“وديعة محمد” في فخ تجار السياسة والحروب

مملكة البحرين

جمعيّة التجديد الثقافيّة الاجتماعيّة

“وديعة محمد” في فخ تجار السياسة والحروب

د. محمد صادق الحُسيني

مؤتمر ”الوحدة الإسلامية وديعة محمد (ص)”

مملكة البحرين: 28 إلى 30 ديسمبر 2007م

 بسم الله الرحمن الرحيم

يقول الله سبحانه وتعالى في آخر كتبه وهو القرآن المجيد:” إن الدين عند الله الإسلام, ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه…”
الإسلام الذي نتفق جميعا على انه ذلك الدين الخالد الذي يلخص كل الفكر الديني والتوحيدي على امتداد التأريخ البشري مكثفا بالدين الخاتم  الذي ما كان خاتما إلا لاوج تطابق العقل والشرع في لحظة تاريخية تطلبت توقف انسياب الوحي وتدفقه على البشر الذي يفترض به قد بلغ سن الرشد الاجتهادي والاستنباطي المطلوب !
ذلك إن الدين بمفهومه الكلي والجوهري على امتداد سيرة الوحي إلا لهي وكذلك بالمفهوم القرآني كما ورد في السرد القرآني المستفيض لسيرة الأنبياء والرسل من آدم مرورا بإبراهيم وصولا إلى الخاتم محمد بن عبد الله فإنهم جميعا مسلمون, وهو ما يفترض أن يعني لكل ذي عقل لبيب بان الدين عند الله واحد لا يقبل القسمة مطلقا وان المؤمن الحقيقي والمسلم الحقيقي هو من يحفظ هذه الوديعة على اختلاف اعتقاداته أو تفسيراته أو تأويلاته أو قراءاته. أي أن يكون قيامه وقعوده نابع على الدوام من فعل التسليم لله ولسننه الكونية.
وعليه فان ما من احد يسلم بالسنن الكونية ويتبعها على هدى ألا وهو مسلم بالضرورة أيا كانت  “الشريعة” التي يعمل بها وهو يمارس الوحدانية لله.  وهكذا تصبح عقيدة التوحيد لدى عامة المؤمنين في سيرتها العملية بمثابة تجسيد لمقولة المسلمين الخالدة أيضا إلا وهي:” التعدد في الانتماء والوحدة في الغاية والهدف”.
غير أن هذا الإنسان نفسه وحسب السيرة القرآنية ذاتها هو صاحب النفس الأمارة بالسوء أيضا في احد أبعاده التكوينية فانه سرعان ما يسعى إلى الصراع والمواجهة مع الآخر من بني جنسه وفي إطار توكيد تلك ” الأنا” فانه سرعان ما تطفو على السطح من سيرته تلك الصراعات التي عرفت على مر التأريخ بصراع المصالح والتي من بطنها تبلورت ولا تزال تتبلور ما تسمى بالصراعات والمصالح السياسية!
وما الحروب والصراعات المدمرة التي نشهدها اليوم على امتداد العالم إلا نسخة من تلك الحقيقة القرآنية التي يشرحها الإسلام الخالد في تجليات الآية القرآنية الشريفة:” أرأيت من اتخذ إلهه هواه…..”!
إن هذا الإنسان الموحد والقابل والمذعن للسنن الكونية من جهة كما قلنا , لكنه الحامل لتلك الطبيعة الأنانية الكامنة عميقا لديه من جهة أخرى ومن اجل تلبية مصالحه وأنانيته العالية بأي ثمن كان فانه سرعان ما يلبس أنانيته وحاجته لباسا” دينيا مقدسا” ليعطي المشروعية اللازمة والمطلوبة لصراعه مع الآخر في معركة السيطرة على الموارد. وهذا هو معنى الآية القرآنية في انه يتخذ من هواه الها ليعبده بدل الله!
بمعنى آخر انه يسعى لتوظيف الدين والمقدس لدى الناس في خدمة مصالحه الدونية والمحدودة   لمعرفته الدقيقة بان الأصل في الأشياء هي التوحيد والوحدانية .وهنا سرعان ما يتحول الاجتهاد البشري الذي يفترض انه نفخ في عقل الفرد والجماعة بمثابة بعد أغنائي وإثرائي للجهد الإنساني العام لإعمار الأرض إلى عامل تقسيم وتجئة وتفتيت وتشرذم لذلك الجهد النبيل المتوخى. وذلك بعد أن تقمصت الأنا الملعونة والمارقة والناكثة للعهد مع الله لباس الدين والمقدس في سبيل تحقيق مصالحها النفعية الصغيرة.
و لما كان الاستيلاء على الدين كله أمر مستحيل وغير متاح حسب نفس السنن الكونية التعددية في الانتماء والموحدة في الهدف فانه يصبح أمر الإجهاز من قبل هذه” الأنا” على المدارس الفكرية والاجتهادات الدينية التي عادة ما تظهر وتتشكل بشكل طبيعي على قاعدة فعل الاغناء والإثراء للدين الكلي أكثر سهولة  فتحولها إلى فعل تشرذم وقطيعة وخصومة وعداء.
لقد حصل هذا مع كل المذاهب والمدارس والاجتهادات الفكرية والفقهية المعروفة على مر التاريخ ولا يزال يحصل حتى بات وكأنه جزء من معركة الوجود والبقاء لتلك “الأنا ” التي تسعى لمصادرة الدين ما دفع برجل من صلب النبوة الخاتمة ان يقول قولته الشهيرة وهو يواجه تلك المحاولة المبكرة لمصادرة الدين على قاعدة توظيفه من اجل “الانا” في اطار الحكم والسلطان وذلك غداة واقعة عاشوراء الشهيرة بالقول:
“الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يدورونه ما درت مصالحهم فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون”!
التاريخ لايزال يعيد ويكرر نفسه اليوم في أكثر من بقعة من العالم نشهد فيها صراعات سياسية حادة وحروب من اجل السيطرة والتحكم بمصادر الثروة والموارد العامة والنتفاع الفردي أو الجمعي الأناني لهذا الفريق أو ذاك من فرقاء المجتمع الدولي تحت لباس الدين مستغلين في كل ذلك الانقسام الطبيعي للعالم إلى طوائف ومذاهب وأعراق وأقوام على قاعدة يفترض بها أن تكون مصدر ثراء وغنى وتنافس من اجل بناء الأرض واعمارها وترسيخ مبدأ السنن الكونية القائمة على التعدد في إطار الوحدة والسير نحو التوحيد ,لا من اجل ضرب تلك الأرض وهدمها على رؤوس أصحابها على قواعد المحاصصة والتنازع كما يفعل تجار الحروب والفتن المتنقلة اليوم!
من نظرية صدام الحضارات لصموئيل هنتغتون مرورا بنهاية التاريخ لفوكوياما وصولا إلى الإمبراطوريين الحالمين بتمزيق العالم إلى فرق وطوائف ومذاهب متقاتلة تحت راية بطانة جورج بوش وحوارييه من المحافظين الجدد والتي باتت وللأسف الشديد تجد لها موئلا ومسكنا آمنا في أكثر من عاصمة عربية وإسلامية , تراهم اليوم يلعبون بعواطف الناس وأحاسيسهم ومعتقداتهم المذهبية والطائفية بحجة الدفاع عن الخصوصية مرة والتعددية مرة أخرى وحماية المذهب الديمقراطي دوما للزج بهم في أتون من الصراع والتناحر خدمة للمصالح المادية والسياسية المباشرة للشركات المتعددة الجنسية الكبرى التي ألغت كل السيادات والحدود في سبيل إعلاء كلمة الإمبراطورية الأمريكية الجشعة المشبعة بميول الرأسمالية المتوحشة مستفيدين بذلك وللأسف الشديد من كل أجواء المشاحنات الغرائزية الدونية والمتدنية التي يتم تحريكها وإشاعتها وسط مجموعات “جماهيرية” جاهلة بمصالحها الحقيقية وحقيقة دينها.
وهنا بالذات تبدأ لعبة حروب الكلمات والمصطلحات و”القيم” المزيفة التي اخترعها تجار الحروب والنزاعات من اجل السيطرة والتحكم , تبدأ في بث سمومها بكل اتجاه فيصبح الاختلاف الطبيعي في الرأي بين البشر جسرا لركوب فتنة التمزيق الفكري والأيديولوجي والعقائدي , بذريعة حرية اختيار العقيدة والدين! ويصبح الاختلاف الطبيعي في انتماء الناس إلى  العقيدة والدين والمذهب أو الطائفة التي نشاوا أو شبوا عليها جسرا لفتنة الاقتتال الطائفي والمذهبي بذريعة ضرورة الدفاع عن الأقليات! ويصبح الاختلاف الطبيعي بين البشروتوزعهم قبائل وشعوب وأقوام على قاعدة أنهم جميعا عيال الله وهم ليسوا إلا” صنفان أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق” كما يقول أمير المؤمنين علي رابع خلفاء المسلمين, جسرا لفتنة الاقتتال العرقي والأهلي بذريعة ضرورات الفيدرالية والحكم الذاتي واحترام خصوصيات الشعوب ! تلك الشعوب التي ديست كراماتهم وهدمت أسوار سيادتهم بجرافات العولمة الامريكية المتوحشة!
وفي اطار هذه اللعبة الكبرى القذرة لا يخجل تجار الحروب من استخدام اطهر المقدسات من اجل النيل من وحدة الامة وتلاقيها عند سياجها المصان بمقولة” يد الله مع الجماعة” فيشحنون هذه الجماعة المتمذهبة ضد الاخرى في بلد بحجة انها الاكثرية التي ظلت مظلومة ومقموعة من قبل سياسيين ورموز طائفية قامت معادلة حكمهم الاقلاوية اصلا على التبعية والانقياد لمصالح الاجنبي والامتيازات الفردية والفئوية القائمة على الانا المادية المحضة ولا علاقة لها باي مذهب فضلا عن انها لا تؤمن باي دين! فيما تستمر نفس المعادلة القائمة على نفس مقولة الانقياد والتبعية والهرولة وراء الامتيازات والانا المادية الغرائزية المقيتة باسم التعددية والديمقراطية والفيدرالية وسائر المقولات المسفهة عمدا حتى يسهل الانقلاب عليها وقهرها وتدميرها ورميها في مزبلة عشاء الامبراطوريين الجدد بعد انتفاء الحاجة اليها!
ومرة يحرضون اقلية هنا او هناك بحجة انها كانت مقموعة من اكثرية ظالمة وكابتة للحريات ولاسيما حرية التعبير الديمقراطي ممثلة اصلا بسياسيين ورموز هم اصلا من صنع وقياس الاستعمار ومعادلاته التقسيمية العبثية التي تمثل ضمانة لمصالح هو اكثر مما تمثل مصالح تلك الاكثرية التي تنتمي اليها في الظاهر وعلى الورق وبالاسم!فيما تستمر هذه الاكثرية في حكمها بنفس المعادلة ولكن بشروط اضافية هذه المرة وهي ممنوعية الخروج على الخط العام المرسوم لعلاقة التبعية التي ينبغي ان تتحول الى مطلقة هذه المرة والا يصبح الحاكم والمحكوم على خط نار الفتنة والفوضى الخلاقة او البناءة!!
ففيما لا تملك الامة في” وديعة محمد” التي تحتضنها منذ اربعة عشر قرنا مفهوما للاقلية او الاكثرية على قاعدة الدين او المذهب او الفكر او الطائفة او العرق, يجري زج ما هو سياسي ومصلحي وفئوي من النزاعات القائمة اصلا على تقاسم السلطة السياسية والمصالح الاقتصادية والتدافع في اطار السيطرة والتحكم بالموارد, في اتون صراع مصطنع وموهوم ومجعول ومزعوم بين الطوائف والمذاهب او” الاديان” او الاعراق او الاقوام التي ما تنازعت يوما بطبيعتها ولم تقم لها قائمة اصلا الا على قاعدة التنافس السلمي والسليم من اجل اغناء الفكر والاجتهاد في سبل وطرق اعمار الارض واصلاحها. والا لما قامت وازدهرت ونمت وانتعش فكرها وصلب عودها وبقيت تقاوم عاديات الدهر حتى الآن لو ان التنازع ديدنها او مقولة الاكثرية والاقلية معادلة تعاملها!
ان معادلة “وديعة محمد “هي المساواة المترافقة بالعدل والقسطاس ودقة الموازين والمشاركة في البناء والاعمار للارض وحكم الرعية ومن ثم والمسائلة على قاعدة ان اكرمكم عند الله اتقاكم وليس اكثركم مالا او عددا او عدة او قوة او هيمنة او تنظيما او تذاكيا على التاريخ والجغرافيا او الجيو بوليتيكيا اوالقدرة على توظيف احاسيس الناس وعواطفهم او معتقداتهم المتوزعة اصلا وبشكل طبيعي على مدارس  ومذاهب وطوائف وطرائق هي بعدد انفاس الخلائق!
والطامة الكبرى هي عندما يصبح الاعلام والسياسة في بلادنا بفعل ارادة الاجنبي اداة طيعة في خدمة حروب التفتيت والتقسيم والتنازع المذهبي والطائفي والعرقي والديني , فوقتها نكون قد خسرنا الدنيا والدين معا وبكلمة اخرى العقل والشرع معا بعد ان كانت “وديعة محمد” قد سلمتنا الامانة على خلفية العقول الراشدة التي يفترض بها انها قد باتت في غنى عن تدفق الوحي الا لهي حتى صار يصح القول” ما حكم به الشرع حكم به العقل والعكس صحيح” كما يقول العلامة الكليني في الباب الاول من تبيان شروح الدين عند ائمة المذهب الاثني عشري من علماء المسلمين وهو باب العقل!
ووقتها نكون بالفعل قد ضيعنا الاسلام ذلك الدين الخالد الذي يفترض اننا نعتقد انه صالح لكل زمان ومكان بعد ان نكون قد فرطنا تماما بوديعة محمد بن عبدالله التوحيدية الخالدة.
هذا ما يحاوله الاستعمار جاهدا ومن جديد اليوم في العراق ويعاونه في ذلك  عصابة مارقة على الدين ومفرطة بالوديعة المحمدية من رموز سياسية ملعونة جماهيريا تنتمي الى كل الطوائف والمذاهب والاعراق لكن كل واحدة منها تتمترس خلف الطائفة او القومية التي تنتمي لها بالاسم والهوية الورقية في محاولة لمصادرة الدين من جديد كما فعل تجار قريش الاوائل لحرف مسيرة البناء والعمران الديني مرة اخرى وتسليم مفاتيح العمل الى تجار اللصوصية الجديدة وتحويل الحكم الديني الذي تنتظره العامة منذ غياب الحكم الر اشد مرة اخرى الى ملك عضوض تتوزع حصصه وامتيازاته زعماء القبائل والعشائر الحزبية والفصائلية المنتمية الى معادلة الانقياد والتبعية نفسها التي تدعي مقاتلتها!
الشئ نفسه يحاولون تكراره اليوم في لبنان ويسعون اليه بكل جهد في السودان و يذبحون الناس على قبلته في فلسطين ويخططون لفرضه على الباكستان وتركيا ويعدون العدة لنقله بعد ذلك الى مصر والسعودية و من ثم تعميمه على كل اقطار الوطن العربي والعالم الاسلامي
تحت مسمى مشروع  الشرق الاوسط الجديد اوالكبير اوالموسع والتي هي ليست سوى تسميات لمسمى واحد  الا وهو سرقة” وديعة محمد” من ايدي المسلمين اي ضرب الوحدة والاتحاد بين المسلمين بعد قطاف مواسم فتن التنازع والتقاتل والتقسيم!

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.