مدرسة فقهية للتنقيح والتجاوز والتجميع

مملكة البحرين

جمعيّة التجديد الثقافيّة الاجتماعيّة

مدرسة فقهية للتنقيح والتجاوز والتجميع

د. علي محمد فخرو

مؤتمر ”الوحدة الإسلامية وديعة محمد (ص)”

مملكة البحرين: 28 إلى 30 ديسمبر 2007م

تتصف الأزمنة الحالية، في وطن العرب وعالم الإسلام، بشروح وتمزقات هي خليط مركًّب من السياسة والعرقية والدين والمذهبية الطائفية  وهو وضع له جذور في الداخل والخارج مرتبط بتأجيج صهيوني واستعماري تآمري من جهة وباستعمال داخلي انتهازي من أجل مصالح وتوازنات القوى من جهة أخرى وهو مشهد يسترجع أسوأ ما في التاريخ فيستغلًّة، ويستعيد حروباً كلامية وفقهية قديمة فيؤجُجها في الذاكرة الجمعية للأمة كحروب لها قدسية الدين وحجيٌة النبوًة  ومع الإنتشار المذهل للمنابر الإعلامية السمعية والبصرية تتهيٌأ الظروف والمناسبات لدخول الجهلة وفقهاء السُلاطين والدجالين والمستغربين حلبة الصُراعات تلك لإدخال العرب والمسلمين في متاهات فكرية وعقيدية وفقهية تهدًد بالفعل صفاء ونقاء وبساطة وحيوية رسالة السًماء التي بشًر بها نبيٌ الإسلام عليه أفضل الصلاة والسلام ولايستطيع الإنسان أن يقاوم الخوف من أننا قد نكون وصلنا إلى وضع مريض مماثل للوضع الذي وصلت إليه الكنيسة في العصور الوسطى المظلمة خصوصاً من ناحية الخلط المقصود بين السياسة والدين ومن ناحية التحجٌر الفكري الفقهي في العديد من الأوساط ومن ناحية القراءات الخاطئة للنصوص الدينية وتدجينها لأغراض دنيويةمن هنا ذلك الشعور القوي بأن ترتيب البيت الإسلامي أصبح مدخلاً لترتيب بيوت كل المجتمعات العربية والإسلامية
لكنً ترتيب البيت الإسلامي لايمكن أن يبدأ من السياسة وإنمُا من الدين نفسه: عقيدة وفقهاَ وفكراً وتصالحاً مع حركة التاريخ ومتطلبات العصور ولأنً الساحة الإسلامية ضخمة متشعٌبة فلا بد من الإختيار لإبراز بعض من أماكن الاحتقان التي تحتاج لإمعان النظر في أحوالها

أولا: – الشريعة الإسلامية:

إن كل دساتير البلدان العربية والإسلامية تقريباً تنصٌ على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الوحيد أو المصدر الأساسي للتشريع القانوني ولكن ماذا تعنيه الكلمة، وماذا تضمٌ تحت جناحيها؟ فلغوباً تعني لفظة الشريعة المنهاج أو الطريق  وفي القرآن الكريم ورد لفظ الشريعة مرة واحدة: ” ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها “، أي جعلناك على طريق الدين فاتبعه لكن شيئاً فشياً أصبحت تعني كل أحكام الدين كما جاءت في القرآن الكريم والسنًة النبوية المطهًرة وما تمخًضت عنه مختلف المدارس الفقهية بمنطلقاتها وأساليبها وقراءاتها المختلفة وهنا تبدأ المشاكل والمعضلات  فقضية الإختلافات الكبرى عبر العصور قي قراءة النصُ القرآني معروفة، ومعارك فهم قواعد أسباب النزول والناسخ والمنسوخ والظاهر والباطن وتفسير القرآن بالقرآن وغيرها من المعارك تملئ المجلدات  أما المشاحنات حول لبً السنُة النبوية، أي الأحاديث المنسوبة للنبي صلى الله عليه وسلُم، فلم تهدأ حتى يومنا هذا، مشاحنات حول الصحيح والكاذب والحسن والضعيف والأحادي ومقدار أهمية التواتر والمتون والإنسجام أو التضادد مع نصوص أو روح القرآن الكريم وفي مدى الاعتماد على بعض المحدٌثين والجامعين وفي موضوع الإسرائيليات، مشاحنات تصيب المسلم بالدوران وبالتًيه وباللًهاث  أما الفقه الذي ارتبط بواقع متطلبات الحياة المختلفة عبر العصور وبأحداث التاريخ وبصراعات السياسة وبمنهجيات الفكر المختلفة فانه زحف شيئاً فشياً ليتبوُأ الصُدارة أمام القرآن عند البعض ولتصبح تفاسير واجتهادات علمائه وأئمته أكثر إتُباعاً حتىُ ليخيُل للإنسان بأن بعض المسلمين أصبحوا يعتقدون أن الذي أوحي إليه ليس محمد بن عبدالله وإنما ذاك الفقيه أو ذاك الإمام  في هذه الأجواء تجمدت الشريعة وتشوُهت ونسي الكثيرون أنها منهج لايقف ابداً وإنما هو في حركة دائمة من أجل التجدد والاستجابة العادلة لمصالح العباد عبر العصور ولتقدٌم الإنسانية كلًها عبر الزُمن

ثانيا: _ تطبيق الحدود:

هنا تكثر الخلافات سواء ماكان منها متعلقاً بأمور العائلة من زواج وطلاق ومتعة ومسيار ووصايا وإرث أو ماكان متعلقاً بأمور المال والاقتصاد أو ماكان منها متعلقاً بالحلال والحرام والعقوبات من حدً السرقة والزًنا والردًة وشرب الخمر واللباس وسماع الموسيقى وغيرها ممًا لاحصر له ولاعد  وتتًسع رقعة الخلاف لتشمل التوقيت والمتطلبات المجتمعية قبل التطبيق ومشاكل التناغم أو التضادد مع إعلانات عالمية من مثل حقوق الإنسان التي وقُعت عليها الغالبية الساحقة من الدول العربية والإسلامية

ثالثا: _  الحكم في المجتمع الإسلامي

وهو موضوع قديم بدأ بعد موت الرسول الكريم ولم ينته حتى لحظتنا هذه  وزاد من أهمية حسمه تفجٌر موضوع الديموقراطية في السًاحات العربية والإسلامية والعالميــة  ولأنُ فقهاء وعلماء ومفكرُوا العهود الإسلامية لم يعطوا الأسس النظرية العقيدية والفكرية لتنظيم أمور السياسة والحكم اهتماماً كافياً وجد العرب والمسلمون أنفسهم أمام فراغ كبير في حقل السياسة  ويبدوا واضحاً أن إنتقال مجتمعاتنا من عصور الأستبداد إلى الحكم الديموقراطي الشُرعي لن يكون يسيراً  إذ حتى على مستوى الفكر توجد خلافات بين وجهات النظر الإسلامية وهي تمتدٌ من موافقة تامة بأن الديموقراطية هي أفضل صيغة ابتكرها العقل الإنساني حتى الآن للإدارة السياسية للمجتمع كما يؤكدها الكاتب الإسلامي فهمي هويدي مثلاً، إلى رفض يؤكد بأن القيادة في الإسلام فردية تجعل القائد في النظام الإسلامي هو صاحب الصلاحية في  تدبير شؤون الأمة كما يؤكدها الكاتب فتحي يكن مثلاً  ولما كان تفسير آية الشورى القرآنية هو في قلب فهمنا للديموقراطية فان هناك فرقاً هائلاً بين اعتبار الشورى أصلاً من أصول الدين كما يراها الًشيخان راشد الغنوشي وحسن الترابي وبين اعتبارها حكماً فرعياً غير ملزم للحاكم  وبالطبع فان حسم تفاصيل هذا الموضوع قبل التأكد من التماثل بين الشورى والديموقراطية هو أمر بالغ الأهمية  فهل الحق في الدولة الإسلامية هو حق مدني؟ وهل الشورى ملزمة وتصدر من ممًثلي الأمة المنتخبين أم أنها تصدر من أهل الحل والعقد أم من شخص أو مجلس ولاية الفقيه العامة كما ينادي به بعض الأخوة الشيعة؟ وماذا تقبل الشورى من الإنطلاقات الفلسفية والأسس المبدئية للنظرية الديموقراطية؟ وكيف تنظر الشورى إلى موضوع المواطنة وعلى الأخص مواطنة غير المسلمين؟ وكيف تنظر الشورى إلى موضوع تولُي المرأة مسؤوليات أعلى السلطات في الدولة؟ وأخيراً كيف ترى الشورى موضوع اتخاذ القرارات بالأغلبية البرلمانية دون تقييدها إلاً بالدستور والقوانين وضمائر متخذيها؟

رابعاً: التقريب بين المذاهب الإسلامية :

هذا موضوع يجب أن يجابه بكل موضوعية وصراحة  فإلى أيُ حدُ يمكن التغلٌب على الخلافات العقيدية والفقهية والكلامية بين المذاهب، وعلى الأخص بين السنٌُة والشيعة؟ وهل بالإمكان وضع الصٌراعات التاريخية، التي فجُرت في الأصل الكثير من المنطلقات المذهبية، جانباً وتهميش آثارها في الماضي والحاضر؟ وهل يمكن التوصٌل إلى حلول مشتركة حول قضايا كبرى من مثل عصمة الأئمة أو من مثل موضوع ولاية الفقيه الذي فجُر الخلافات الكبيرة حتى في الوسط الشًيعي نفسه؟
تلك النقاط الأربع ليست إلاُ أمثلة على قضايا تنتظر النظر والحلً إن أمكن  ويستطيع القارئ أن يعود إلى مجموعة كبيرة من الكتب والنشرات والدراسات والبيانات والسًجالات التلفزيونية والمواقع الالكترونية ليعرف حجم المشكلة وتشعباتها والجنون والتآمر الذي اخترقها  من هنا الأهمية القصوى لإخراج المسلم من المتاهات التي يعيشها الآن بالنسبة للمكانة وللفاعلية التي يجب أن يتبوًأها الدين الإسلامي لحلُ المشاكل الحياتية، بكل أشكالها، التي يواجهها الفرد وتواجهها المجتمعات  في اعتقادي إن هناك منطلقات يجب التمعٌن فيها:
أولاً – إن مواجهة تلك المشاكل بجهود فردية مبعثرة من هنا وهناك، وبين الحين والآخر، ودون تراكم مستمر، قد أثبتت فشلها  ولايعني ذلك إنكاراً للجهود الضخمة التي  بذلت منذ بدايات القرن التاسع عشر في كل بلاد الإسلام، ومن قبل مصلحين ينتمون إلى مختلف المذاهب، لإرجاع الحيوية للفكر الإسلامي ولمساعدة المجتمعات الإسلامية على التعامل مع الحضارة الغربية المهيمنة على العالم غير أن المشاكل هي من الكبر والتعقيد بحيث استعصت على الجهود المشكورة التي بذلها العشرات من المفكرين والمصلحين المسلمين الذين يصعب ذكر كل أسمائهم في مثل هذه المناسبة. ولقد ظلٌت جهود كل من هؤلاء محصورة بالزمان والمكان وقادرة على الوصول إلى عدد محدود من أفراد الأمة  وإلى يومنا هذا يظل الجهد الفردي هو السائد  في ساحات الفكر الإسلامي
ثانيا: إن الكثير من المشكلات التي أوجزناها، وتلك التي تحتاج إلى مجلدات للدخول في تفاصيلها، لايمكن مواجهتها باستعمال أدوات ومناهج الفقه المعروفة  إن مواجهتها يحتاج إلى أكثر من ذلك  إنه بحاجة لاستعمال حقول معرفية أخرى من مثل مختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية التي لايمكن القفز من فوقها إذا كنا راغبين في حلول لمسلمي هذا الزمان وفي فكر إسلامي صالح لأهل هذا العصر  ولقد تعقُدت التحدُيات التي تواجه إنسان اليوم بحيث أصبح من المستحيل إيجاد حلول لها من خلال حقل معرفي أساسي أو فرعي واحد  فالدين والسياسة والاقتصاد والاجتماع والعمران والبيئة والعلوم الطبيعية والتكنولوجيا وغيرها أصبحت تفعل في بعضها البعض بشكل يستحيل فصله أو عزله
ثالثا:  إذا كانت الجهود الفردية غير كافية والمشاكل تحتاج لحلًها إلى أكثر من حقل معرفي فان ذلك سيعني بداهة أننا بحاجة لبناء مؤسسات لمواجهة مانحن عليه  والمأسسة تعني بناء الفريق المتعاون المتناغم
في اعتقادي هناك حاجة ملحة لمؤسًّسة أهليُّه تعنى ببناء مدرسة فكرية فقهية إسلامية جديدة، تأخذ بأفضل وبأيسر وبأعقل مافي المذاهب والمدارس السابقة وتتجاوزها إلى آفاق أرحب وأجدى وأكثر التصاقاً بروح رسالة السماء التي بشُر بها نبيُ الإسلام ومن أجل ذلك تعيد قراءة النصوص الدينية على ضوء حاجات المسلمين في يومنا هذا وعلى ضوء تجارب وعلوم البشر خلال القرون الحديثة  ومن أجل هذا أيضاً تمارس الاجتهاد من خلال جهد مشترك بين علماء الدين وعلماء الحقول المعرفية الأخرى سواء أكانت حقول العلوم الطبيعية أم كانت حقول العلوم الإنسانية والاجتماعية أم كانت حقول الأديان الأخرى ومن أجل ذلك أيضاً ستبذل جهداً لتنقية الفقه والفكر الإسلامي ممُا علق بهما من أكاذيب وخرافات وتجاوزات وفهم لايصلح لهذا الزمان وتداخل مع أحداث التاريخ وغير ذلك كثير إنها مدرسة تساهم في الخروج من جحيم التعصٌب الطائفي والمذهبي، من الخيارات التاريخية التي ما أنزل الله بها من سلطان وكانت من صنع الأهواء والجشع والظلم وعدم التسامح وإقصاء الآخر  إنها مدرسة تجعل الإنسان المسلم يتجه في أسئلته إلى موسسة وليس ‘إلى أفراد، إلى كل العلوم وليس إلى علم واحد، إلى روح عصره وليس إلى عصور مرت وانتهت، إلى قراءة عقلانية روحية مرتبطة مباشرة برسالة خالق الكون ونبيه وليس إلى قراءات مثلما هي مليئة بالسًمين فكذلك هي مليئة بالغث. عند ذاك وعند ذاك فقط سنخطوا لخطوة الأولى الضرورية للخروج من جحيم الفرقة والتيه والعبث الذي سمحنا لأنفسنا عبر القرون ولوجه والإكتواء بناره.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.