أطبقت حبائلُ (المعاناة) على المناضل (عبدالرحمن النعيمي) فأعقرت فرسَه، كإجرامها بأحرارٍ سبقوه، لتُجري عليهم قانونها الأبديّ؛ أنّ القيمة مخبوءةٌ في (طويّة) الفرد، لتنعكس (مُعاناةً) منه لتغييرٍ يُحسِّن واقع بني الإنسان.
مَن احتمَل مبدأً وقضيّةً، فذاق (الغربة) و(السجون)، سيُدرك (معاناة) النضال، وكيف تُصاغ الرجال، وتصقلُها الأهوال، فيحترم تلك (المعاناة) ويُقدّسُها، في أوطانٍ لا تغرز نياشين المجدِ بصدور أبطالها إلاّ بمسامير تخرق قلوبهم، أو يُمارس طأطأةً زائفةً أمام نُصُبهم، خلافاً لمقولةٍ (وردةٌ تضعُها في يدِه، خيرٌ من باقةٍ على قبره)!
سأرجئ حديث (المعاناة) للحلقة التالية، وسأحاول شيئاً عن (طويّاتنا) التي تُحدِّد مَن نحن، وكيف (نناضل) لنحوزَ المجدَ الذي هو مَجْدٌ.
الثائرون على الفساد (كصاحبنا الوطنيّ) -بطبيعة جوهرهم- يرفضون سياسة (الاستتباع) و(الاستحمار)، ويُفضّلون التغريب عن أهليهم وأوطانهم على التغريب عن إنسانيّتهم ومبادئهم وصراحتهم، الوجاهةُ والمناصبُ لا تستهويهم إن جاءتْ بطعم (البرسيم)! فقد سمعتُ مِن جدّتي بيتَ شِعْر! ربّما كان محفوظها الوحيد: (ولو لُبِّس الحمارُ ثيابَ قزٍّ .. ما سُمّي الحمارُ إلاّ حمارا)! وتقصدُ جدّتي أنّ الشكل مهما تلمّع فلن يُلطِّف دخيلةً حماريّةً تبلّدت أحاسيسُها.
كُلّنا نعيش علاقة (المضاف والمضاف إليه) بلغة النحو، ومثالها: (ابن الوطن)، (نصير الحزب)، (رجل الدين)، فعلينا مسئوليّة تحسين نوعيّة (المضاف) ليتحسّن (المضاف إليه) تبعاً، والعكس صحيح، ولا نرتضي أن نكون (حمار كذا) مهما كان الـ(كذا) رائعاً!
وعلينا أيضاً أن نتخيّر ما ينبغي الانضياف إليه لنكون شيئاً حقيقيّاً؟ وأن نُحدِّد الشيء الحقيقيّ الذي ينبغي أن نكونه قبل أن ننضاف! وكلاهما في حقيقة الأمر واحد، لمقولةٍ شهيرةٍ: (أخبرْني من تُعاشِر، أُخبرْكَ من أنت)، وفي المأثور (المرءُ مع من أحبّ).
إنّ أفضل انتماء يُوفّر للمرء (مضافاً إليه) صفيّاً عن التدليس، هو الانتماء (للخير والصلاح) أنّى كان، لا لملّةٍ خاصّة ومذهب وحزب، حتّى لو كان للفرد ملّةٌ وحزب، لكنّه يطلب حكمته وضالّته لدى كلّ أحدٍ وبلد، ويُحبّ وينجذب لكلّ مناضل، وخيّرٍ، وحكيمٍ، وغيور، ومُصلح، وفضيلةٍ، ومأثُرةٍ، وقضيّةِ إنصاف، أنّى كانت وحيث.
لذلك كان الانتماءُ لحبيبنا محمّدٍ (ص) وللنبيّين واجباً لأنّها نماذج شريفةٌ ومُثلى (للمضاف إليه)، ومثلُه احترامُ كلّ المصلحين والثائرين فذلك واجبٌ إنسانيّ، لأنّه يشفّ عن صلاح (طويّتنا)، وسلامةِ مؤشّرها المهتزّ بإعجابٍ تجاه أيّ شعاع، لمحض شعاعيّته.
فعلاقتي بخارجي: (الانتماء لقيم الخير)، وعلاقتي بداخلي: (حسن الطويّة)، هما (المضاف) و(المضاف إليه)، الوجهان للعملة الواحدة، في جدليّة يُعطي كلّ منهما الآخرَ معناه وامتدادَه.
وفي عوالم سقوط الأقنعة، حيث لا بهرجة وتضليل، فلا لونٌ واسمٌ، ولا دينٌ ومظهَر، ولا عزّ وخزّ، ولا قدرة خطابيّة وإداريّة، ولا تبجيل وتحقير، لا غتمة لسان ولباقة، لا ملتحٍ وحليق، حين تُنزَع كلّ طاقيات إخفاء سرائرنا، في عوالم لا تحترم المظاهرَ، كعالَمِ أقبيةِ (السجون) وتعذيبِها، و(الغربةِ) وقفرتِها، و(القبور) ووحشتِها، لن يبقى إلاّ شيءٌ واحد، هو (طويّتُك)، هو أنت، (المضافُ)، أفاضلٌ أم رذيل؟! ومن ربّك (المُضاف إليه)؟ ربُّ قيمٍ أم ربُّ رذائل؟!
جوهرُنا الإنساني بريقُه يلمعُ بمطارقِ (المعاناة)، ويبوح بأسراره على شفير عوالمها، وإنّ شخصَنا الحقيقيّ هنالك يظهر، لا ما كتبنا وقُلنا وتمظهرنا وفوّحْنا، بل ما اختمر بدواخلنا من أفكار ومشاعر تجاه الحقّ والآخرين، شعورٌ بالحبّ والخدمة والتضحية والاسترخاص، أم شعورٌ بالاستعلاء والاستئثار وعبادة الذات؟!
أنت، هو ما بداخلك، التي تنعكس ردّات فعلٍ حقيقيّة في مشاعرك، محضاً تجاهَ الخير والشرّ، تجاهَ كلّ استحقاق وموقف، وتجاه القضايا التي تنتظر الإنسان أن يُسجّل ذبذبة شعوره حبّاً أو بُغضاً، فتحكم عليه أنّه من الأخيار أو الأشرار، من أهل الإيثار أو الاستئثار.
فقد يخسر مناضلٌ كرسيّ برلمان (كما جرى لعبد الرحمن وغيره)، وقد يربح آخر عرْشاً، ولقد امتطى (بوش) سدّةَ العالَم! المظاهرُ الخارجية والألاعيبُ والتحالفات والمُخالفاتُ وقوى التضليل قد تُكسب شخصاً مكانةً اجتماعية وسياسية مرموقة، لكنّها لن تُكسبه نفسَه، ولن تُبدّل (مكانته) المطويّة، التي بها يتقرّر أنّه (حمارٌ) تلبّس بالقزّ -بحسب جدّتي عليها الرحمة- أم (إنسان)! هي (مكانةٌ) لا مرموقةٍ بالعين، لكنّها سبب (المجد) أو (المسخ) في عوالم انبثاق الباطن (السجن/الغربة/القبر): (وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ)، فكم مِن ممسوخٍ مرموقٍ، (مكانتُه) الحقيقيّة بجانب البرسيم، لأنّ مشاعره تجاه (الإنسان) ليست من مشاعر (الإنسان)، لكنّه ممتّعٌ بطاقية الإخفاء حتّى حين!
إنّ (جوهرنا)، أو مجموعة الأفكار والأحاسيس التي تنتابنا تجاه الآخرين، وتجعلنا نتشاعر بعفويّة معهم بمشاعر النُبل، فنألم لآلامهم، ونتمنّى خيرهم وشفاءهم، وتستحثّنا للسّعي لتحقيق (العدالة الاجتماعيّة) كوطنيّين وذوي ضمائر، ودفعاً نحو الاكتمال النفسي والعقلي لإخوتنا الآدميّين، هذه المشاعر هي عصمتُنا ضدّ جبروت (المسخ) العالميّ المُبقي فينا قشرةً لصورةِ الإنسان بقلبِ شيطان، نتهيّج بالتضليل، وتندثر هِممُنا وذِممُنا.
كلّما (ناضلنا) لنجعل طويّاتنا أكثر إيجابية، اندفعنا للجدّ والتواضع ولخدمة المُعدمين، ونلنا مجداً ممهوراً بمشاعر الاغتناء في عوالم الحقيقة.
وكلّما أهملنا مشاعرنا ودغدغتنا القشور، اجتاحتنا الأنانيةُ والعُدوانيّةُ والاستهتارُ بالقيَم وبفضائل الآخرين وبحاجاتِهم، فلنستترْ إذاً (بثياب القزّ) حتّى حين!