تاريخياً.
 المرويّات التي لدى الفريقين بطرق مختلفة ومتواترة وصحيحة السند والمتن، وقطعيّة الدلالة والصدور بالاتّفاق، ولا تُخالف كتاب الله، هي في المركز، وغير ذلك في الطرف .
 أخبار السيرة المتّفق عليها سندًا ومتنًا وفهماً ومتواترة، ولائقة بمقام النبوّة، هي في المركز، وسواها خارجه.
 العقائد المتّفق عليها وأكّدها القرآن بمحكماته بلا اجتهاد هي في المركز وغيرها ليس ذلك، ومثال ذلك عقيدة التوحيد في المركز والكلام في الأسماء والصفات هو في الطرف، والقرآن كلام الله في المركز، وكيفيّة كونه كلاماً لله، وهل هو مخلوق أو سواه هو في الطرف وقابل للاختلاف بلا فساد ودّ وأخوّة وتكفير واستباحة دماء كما حصل إبّان سطوات الظلم واحتكار الدّين.
 القيم والأخلاق والفضائل النفسية والحرمات الواضحة المبيّنة في القرآن، هي في المركز (كفر بالله وشرك تصريحي به، قتل، زنا، كذب، عدوان وظلم، سرقة، سبّ، شهادة زور ..).
 ومن نافلة هذا أمورٌ تاريخيّة كثيرة هي مثار خلاف دائم وقنابل موقوتة لاستفزازنا، فخلافُ السقيفة التاريخيّ، وهل الحكومة الشرعيّة بالنصّ أم بالشورى، بالبيعة أم بالوراثة، فالثابت وجوبُ حكومةٍ عادلةٍ مرضيّةٍ من الناس، وطرائقها قابلة للبحث وللحوار بلا خصومة وبلا تعطّل كفر وإيمان عليها.
ب- إزالة المعوّقات:
أمّا من ناحية إزالة معوّقات القداسة، فينبغي تخفيف أثر القداسات الصنميّة، وتوابعها من العقائد الاستعلائيّة التي تَغرِس وتُطلق فينا العنفَ تجاه الآخر وتُعمّق خصومته وبُغضه، وهي:
• الأحاديث المزعومة حين تلبس القدسية فلا تُنقد، بخلاف القاعدة المحرّرة للعقول (اعرضوا أقوالنا على كتاب الله) (كونوا نُقاد كلام)، ولهذا كان علم جرح وتعديل الرجال، وعلم تصحيح الأحاديث سندا ومتنا، ولقد كان علماء التجريح يطعنون في الرجال ويظهرون مثالبهم لأنّ ثمة أقدس منهم هو معرفة صحّة الحديث وانتسابه لفم القداسة، أي أنّ الحق أقدس من الرجال، لذلك تجد الكثير من الترّهات وهدر الأوقات هذه الأيام في بثّ أحاديث وتقديسها والدفاع عنها تشغلنا (بجواز رضاعة الكبير، وجواز التبرّك ببول المعصوم (!!) .. الخ) فمن أجل قداسة الحديث تُداس قداسة النبي (ص) وقداسة وطهارة العقل.
• الرجال، وآراؤهم، حين تُقدّس وتُحاط بهالة، تكون سبب الجمود والحروب، وقد أسّس الرعيل الأوّل قيمة التواضع وعدم القدسيّة للرجال وترْك الشخصنة فهذه آثار نبيّنا وصحابته (قال لا ترفعوني فوق حقي/قدري) (إنما أنا ابن امرأة كانت من قريش تأكل القديد) (إنّما أنا بشرٌ مثلُكم) وكانوا يُناقشونه (ص) ويقترحون عليه، أبو بكر (رض): (وليتُ عليكم ولستُ بخيركم فان أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني) واقترحوا عليه، عمر (رض): (أصابت امرأة وأخطأ عمر) واقترحوا عليه، وقال: (لا خير فيكم إذا لم تقولوا لنا، ولا خير فينا إذا لم نسمع منكم) ، ولما كتب أبو موسى كتابًا عن عمر، كتب فيه: (هذا ما أرى الله عمر)، فقال: (امْحُه واكتب: هذا ما رأى عمر، فإنْ يكُ خطأ فمِن عمر) ، ونهى عليّ (ع) أن يُصنَع له كما يُصنع للملوك والجبابرة وكان المسلمون يُناقشونه ويقترحون عليه، ثم جاءت الطامة فدهم الأمّةَ حكمُ الاستبداد وتقديسُ الرجال والاستئثار بالقرار وحبس العقل. (فإنّ هذا الدين قد كان أسيراً في أيدي الأشرار يُعمل فيه بالهوى) (واللهِ لا يأمرني أحدٌ بعد مقامي هذا بتقوى الله إلاّ ضربتُ عنقه) .
• السابق من تقديس أحاديث ورجال، أنتج مسألتنا الراهنة الخطيرة من تقديس (الطائفة) و(المذهب)، فكأنّه المراد تأبيدهما ونفي تعلّق منقصة بهما، واحتكار الحقّ المطلق، ما يستدعي لكونها مقدّسة استعداء الآخر المخالف المذهبي والمناقض الطائفي (بكونه مخالفاً للحقّ المطلق!)، وكأنه لا يُمكن تذويب خصومات الطوائف والمذاهب في جوامع الإسلام، أو الوطن والمدنية، وشرعة حقوق ومساواة عادلة (وكلّها كلمات سواء).
ثانياً- نموذج أوّلي لثقافة جامعة:
إنّ على علمائنا صناعة نشء جديد يتمرّس على ثقافة (الكلمة السواء) التي هي (لبّ الدين) ومحجّته البيضاء الواضحة النقيّة ليلُها كنهارِها، مضافٌ إليها (ثقافة التسامح)، فيها:
• (الاعتقاد) بأنّ الاختلاف رحمة، وهو من لوازم حيويّة الأمّة وتنوّع طاقاتها واشتغال عقولها، وهو يفيد في تيسير أحكامها، ويسهم في توفير الصواب فيها ويمنع اجتماعها على ضلالة، فيُنظر إلى الاختلاف بعين الإيجاب والقبول والضرورة.
• إعذار المخالف وإنصافه، فإنّ معرفة الله وكونه رحيما وعدلاً تقودنا إلى هذا، وإنّ إساءة الظنّ بالخلق وبالخالق يقود إلى ضدّه، وإنّ تواضعاً دينيا وعلميّاً يقود إلى هذا، وإنّ غرورا دينياً وإحساسا خاطئا بالاصطفاء والأفضليّة يُنتج الشراسة في تقييم الآخرين وعدم إعذارهم، فالناس اختلفت عقائدُها لأنّها تطلب الحقّ، وعقائدها تباينت -لا أقلّ الآن- بقصدٍ خيّرٍ وليس شرّير، وتفاوت تقديسها للسبب نفسه، فهم يقدّسون ما يعتقدون صحّته وما يحسبونه يرتبط بالله تعالى، كما قدّسنا نحن الحجر الأسود لما نعتقد وراءه، وهم لمقدّساتهم مثلنا لا يقدّسونه لعلمهم بباطله ودناسته وخبثه، هم يقدّسون الطهارة.
• (الاعتقاد) يقيناً والتشرّب بأنّ النبي الكريم (ص) بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وقطعًا وضع الحجارة الكبيرة أولا، فأي زيادة أتت بها المذاهب فهي ليست من ضرورات الدين، ولا بالتي يبطل الإسلام بدونها، أي كلّ ما كان عليه النبي وأصحابه يكفي من علم واعتقاد وحال وسلوك، وأيّ زيادة فزيادة.
• تمثّل (الصلاة الوسطى) كمفهوم ينبغي المحافظة عليها وعلى مقاصد مفهومها، لأنّها جماع المجموع فما هي؟ أحد مصاديقها (الصلاة بأخفّ صلاة رعاية لحال أضعف الموجودين) فالكلّ قادر عليها، هي المشترك الذي يسع الجميع، كما بنى الإسلام أنّ المُتمّ يؤمّ المقصّرين والمتمّين، لأنه يسع الجميع لا العكس، والقائم يؤمّ القائمين والقاعدين، والفصيح يؤم الفصحاء والأعاجم، ولو أردنا تأسيس فقه جديد قائم على التسامح وصلاة توحّد صلاة المذاهب وهي عمود الدين وتغيير النظرة إليها تغيير النظرة إلى ما بعدها، لرأينا صلاة المسلمين أيام النبي (ص)، الصلاة المشتركة بين الجميع بإزالة الزوائد إلا حين الانفراد، ولا يُبطلّ عمل أحد فهذا لله تعالى لا لأحد، وحد المجتهد أن يقول ما يراه أولى بالصحة.
• التخفيف من غصّة العاطفة تجاه خصائصنا التي نعدّها مقدّسة، فعلينا أن نُفهم أفراد الأمّة المشكّلة في طوائفها، أنّ أيّ تضحيةٍ من أجل (التعايش السلميّ) تحقيقاً لمبدأ الكلمة السواء (ادْخُلوا في السِّلْمِ كافّةً) ، هي تضحيةٌ على حساب المذاهب المتضخّمة لا على حساب جامعها الإسلام، فما أُخذ من الدار لن يذهب إلى الطريق بل لتوسعة الفناء، و(إنّ أكثر أيام الأمّة ضياعًا هي التي نضخّم فيها وهج المذهبية على حساب شمس القيم والمبادئ). فالتنازل عن خصوصيات مذهبية للتآلف والوحدة، والتنازل عن مقدّس موهوم أو حقيقيّ لمقدّسٍ أكبر، هو من العقل ومن فقه الأولويّات، ولقد كانت العرب حتّى قبل الإسلام تفهم هذا الفقه فقد هدموا الكعبة وكانت مقدّسة لديهم ويخشون ربّها ورأوا فعل الله بأصحاب الفيل، لكنّهم استسهلوا هذه القداسة، لأمرٍ أجلّ وهو إعادة بنائها بحرّ مالهم، وقد كان الوليد بن المغيرة أوّل ضارب بالمعول، في قصّة ذات عبرة).
• ضرورة أن ننزع حرارة التقديس عن غير المقدّس على الحقيقة (إذ كما أسلفنا أنّ ميزة المقدس أن يُغضب له)، فلنبحث فيم غضب له رسول الله، ومتابعة الروايات التي فيها “فغضب” “فبان الغضب في وجهه”، لقد غضب لقيم الدين والإنسانية؛ لظلم الضعيف واليتيم ولم يغضب لشرك بجهل، غضب للحرب بين الإخوة، فالقيَم مقدّسة لا نتهاون فيها، وأفكار المذاهب ورؤيتها للتاريخ وأحاديثها المصحّحة من وجهة نظرها غير مقدّسة فعلينا إمّا أن نتجاوزها طلبا لقيَم الإسلام (الوحدة/والعفو عن كثير/التسامح/التعايش/الأخوّة/الاهتمام بقضايا مظلومي العالم ومحاربة فساده ورفع لواء العدل والحقّ) أو نتناقش فيها دحضاً أو إثباتاً بلا حرارة التقديس والاستعداء وفجور الخصومة.
• علينا أن نضع قواعد الدين نصب أعيننا، وقواعد الدين هي (عقائد فطريّة تجاه الله وخلقه)، تحكم المشاعر والفكر والسلوك.
منها أنّ من قال (لا إله إلا الله) فهو مسلم، وأنّ (الإسلام) هو الذي به يكون التزاوج والشهادات والمواريث، وليس بالمذاهب والتضييقات، و(المسلمون يدٌ على من سواهم) من عدوّ وغازٍ، تجري الأمور بينهم بالثقة لا بسوء الظنّ (احمل أخاك المسلم على سبعين محمل خير)، وأنّ حق الاختلاف يجب أنْ لا يمسّ ثوابت الدين وهي الأخلاق والقيَم والمحرّمات البديهيّة، قال تعالى (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً)(لقمان:15)، فالاختلاف قد يكون حتّى في توحيد الله ولا يمنع تعايش المتخالفين، ولكن برّ الوالدين ثابت لا يسقط مع الاختلاف.
• وضع معايير سلوكية على هدي (الكلمة السواء): (بالعدل والإنصاف، والنصيحة والاحترام، والمحبة والسلام)، مثل:
– احترام السلف الصالح والإيقان بفضل الصحابة على الإسلام.
– ترك السبّ لأيّ أحد، وترك لعن الشخصيّات المقدّسة لدى مذاهبها، فالسبّ ليس من الدين أصلاً.
– السماح بحرية النقد والتعبير دون تطاول لمناقشة التاريخ بصدر رحب.
– وقف مسلسل تأصيل الخصوصيّة، والخصومة بها، والتبشير بها، لأنّها تؤصّل للعصبيّة.
– وقف الاستهزاء الطائفي، والتنابز، والتفاضل، والتربّي على السلوك الحميد تجاه الآخر المختلف.
– وغيرها من أخلاق محمّدية أصيلة تضع أقدام طوائف أمّتنا على سنّته وسجاياه، أسّسها القرآن ونبيّه وسمّاها من مقتضيات الإيمان، وضدّها من مقتضيات الكفر والفسوق والعصيان، كالبغي والغيبة والنميمة والسعي بالعداوة والسخرية والتطاول بين فئات المؤمنين واللّمز بينهم والتنابز وسوء الظنّ، المبيّن كثيرُها في أحاديث النبوّة، وفي سورة الحجرات بكاملها.
على العلماء توجيه قواعدهم وطوائفهم لكلّ تلك السجايا والخصال الإيمانية المحمّدية التي بها علا الدين وصلحتْ الأمّة في بدئها، وإدانة كلّ السبُل التي تُخالفها في المجالس الخاصّة والمنابر الإعلاميّة والمنتديات، وتجريم فاعليها من أتباعهم وإنكار منكراتهم ووسمهم بعلامة الفساد لا الصلاح مهما بلغ فقههم وعلمهم ووجاهتهم، وتربيتهم بالنهج القويم بدلاً من التوجّه لإدانة الآخرين.
ختاماً: ما أحوجنا اليوم إلى قيامتنا متوحّدين لاستعادة رونق ديننا السمح الموحّد الذي هو منجاة للإنسانية جمعاء وليس لعزّتنا الخاصّة فقط، وهي مهمّة لا يقوم بها فقيهٌ أوحديّ أو طائفةٌ مخصوصة ناجيةٌ أو غيرها من أباطيل! بل بتوافق أيدي رجالات وغيارى الأمّة وسواعدهم وأذهانهم وقلوبهم وتصافي نواياهم، فالدين الغالي هو آخر معاقل هذا الإنسان، وإن ثار الإنسانُ بالدين (الصحيح) على الظلم لاجتثاث الفساد، فسيحتفظ بالكرامة الإنسانية وسيترفّع عن أخلاق الهمج وسيُنتج صلاحًا حقيقيا مستداماً، أمّا إذا فسد (الدين)، وصار شيَعاً وتشوّهات وعصبيّات وفرَقاً يُضلِّل بعضها بعضا ويسخر قومُها من بعض وينحر بعضهم بعضاً، وثار الإنسان به (أي بمثل هذا الدين وهو على هذا التشوّه والانحراف)، فلا لجامَ بعدها ولا رسنَ، وستُكتسح كلّ المساجد والمعابد والكنائس والبيَع، ويُمات “ذكرُ اسمِ الله”، وتتفاقم الهمجية وينعدم الصلاح وتعمّ الفوضى وتسود قوانين الغاب (وهو الهرج والمرج)، لا سمح الله، (هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى) ، والله المستعان والموفِّق، هو حسبُنا ونعم الوكيل.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.