كلمة الحق عندما تذكّرنا بخطايانا

كلمة-الحق-عندما-تذكرنا-بخطايانا

تكره النفس البشرية – في الغالب – من يذكّرها بخطيئاتها وأخطائها ولذا فهي تحاول أن تظهر في أبهى صورة إما بالتجمّل أمام الآخرين وإخفاء عيوبها لتحوز على كلمات الإعجاب والتمجيد – ولو نفاقاً وكذباً – أو أن تتوارى عن المواقع التي تعلم أنها سوف تُعرّى فيها مهما تستّرت خلف مساحيق التجميل، فمواجهة العيوب والأخطاء من أعسر مواجهات النفس لأنها تضع الإنسان أمام مرآة عاكسة حقيقية، تكشف لها تفاصيل أخطائها ولا تملك أن تجعل القبيح جميلاً أو العكس، ومع هذا فنحن عندما ننظر إلى المرآة فإننا إنما ننظر إلى حسن خلقتنا، أو جمال سحنتنا، ولكن قلّما يجرؤ أحدنا أن ينظر في عينيه خشية أن يرى من خلالها كائناً آخر غير الإنسان الذي يتمنظره أمام المرآة .. فالعين نافذة القلب.

مقدمة نفسية فلسفية أبدأ بها المقال في محاولة لفهم ما يحدث في العالم المعقّد من حولنا، فقد قاطعت أمريكا وإسرائيل وعدد من الدول الأوروبية مؤتمر مناهضة العنصرية (أو ما يُعرف بمؤتمر دوربان 2)، وانسحبت مجموعة أخرى من الدول الأوروبية بمجرد أن تطرّق الرئيس أحمدي نجاد إلى العنصرية الصهيونية، فالذين قاطعوا حاولوا أن يتواروا عن المحفل الذي سيفضح جريمتهم العنصرية الكبرى، ومن انسحبوا هربوا من أن تُرى عورتهم من وراء ستار الحضارة والتمدّن المختبئين خلفها، فهؤلاء هم أسّ العنصرية وأساسها، لذا لم يتحمّلوا الكلمة الجريئة التي جعلتهم في لحظة مواجهة مباشِرة مع خطاياهم وخطيئاتهم على مدى قرون عدّة، فوسموها بأسوأ النعوت، كيف لا وقد سمّتهم بأوصافهم، فمن عبر عن أنها (معيبة ومشينة وحاقدة) لأنه رأى فيها (عيبه وشينه وحقده) يتجلّى أمامه وأمام العالم، ومن قال أنها (تعبر عن الحقد العنصري) فلأنها أسقطت القناع عن عنصريته، فقد ابتُلي المكتوون بسياط العنصرية بتمشيط الجربان فهل ينتظرون منهم شكراً؟

يا للمفارقة، أيهود باراك القاتل السفّاح بالجرم المشهود، يجرؤ أن يحتج على حضور نجاد لمؤتمر مناهضة العنصرية، ولا يخجل أن يظهر الناطق بلسان وزارة الخارجية الإسرائيلية على الفضائيات ليتبجح بأن الجيش الإسرائيلي لم يرتكب أي مخالفة قانونية في حربه ضد المدنيين في غزة، وأن استخدام الفسفور الأبيض في مناطق ذات كثافة سكانية عالية كان بهدف الإنارة أو التمويه(!) بعد إصدار تقرير إسرائيلي يبرئ الجيش من ارتكاب انتهاكات قانونية وحقوقية هناك ما عدا بعض (الأخطاء النادرة)، رغم وجود اعترافات جنود إسرائيليين بأنهم كانوا يتعمدون قتل المدنيين، وبالرغم من وجود آلاف الدلائل والصور والشواهد الحية من أطباء ومحامين وبرلمانيين وحقوقيين على الممارسات الهمجية والعنصرية يؤكّد الناطق باسم الخارجية الأمريكية على ضرورة تلقين منظمي مؤتمر دوربان 2 درساً في الموضوعية والنزاهة في تعاملهم مع إسرائيل(!) وينجح في ذلك فيخرج البيان الختامي خالٍ من أي ذكر (بسوء) لإسرائيل، بموافقة عربية فلسطينية .. وكل ما نتمنّاه أن لا يخرج علينا هؤلاء قريباً بقراءة عصرية لقوله تعالى: “فلا تقل لهما أفّ ولا تنهرهما”، أنّها إشارة واضحة إلى أن أمريكا وإسرائيل هما أحنّ على العالَم من نفسِه، وأبوّتهما وحنانهما المُرهف غير مشكوك فيه، فينبغي علينا واجب التوقير والطاعة والتقديس لهما، لفضلهما الصريح في نشر الديمقراطية والعدالة والسلام والرحمة لشعوبنا وللعالم!!

آخر إبداعات الديمقراطية الأمريكية العريقة وخرقها للاتفاقيات والقوانين الدولية تمثلت في قرار الرئيس الأمريكي عدم محاكمة محققي وكالة المخابرات المركزية الأمريكية الذين استخدموا وسائل وحشية في التعذيب كإرغام المساجين على التجرّد من ملابسهم، ووضع حشرات مع سجناء مقيّدين تماماً، والحرمان من النوم لمدة أسبوع، والإيهام بالإغراق، وغيرها من فضائح وفظائع بحجة أنهم تصرفوا بسلامة نية (!)، بل وقرّرت حمايتهم من أي محاكمة دولية أو أجنبية في تحدٍّ لإسبانيا التي هدّد أحد قضاتها بالتحقيق مع مسئولين في إدارة بوش.

إلى أين يريدون أن يجرّوا العالم؟ إلى عقر جهنم لا أخلاقيتهم وإلى الوراء حيث حنينهم إلى همجيتهم، فأينما نولّي وجوهنا ثمة انتهاكات لحقوق الإنسان، وعنصرية، وتمييز، وظلم ماحق يُرتكب من قبل من يدّعون أنهم حاملو راية حقوق الإنسان والعدالة، الذين لن يتورّعوا عن التبرير لجرائمهم وخطاياهم بسذاجة ممجوجة فيتعلّم منهم تلامذتهم الصغار في البلدان النامية الكذب ولامنطقية التفكير لتعم العنصرية والظلم ومبرراتها الجاهزة، ويتنفس العالم الكراهية والحقد، فلا يتردد أي عنصري أو ظالم أو فاسد أن يكرّر مقولة أسياده الذين سبقوه في الجرم، إلا أن يتصدّى لهم من يكشف لهم سوءاتهم ويضطرهم إما إلى الهروب (الانسحاب) أو التخفي (المقاطعة) حتى تنقى هذه الأجواء من وجودهم ويخلو الجو للمصلحين الحقيقيين، ولكن لن يكون ذلك مادام أصحاب الحق قد تخلّو عن حقهم، ومادامت الأقلية الغائبة أكثر تأثيراً من الأغلبية الحاضرة.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.