معالجة الخلاف بين الشيعة و السنة.. بين العودة إلى الجذور و تجاوز الماضي

مملكة البحرين

جمعيّة التجديد الثقافيّة الاجتماعيّة

معالجة الخلاف بين الشيعة والسنة

بين العودة إلى الجذور وتجاوز الماضي

مشروع الشهيد مطهري نموذجًا

د. محمد علي آذرشب

مؤتمر ”الوحدة الإسلامية وديعة محمد (ص)”

مملكة البحرين: 28 إلى 30 ديسمبر 2007م

مقدمة

العودة إلى الجذور يمكن أن تكون “أصالة” ويمكن أن تكون “تحجّرًا”، وتجاوز الماضي يمكن أن يكون “معاصرة” ويمكن أن يكون انفلاتًا وانقطاعًا وانسلاخًا.
الخلاف بين الشيعة والسنة لا يمكن أن يُعالج إلاّ في إطار الجمع بين الأصالة والمعاصرة، فهذا هو الاطار الإحيائي الذي يستطيع أن يقدّم المشروع الاصيل الاسلامي إلى الأمة على مستوى احتياجات العصر وبلغة العصر  ويستقطب طاقات الامة ويفجّرها على طريق البناء الحضاري، وبالتالي يخدم وحدة الأمة وتقريب مذاهبها.
نحن نجد تلازمًا بين عملية الإحياء والجمع بين الاصالة والمعاصرة والتقريب بين فصائل الأمة ومذاهبها.
هذا التلازم نراه عند كل الإحيائيين. ولذلك ارتأيت أن أقف عند واحد منهم، قد لا يكون مشهورًا بقدر شهرة غيره من الاحيائيين المعاصرين مثل السيد جمال الدين ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ومالك بن نبي ومحمد باقر الصدر والسيد موسى الصدر والإمام الخميني وغيرهم من الإحيائيين المعاصرين، هؤلاء جميعًا طبعًا يتصفون بالجمع بين الأصالة والمعاصرة وبالمقصد الإحيائي وأيضا بالدعوة إلى إزالة الخلاف بين السنة والشيعة أو التقريب بين المذاهب الإسلامية. أقف عند الاستاذ الشهيد مطهري الذي يشكل التقريب المذهبي ووحدة الأمة الإسلامية مساحة هامة من مشروع دعوته. أذكر أولاً أصالة دعوته ثم أبين محاور خطابه الوحدوي.

الاستاذ الشهيد مرتضى مطهري

مفكر كبير وإحيائي صاحب مشروع، وفقيه ملتزم، وفيلسوف يعيش هموم الأمة وآمالها.
ولد في فريمان من أعمال خراسان، وظهرت عليه منذ صباه أمارات الطهر والتقوى وحبّ العلم والذكاء والنبوغ.
أنهى مقدمات دراساته الدينية في مسقط رأسه ثم واصل دراسة العلوم الإسلامية في مشهد مركز خراسان. شوقه لاستحصال العلوم دفعه أن يهاجر إلى مدينة “قم” حيث الحوزة العلمية الكبرى في إيران.
في قم تتلمذ على كبار العلماء منهم آية الله البروجردي والإمام الخميني والسيد محمد حسين الطباطبائي الفيلسوف المفسّر، ولم تمض مدّة حتى أصبح من المدرّسين المشهورين في الحوزة.
برز في الدراسات الفلسفية، وعلّق على آراء أستاذه الطباطبائي وشرحها في كتاب “اصول فلسفه وروش رئاليسم” = أصول الفلسفة وطريقة المثالية.
كان الاستاذ الشهيد ينتمي إلى التيار الواعي الإصلاحي الإحيائي في الحوزة العلمية، ولذلك ارتبط بالحركات الإسلامية، وأصبح بعد ذلك وكيلا عن الإمام الخميني للإشراف على التوجه الفكري لتلك الحركات.
لقد استلهم الاستاذ الشهيد من دروس الإمام الخميني التهذيب وتزكية النفس، والاهتمام بشؤون المجتع والتوجه نحو إصلاح حالة الأمة. ولذلك كان في كل مؤلفاته وأعماله العلمية والعملية مهتمًا بتحقيق ما يصبو إليه من إصلاح وإحياء.
لعلّ هذا الاهتمام جعله يقبل دعوة جامعة طهران للتدريس فيها، فبدأ بتدريس الفلسفة فيها منذ عام 1376هـ وتوفرت له الفرصة في الجامعة لأن يعيش أفكار الشباب ويتفهم ما يدور في المجتمع من تيارات ومن غزو ثقافي، فألّف وحاضر في هذا الاتجاه.
بعد أن أعلن الإمام الخميني نهضته عام 1963م جنّد الاستاذ الشهيد نفسه لتحقيق أهداف هذه النهضة بحكمة ودراية وبنهج علمي ثقافي، وواصل عمله حتى تصاعد الثورة الإسلامية سنة 1979م، فكان بأمر الإمام الخميني أول رئيس لمجلس قيادة الثورة. غير أن أعداء هذه الثورة علموا ما يشكله الاستاذ الشهيد من دعامة هامة لاستقامة الثورة على طريقها الرسالي، فاغتالوه سنة 1980. ونعاه الإمام الخميني بما يوضّح مكانة الشهيد ويعبّر عن مواصلة طريقه.
ولتوضيح الدور الإحيائي للشهيد مطهري، وهو دور يرتبط بتوجهه التقريبي لابد من استعراض مواقفه من عمليات تذويب المجتمع الايراني في زمن الشاه.

عملية الإحياء

العودة الى الحياة الاسلامية تبدأ من العودة الى المفاهيم الاسلامية الصحيحة، وتطهير الافكار والنفوس مما علق بها من انحراف. هذا هو الاساس الذي تبناه كل المصلحين في عالمنا الاسلامي لعملهم على اختلاف اجتهاداتهم في تشخيص نوع الانحرافات وترتيب الاولويات.
الشهيد مطهري من أولئك الدعاة الذين نذروا أنفسهم لاصلاح المجتمع الايراني مبتدئاً بـإصلاح المفاهيم ومحاربة الانحرافات الفكرية، ويطلق على هذه العملية اسم “إحياء الفكر الديني” كما عبّر عنها إقبال اللاهوري من قبل.
ويوضح مقصوده من إحياء الفكر الديني بقوله:
” المقصود من إحياء الفكر الديني ليس هو إحياء الدين نفسه، بل إحياء التفكير بشأن الدين وبعبارة أخرى غسل الادمغة مما تراكم فيها من انحرافات وتشويهات بشأن الدين”([2]).
نستطيع أن نفهم عظم المسؤولية التي نهض بها الشهيد مطهري في عملية الاصلاح الفكري لو عرفنا ضخامة الجهود التي بذلت في ايران خلال القرن الاخير لتشويه صورة الاسلام ولمسخ المفاهيم الاسلامية عن طريق مزجها بالمفاهيم الغربية الماديّة.

 جهود الغرب والمتغربين

الهزيمة التي مني بها العالم الاسلامي أمام الاستعمار الغربي كانت هزيمة نفسية بالدرجة الاولى، وهذه الهزيمة النفسية الداخلية دفعت بكثير من المثقفين المهزومين الى الطعن في تراث الامة وتاريخها وأصالتها، والى التبعية الفكرية والنفسية لعالم المستعمرين.
لقد نهض نفر من العلماء لدراسة هذه الظاهرة في العالم العربي وفي شبه القارة الهندية([3]). ولكن قلّما احتوت المكتبة العربية دراسات عن هذه الظاهرة في ايران.
في اعتقادنا أن  الجهود التي انصبّت لمسخ المفاهيم الاسلامية وتشويهها وإشاعة روح “التغرب” و”الالتقاط” في ايران كانت أعمق وأوسع مما كانت عليه في أجزاء العالم الاسلامي الاخرى، ذلك لما يتمتع به هذا البلد من علماء ومن حركة علميّة تتجه نحو الاجتهاد في مسائل الدين، ولابدّ أن  تكون الخطة لمواجهة هذه الحركة العلمية المعمّقة في ايران عميقة أيضا ومدروسة.

مكافحة الانحرافات

الشهيد مطهري واجه في عملية الاحياء مشكلتين: الاولى: مشكلة الفئة المتحركة من الشباب والمثقفين الذين يتشبعون بأفكار الغرب ليبراليها واشتراكيها، ويحملون نظرات سلبية قاتمة عن الدين وعلماء الدين وكتب الدين. والثانية: مشكلة الفئة الجامدة الهامدة من المسلمين الايرانيين التي تفتقد كل تحرك، وترى بأم أعينها ما يضج به المجتمع من فساد وانحراف، غير أنها تكل الامر الى اللّه وتنتظر الفرج الغيبي.
أهم ما نهض به الشهيد مطهري هو مكافحة الانحرافات الفكرية كمقدمة ضرروية لإحياء الدين في المجتمع، وهذا ما يؤكد عليه الامام الخميني (قدس سره) في نعيه للشهيد مطهري إذ قال:
“مطهري كان لي ولداً عزيزا وللحوزات العلمية الدينية سندًا قويًا وللشعب والبلد خادما معطاءً. ومايجب أن أقوله بشأنه هو إنه قدم خدمات جُلّى للاسلام والعلم.
إنه كان من النوادر في فهمه الاسلام ومختلف فنون الاسلام والقرآن الكريم.
لقد قضى عمره الشريف على طريق الاهداف الاسلامية المقدسة وقارع بشدّة الانحراف والالتقاط. وأنا أوصي الطلبة والمثقفين الملتزمين أن لا يَدَعوا كتب هذا الاستاذ العزيز يلفها النسيان بفعل دسائس أعداء الاسلام” ([4]).
الاستاذ الشهيد مطهري يوضح بنفسه أهدافه في نشاطاته الفكرية ويقول:
“منذ سنة 1330هـ. ش (استشهد في 1358هـ. ش) حيث مسكت القلم لأكتب مقالا أو لأخُطَّ كتابا ماكان أمامي هدف سوى حل المشاكل والاجابة على الاسئلة المطروحة في الشؤون الاسلامية المعاصرة. كتاباتي بعضها فلسفي وبعضها أخلاقي وبعضها اجتماعي وبعضها تاريخي ومع اختلاف موضوعات هذه الكتابات فإنها توخّت هدفا واحدًا لا غير.
الدين الاسلامي الحنيف دين مجهول، حقائقه قد انقلبت بالتدريج في نظر الناس، والسبب الاساس في إعراض طائفة من الناس هو المفاهيم الخاطئة التي قدمت باسم هذا الدين. هذا الدين المقدس يتعرض في عصرنا الراهن أكثر من غيره الى إساءة بعض أدعياء حماية الدين.
هجوم الاستعمار الغربي من جانب بعملائه المرئيين وغير المرئيين، وقصور أو تقصير كثير من أدعياء حماية الاسلام في هذا العصر من جانب آخر أدّى الى تعرض الفكر الاسلامي باستمرار في الحقول المختلفة أصولا وفروعًا الى هجوم غادر.
من هنا فإنني – العبد الضعيف – رأيت أن واجبي يفرض عليّ العمل في هذا الميدان قدر استطاعتي.
لا أدّعي طبعا أن الموضوعات التي تناولتها في كتاباتي كانت من أهم الموضوعات، ولكنّني أستطيع أن أدّعي  بأني لم أتجاوز نطاق حل المسائل المستعصية في الفكر الاسلامي وعرض الحقائق كما هي بقدر الامكان. وإن لم تستطع هذه الكتابات أن تحول دون الانحرافات على الصعيد العملي، فلعلها تستطيع أن تقف بوجه الانحرافات الفكرية وخاصة في المجالات التي يتذرع بها أعداء الاسلام. وفي هذا المجال حاولت حسب تشخيصي رعاية الاولويات”([5]).

تقديم الاسلام بلغة العصر

الاستاذ مطهري وجد أن مهمته الاولى هي تقديم الاسلام بلسان العصر، أو بعبارة أخرى الجمع بين الاصالة والمعاصرة، وبدون ذلك فإن الاتجاه الفكري في المجتمع الاسلامي سيتخذ أحد سبيلين: إما التقوقع والتخلف والابتعاد عن روح العصر، وإما تحريف الاسلام باسم التقدمية والبروتستانتية. والى هذا يشير الاستاذ الشهيد في تحذيره روّاد النهضة الاسلامية إذ يقول:
“أنا باعتباري فرداً أحسّ بمسؤوليتي الإلهية أوجّه تحذيري الى زعماء النهضة الاسلامية العظام، وأتم الحجة بيني وبين ربّ العالمين وأقول لهم: إن نشر الافكار الغريبة والتقاطها باسم الفكر الاسلامي وإضفاء الطابع الاسلامي عليها، سواء كان ذلك عن سوء نية أو عدم  سوء نية، خطر يهدد كيان الاسلام. طريق مواجهة هذا الخطر لا تتمثل في المنع والحظر، وهل يمكن منع العطشى المتلهفين الى الماء من تناول الماء بحجة أنه ملوث؟! إنها مسؤوليتنا التي تفرض علينا أن نقدّم كتبًا بلغة العصر في الحقول الاسلامية المختلفة، لو أننا عرضنا ماء قراحًا سلسبيلا بالمقدار الكافي لما اتجهوا الى الماء الملوث.
طريق المواجهة هو عرض المدرسة الاسلامية بشكل صحيح في كل المجالات وبلغة العصر. حوزاتنا العلمية التي تموج اليوم بالنشاطات الاجتماعية يجب أن تعي مسؤوليتها العظيمة العلمية والفكرية. يجب أن تضاعف أعمالها العلمية والفكرية عشر مرات. يجب أن تعلم أن الاقتصار على الدراسات الفقهية والاصولية الرسمية لايلبي حاجات الجيل المعاصر”([6]).
وهكذا يلخّص الاستاذ نشاطه الفكري والثقافي لإحياء الدين في المجتمع. ونجد مصداق ذلك فيما كتبه الاستاذ من مقالات وألقاه من محاضرات ودوّنه من كتب. فهو قد جمع أولا بين مختلف احتياجات المجتمع الفكرية، ابتداء بالفلسفة الاسلامية المعمّقة التي طرحها من خلال تعليقه على كتاب “اصول فلسفه وروش رئاليسم” (أصول الفلسفة والطريقة الواقعية) في خمسة أجزاء، وانتهاءً بكتابة القصص التربوية المبسطة المستقاة من السيرة والتاريخ الاسلامي في كتابه “داستان راستان” (قصص الصالحين)، في جزأين. لقد استطاع الشهيد مطهري أن يطرح القضايا الفلسفية من خلال معالجة الواقع الاجتماعي كما فعل في “علل گرايش به ماديگرى” (أسباب النزوع الى المادية) وفي “العدل الإلهي”. وطرح الخطوط العامة لنظرة الاسلام الى الكون والحياة، في عدة كتب تعالج موضوع التوحيد والنبوة والقيامة. وكتب دروسًا في العلوم الاسلامية كالعرفان والفلسفة والمنطق والكلام. وقارع النظرية المادية وتفسيرها للتاريخ والمجتمع في كتب عديدة، وتناول قضية المرأة من خلال كتب ومقالات عديدة، وحارب الالتقاط من خلال الكشف عن زيف الالتقاطيين وخوائهم الفكري. وله في تفسير القرآن وربط القرآن بالحياة دروس ومحاضرات ومقالات. وله في توضيح المفاهيم الاسلامية وبيان الانحرافات التي تراكمت على هذه المفاهيم باع طويل أيضا. كل هذا يمثل جهدًا متواصلا استمر قرابة ثلاثين عامًا في الجمع بين “الاصالة” و”المعاصرة”، من أجل إحياء الاسلام في مجتمع تكالبت عليه قوى الشر والضلال والانحراف لتبعده عن المسيرة الاسلامية الصحيحة.

وحدة الأمة في خطاب الشهيد مطهري

قضية تقارب المذاهب الإسلامية ووحدة الأمة تحتلّ مساحة كبيرة من نشاطات الشهد مطهري الفكرية والدعوية والعملية. وهذه ظاهرة طبيعية في رجل يحمل همّ إحياء الأمة.
باختصار نذكر أهم محاور خطاب مطهري في هذا المجال.

المحور الأول:

اهتمامه بخطاب الوحدة في القرآن الكريم، ويكرر في أحاديثه آيات من كتاب الله تؤكد على وحدة الصف الإسلامي مثل قوله سبحانه: ﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾، وقوله:﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.
وقوله: ﴿ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ وقوله: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ وقوله: ﴿ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ ..
ويذكر الآية الكريمة: ﴿ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾ ويرى أن الدعوة في الآية إلى مطلق الخير، وأن أهم الخير الدعوة إلى الوحدة الاسلامية([7]).

المحور الثاني:

سرد سيرة النبي والإمام علي في المحافظة على وحدة الأمة. بشأن سيرة النبي(ص) يذكر اهتمام الرسول بعقد الأخوة بين المهاجرين والأنصار، حتى كانوا لأمد يتوارثون.
ثم يطيل الحديث في سيرة أمير المؤمنين علي(ع) في هذا الإطار، ذلك لأن مخاطبيه عادة هم الشيعة، يريد بذلك أن يقول لهم إذا كنتم شيعة علي حقًا فعليكم أن تكونوا أكثر من غيركم اهتمامًا بوحدة الأمة، رادًا بذلك على الفئة التي تتخذ من الولاء لآل البيت مدخلاً للتفرقة بين المسلمين.
وفي سيرة علي (ع) يركز على موقفه من الخلفاء لحفظ وحدة الأمة، وتعامله بإخلاص معهم لصيانة الإسلام والمجتمع الاسلامي، من ذلك نصيحته للخليفة الثاني أن لا يخرج مع الجيش في فتح إيران خشية أن يسبب قتله في تجرّؤ العدوّ وفي تصعيد معنويات الجيش المعادي.
ويشير أيضا إلى موقف أبي سفيان الذي حرّض عليا(ع) لأن يثور على بيعة أبي بكر متظاهرًا بأنه يؤمن بأحقية علي في الخلافة، والى موقف عليّ(ع) في رفض هذا التحريض بشكل حاسم، مؤكدًا اهتمامه بسلامة الإسلام.
بعد ذلك يقول الاستاذ الشهيد: “يبدو أن يد أمثال أبي سفيان لا تزال تعبث للتفرقة بين المسلمين متظاهرة بالولاء لآل البيت”!! ويحذّر من هذه الايدي مؤكدًا ضرورة وضع سيرة علي(ع) نصب العين لدفع شرّ هؤلاء المفرقين”([8]).
وفي كتابه “سيرى در نهج البلاغة” يركز على موقف علي(ع) من وحدة الأمة، وما قدمه على هذا الطريق من تضحيات. ولا بأس أن أنقل عنه عبارة تنبئ عن مواجهة في عصره بين التقريبيين الإحيائيين والمفرقين المتحجرين يقول:
“علي أصبح فداء للوحدة الإسلامية، أي شخص كان بقدر علي في احترام الوحدة؟ الآخرون كانوا يقطعون وهو كان يوصل.
(من المؤسف) أن رجلاً اليوم يصعد المنبر ليقول: “كنت بحمد الله منذ بداية حياتي معارضًا للوحدة الإسلامية” لا كثّر من أمثالك في هذا المجتمع يا رجل!! ألم تسمع قوله تعالى …” ([9]) ثم يذكر الآيات الداعية إلى الوحدة ونبذ الاختلاف.

المحور الثالث:

محور بيان طبيعة الدعوة الإسلامية، وهو ما يؤكد عليه الاستاذ الشهيد في كتاباته ومحاضراته بسبب شيوع الخطاب القومي والطائفي في عصره، فيفصّل القول في عالمية الإسلام، ويعرض موقف القرآن والسيرة من الأطر القومية والعشائرية وأي إطار آخر يفصل بين المسلمين.
يستعرض الخطاب الغربي الموجّه إلى الايرانيين بشأن الدين الاسلامي.. وهو خطاب يزعم أن الإسلام غريب على الإيرانيين ولا يرتبط بهم لا قوميًا ولا لغويًا ولا ثقافيًا، ويردّ على ذلك في كثير من كتبه مؤكدًا على عالمية الدعوة الإسلامية وأسسها الانسانية، ومشيرًا إلى أن المسيحية التي يعتنقها الغرب هي دعوة انبثقت من أرض فلسطين فهل يمكن اعتبارها غريبة عليهم؟!
ثم يستعرض الأسس التي يقوم عليها الإسلام في تقويم الانسان من القرآن: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ ومن السنة: “يا معشر قريش إن حَسَب الرجل دينه ومروءته خُلُقه، وأصله عقله و “الا إن العربية ليست بأبٍ والد ولكنها لسان ناطق، فمن قصر به عمله لم يبلغ به حَسَبُه”  ([10]).

المحور الرابع:

الحج ووحدة المسلمين. خصص الاستاذ الشهيد كتابًا للحديث عن الحج وكله يدور حول دور الحج في ترسيخ وحدة المسلمين، والمعاني التي تنطوي عليها مناسك الحج من توحيد للصفوف وتأليف للقلوب وإزالة للفوارق القومية والمذهبية والطبقية.
ويرى أن سنّة الرسول(ص) تقتضي تكريس كل شيء في الحج على طريق وحدة المسلمين، واستشعار روح الأخوة بينهم. إذ إن رسول الله(ص) قد استثمر هذا الموسم ليعلن قائلاً: “أيها الناس إنّ ربكم واحد وأباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب. إن أكرمكم عندالله أتقاكم. وليس لعربيّ على عجمي فضل الا بالتقوى” (تحف العقول/ 34).
ويذكر عن علي(ع) قوله عن الحج: “جعله سبحانه وتعالى للإسلام علمًا” (نهج البلاغة/ الخطبة1).
ويذكر معنى العلم بأنه الراية التي يجتمع حولها المدافعون عن حياض الأمة، وهي ترمز إلى حياة الجماعة وبقائها وقدرتها ومقاومتها. والعكس من ذلك إذا انتكست الراية فإنها تدل على السقوط والاندحار.
وينقل عن الإمام الصادق قوله عن الحج أيضًا: “فجعل فيهم الاجتماع من الشرق والغرب ليتعارفوا”. ويشرح المناسك واحدًا واحدًا مبينًا أنها جميعًا تنطوي على معنى ترسيخ مفهوم الجماعة والأمة الواحدة في الإسلام”([11]).

المحور الخامس:

رفض مقولة “إما تقبل كل ما عندي أو ترفض كل ما عندي”. هذه هي عبارة الأستاذ الشهيد، وهي تعبير آخر عن مقولة: لنتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه.
ينقل رأي المعارضين لوحدة المسلمين حيث يقولون إن الوحدة تعني التنازل عن المعتقدات، وهم بذلك يخلطون بين توحيد المذاهب ووحدة الامة في الإطار الاسلامي. ويوضّح أن الوحدة تعني التعاون في حقل المشتركات وهي كثيرة للغاية، ويبقى كل مذهب محتفظًا بآرائه الخاصة. ويورد أمثلة من سيرة علي وآل عليّ، فهم وإن كانوا يحملون رؤيتهم الخاصة، غير أن ذلك لم يمنعهم من أن يقولوا: “والله لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلاّ عليّ خاصة” (نهج البلاغة/ 72). ويذكر لعليّ(ع) أيضًا قوله: “من استحكمت لي فيه خصلة من خصال الخير احتملته عليها واغتفرت ما سواها ولا أغتفر فقدَ عقل ولادين” حاول الاستاذ الشهيد في مشروعه الفكري أن يرسّخ فكرة وحدة النفوس الانسانية الالهية ويدعو دائمًا إلى تبديل (أنا) إلى (نحن) ويرى أن هذا التبديل هو واحد من أهداف المصلحين الكبار عبر التاريخ. ويغوص في بحار التاريخ والأدب ليستخرج منها ما يؤيد كلامه ويجعله مؤثرًا في النفوس. يستشهد في هذا الموضوع بمولانا جلال الدين الرومي الذي يقوم عرفانه على أساس توحيد النفوس وإزالة ما يمنع التقاءها على الحبّ والوداد. من ذلك قوله:
جان گرگان وسگان از هم جداست
متحد جانهاي شيران خداســــت
أي: إن نفوس الذئاب والكلاب متفرّقه/ بينما تتحد أرواح أسود الله.
همچو آن يك نور خورشيد سما
صد بود نسبت به صحن خانه‌ها
أي: مثل نور الشمس الواحدة في السماء/ تصبح مائة عندما تتفرق في صحن البيوت
ليـــك يك باشد همه أنوارشــان
چون كه برگيري تو ديوار از ميان
لكنّ أنوار (هذه البيوت) تصبح واحدة/ عندما تزيل الجدران بينها  ([12]).

المحور السادس ـ العواطف الانسانية والوحدة:

يرى الاستاذ الشهيد أن الانسان بذاته يتجه إلى النزعة الفردية، وهذه النزعة الفردية تصطدم عادة بالنزعات الفردية للآخرين، ويحدث الصراع بين الافراد. غير أن ثمة عوامل أخرى قد تأتي وتفضّ هذا الصراع، وهذه العوامل إما أن تكون “مصلحية” أو “رسالية”.
العوامل المصلحية تجمع الفرقاء في تعاون تجاري أو اقتصادي فيرى كل واحد من الشركاء أن مصلحته مرتبطة بمصلحة غيره من الشركاء عندئذ يتعاونون في إطار تحقيق هذه المصلحة، وهذا يمكن أن نطلق عليه اسم “تعاون” لا “تآلف”.
التآلف يأتي من اجتماع الناس على مصلحة رسالية مثل مصلحة الوطن والقوم، غير أن التاريخ لم يشهد مصلحة رسالية تجمع الافراد وتؤلف بين قلوبهم كالمشروع الديني.
ثم يذكر الاستاذ الشهيد أمثلة من تآلف المسلمين في ظل الرسالة الإسلامية في عصرها الاول، وينقل نصوصًا من سيرة الصحابة ومن سيرة الامام علي تبين قدرة الدين على رفع مستوى هموم الناس إلى حمل هموم الأمة حتى بلغ بالامام علي(ع) إلى أن يقول:
“أو أبيت مبطانًا وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى أو أكون كما قال القائل:
وحسبك داء أن تعيش ببطنة       وحولك أكباد تحن إلى القــدّ
(نهج البلاغة، الرسالة 45).
وتأكيد القرآن على هذه الالفة بين القلوب تبينها آيات متعدّدة وتبين أهميتها كقوله سبحانه:
﴿ وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا..﴾ وقوله: ﴿ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ ([13]).

المحور السابع :

الوحدة والحياة: في هذا المحور يتجه الاستاذ الشهيد نحو فهم حضاري للوحدة، فهو يرى أن الإسلام مهمته الإحياء: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾.
ويرى أن طبيعة الجسم الحي أن يكون متواصلاً متواسيًا مرتبطًا ارتباطًا عضويًا. وفي ذلك يقول الرسول(ص): “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”. (الجامع الصغير 2/155).
يقول في كتابه: “احياي تفكر اسلامي”: “إحدى علامات الحياة في المجتمع أن يقوى التضامن بين أفراده، خصائص الموت أن تتلاشى الاعضاء وتتفرق وتنفصل عن بعضها، وخاصية الحياة في المجتمع التضامن والاتحاد بين اكثر أعضائه وجوارحه. وهل المجتمع الاسلامي اليوم مجتمعًا حيًّا أم ميتًا؟ بسبب ما نراه بين المسلمين اليوم من نزاعات، وما ينشغلون به من حروب وصراعات داخلية، وما يوفرونه للعدوّ من فرص للسيطرة على مقدراتهم. فهم أموات”!!([14]).

المحور الثامن:

العشق والوحدة: “العشق بغضّ النظر عن نوعه أهو غريزي أم روحي يُخرج الانسان من دائرة ذاتياته. الذاتية سجن وحصار، وعشق الغير يكسر هذا الحصار.
الانسان القابع في ذاته الذي لا يحمل مشاعر حبّ لغيره إنما إنسان جبان نحيل متكبر قاسي القلب مغرور ليس في روحه أية إضاءة ولمعان. وإذا دخل العشق يغيّر جوهر الانسان ويجعله فردًا رقيقًا ذكيًا وثّابًا، كما يقول المولوي:
از محبت تلخها شيرين شود     از محبت مسها زرين شــود
أي: من المحبّة يصبح كل مرّ حلوًا/ ومن المحبّة يصبح النحاس ذهبًا([15])”.
ومن هذه النظرة ينطلق الاستاذ الشهيد في فهم العلاقة بين الرجل والمرأة، فهي ليست علاقة شهوية محضة، إذ إن هذه العلاقة تكرّس الذاتية، بل هي أسمى من ذلك فهي علاقة ودّ ورحمة وسَكَن كما يقول سبحانه: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾([16]).
ويخلص الاستاذ الشهيد من هذا المحور أنّ هبوط عاطفة الحبّ والودّ في النفوس عامل تمزيق وتفتيت، بينما الحبّ يلين القلوب ويصقل العواطف ويهذّب الطباع ويجمع المتفرقين.

المحور التاسع:

العدل والاحسان والوحدة: يقف الاستاذ الشهيد عند قوله سبحانه: ﴿ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ﴾
فيرى أن البشر بحسب عواطفهم الاجتماعية لهم ثلاث حالات: العدل أو الاحسان أو البغي.
بالعدل يتعامل الناس على أساس حفظ الحقوق، يحافظون على حقوقهم ولا يعتدون على حقوق الآخرين، وبالإحسان يتعامل الناس على أساس الايثار، يتنازلون عن حقوقهم من أجل مصالح غيرهم، ينفقون من أموالهم وجاههم وراحتهم لمساعدة المحتاجين اليهم.
وبغير العدل والإحسان لا يكون إلاّ البغي. والبغي أن يعتدي الانسان على حقوق الآخرين.
وبلهجة حادّة قاسية يقول الأستاذ الشهيد: “لو تطلعنا إلى مجتمعاتنا الإسلامية لرأينا التعامل السائد هو البغي. فمجتمعاتنا تضجّ بأذى الآخرين وكأننا مصابون بالساديّة!
ثمة كلام شائع يقول إن الغربيين ذوو عقل ومنطق ونحن الشرقيين ذوو عاطفة. كلاّ!! لو كانت عندنا عاطفة اجتماعية لما كان بيننا هذه العلاقات المحتقنة وهذه الذاتيات المستفحلة. يكذب بعضنا على الآخر، ونتظاهر أحيانًا بالكرم فنقيم الولائم، لكننا لا نكفّ عن ظلم من تحت رعايتنا من زوجة واطفال ومستخدمين”  ([17]).
ولعلّ هذه النبرة الحادّة تدلّ على أن الاستاذ الشهيد كان مستاءًا مما يراه في المجتمع من ازدواجية الشخصية ومن مظاهر تدلّ على نسيان الاهداف الانسانية التي خلق الانسان من أجلها.
وكيف لا يتألم ولا يثور وهو الإحيائي الذي يريد أن يعيش الناس لأهداف أكبر من مصالحهم الشخصية .. لأهداف توحّدهم وترفعهم وتبارك لهم عمرهم وتزكّيه!!

استنتاج

من الاقتران المشهود بين الدعوة إلى الإحياء والدعوة إلى الوحدة والانسجام الاسلامي يتضح لنا أن مشروع الإحياء يجمع بين العودة إلى الجذور بمعنى “الأصالة” لا بمعنى التحجّر، والشهيد مطهّري نموذج من دعاة الاصالة ومحاربة التحجّر، وفيما عرضناه يتبين كيف كان يواجه المتحجّرين المعارضين للوحدة في زمانه.. وبين “تجاوز الماضي” بمعنى “المعاصرة” لا بمعنى الالتقاط والهزيمة النفسية أمام الافكار الوافدة. وموقف الشهيد مطهري من الفكر العالمي المعاصر، ومن اهتمامه بتقديم الإسلام بلغة العصر وبمستوى احتياجات العصر توضّح معاصرته الرسالية المتلزمة.. وهو بعد ذلك من أكبر دعاة الوحدة وإزالة الخلافات بين السنة والشيعة.
* – أستاذ في جامعة طهران.
[2]-  إحياء الفكر في الاسلام، مطهري، ترجمة آذرشب، ط1، طهران، 1402هـ ، ص 13.
[3]- انظر: الفكر الاسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، د. محمد البهي، دار الفكر، بيروت.وكتاب:الصراع بين الفكرة الاسلامية والفكرة الغربية،أبو الحسن الندوي، القاهرة، 1977 .
[4]- سيري در آثار استاد شهيد مطهري، ستاد بزرگداشت سالگرد استاد، ص 20 – 21، طهران 1359 هـ . ش ) .
[5]-  عدل الهى (الاصل الفارسي)، الشهيد مطهري، ص 8 و9.
[6]- نهضت هاى اسلامى در صد سال أخير “النص الفارسى”، الشهيـد مـرتضـى مطهري، ص75 .
[7] – يادداشتهاي استاد مطهري 7/ 418 – 419.
[8] – امامت ورهبري / 18 – 20.
[9] – مجموعه آثار 25/ 307.
[10] –  انظر ” خدمات متقابل إيران واسلام” ص 62 – 69.
[11] – انظر الحج، ص ص 67، 68، 79، 80 ، 81 .
[12] – آشنايي با قرآن 5/18 – 29.
[13] – آشنايي با قرآن 3/ 166 – 171.
[14] – ص 23 و 24 من الكتاب.
[15] – يادداشتهاي شهيد مطهري 9/ 278 – 279.
[16] – آشنايي با قرآن 6/76 – 78.
[17] – ياداشتهاي شهيد مطهري 7/418.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.