توسّلت المرأة الفقيرةُ للنبيّ إليشع (Eli-sha) ومعناه: الله شعّ ليُحيي وحيدَها المسجَّى، (فَدَخَلَ وَأَغْلَقَ الْبَابَ عَلَى نَفْسَيْهِمَا كِلَيْهِمَا وَصَلَّى إِلَى الرَّبِّ) حسبما ورد في سفْر الملوك بالتوراة، فأحياه بإذن الله مجّاناً لخاطر أمّه، فابتهجتْ وخرّت ساجدةً لله. الآن، تصّورْ منظراً آخر، دخلتْ الأمُّ الغرفة ورأتْ (قرداً عليه ثيابُ ابنها) و(إليشع) يُقنعها أنّه ابنها أعاده للحياة لها، ويريد أيضاً أن تدفع له (المقسوم) مُقابل إحيائه! طبعاً الأمّ لن تقنع أنّ هذا (وحيدُها) فبحدائق الحيوان وبقــُرى الهـند الكثيرُ منه، ولن تدفع ولن تسجد وتركع.
بل ستلعن وقد تكفر، الوحيد الذي سيقنع ويشكر هو )البقرة) حين يُحيَى لها وليدُها الميّت بعد إفراغ أحشائه وحشوه بالتبن ليُنصب )بوًّا) أمامَها، فتلحسه وتشمّه و(تتأمّله) بإعجاب وتدرّ الحليب بسخاء على المُبارَكِ مُحيي وحيدِها، والطامع أصلاً بحليبها المُبارَك!
إليكم مثالاً آخر، نحنُ (الأمّة) إزاءَ مَن يُمارِس لنا إحياء (الحسين)، ابنِ الأمّة البارّ، ووحيدها الذي ضحّى بدمه ودماء نجباء أهلِه (مجّاناً) ليُحييها ويُحيي قيَم عزّها وسموِّها، فيقوم بعضُ (المُبارَكين!) ليُقيم حفلات طقوس سحر الخطابة ومهرجانات الخبْط، ليُحييه لنا، فإذا بالمُحيَى ليس (الحسين)، بريءٌ منه (الحسين)، بل آخر طائفيّ، وخياليّ، ولامنطقيّ ومُشوَّه ومُنزّل تنزيلاً وفق أهواء الخطيب ومُفصَّل تفصيلاً بمقاس فصيله المرجعيّ، قدّمَ كوكتيلاً من أبطال الأفلام الهنديّة والمكسيكيّة والكارتونيّة، قدَّم نُفّاخةَ التبن بعد أن نزعَتْ عُسلان فلوات زماننا من الحسين أحشاءه، ويريدون مع ذلك أن يقبضوا أجراً دنيوياً باهظاً، وآخر أُخروياً أبهظ، على عمليّات الإحياءّ هذه! والأمُّ الفقيرة (الأمّة) تصرخُ بمنتحليّ (الله شعّ) و(الله حيّ) أين ابني؟ أين (الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة)؟ أين وجهُه الوضّاء؟ أين بدرُه الساطع ونهجُه السماويّ؟ أين خرقُه لظلام النفوس والمجتمع والغشّ والنفاق والتضليل بصواعقه المستقيمة؟ أين إباؤه ونقاؤه وهدفيّته وإنسانيّتُه؟ أين عالميّتُه وخروجه على برمجات سلاطين الدنيا والدين لإصلاحٍ جادٍّ؟
كان (الحسين) نسختَنا الوحيدةَ الباقية التي لم يضربْها فيروسُ المسخ، فأفسدها البعضُ بإحياءاته المُتاجِرة الخاوية، فأفقدونا كلَّ النُسخ الصالحة للاقتداء وللتحرّر والإصلاح، كلُّ نسخ خرائط عودتنا قد ضاعتْ، وليس بعد الهدى – وإطفاء مصابيحه- إلاّ الضلال، ضلال المادّيّة وألاعيب السياسة والسلطان والظلاميّة والعصبويّة والطائفيّة والتخديريّة والانفلاتيّة.
عيسى(ع) أحيى الموتى فعلاً لكن (بإذن الله)، و(إذن الله) شرطُ الإحياء الصحيح، و(بإذن الله) تعني الكثيرَ، منها أنّ المُتصدِّر بتشمير سواعده وحناجره لإحياء (الحسين) و(القلوب) و(قضايا الأمّة)، ينبغي أن لا يأخذ على إحياءاته أجراً وشهرةً، بل يُحيي لأنّ واجبَه ودورَه ذلك، (مجّاناً) (قربةً) لله ليشعّ اللهُ عبرَه متى أحيا القلوب (قلْ لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى)، وإلاّ فلمْ يُحيِ بطقوسِه الأخّاذة إلا (فزّاعةً) تقف على رأسها غربانُ السواد، وهيهات أن يكونها (الحسينُ الأبيُّ)، الذي هيهات منه الذلّة، وهيهات له الضلالة، وهيهات لمثلِه إلاّ الخروج لإصلاح الأمّة، هؤلاء البعضُ لم يُحيوا الحسين ابن النبيّ (ص) الذي نعرفه، الذي من رآه فقد رآه لأنّ الشيطان لا يتمثّل به، ولكانَ (الله شعّ) لو كان الإحياء حقيقيّاً.
سأضعك في الصورة، وحيدُك ذو ثماني سنين اسمُه (حسين)، برٌّ بوالديه، مطيعٌ وخدومٌ ومُحبٌّ ومقرٌّ للعيون، خرج يوماً لشراء دواءٍ لأمّه المريضة، فقُتِل في حادثٍ مروِّع أطار برأسِه وهشّم جسدَه الغضّ، ذرفتُم كلَّ معاصر الحزنِ انفجاعاً وألماً، وإذا كُنتَ مُؤمناً بالله ستُسلِّم أنّه اختيارٌ إلهيٌّ حكيمٌ ورحيم، وأنّه يستريح الآن في كنفِ الله، وتتسلّى بحسن المثوبة على حسن تصبّرك.
ولأنّك تعرف ابنك وخبُرتَ براءته وحتّى قداستَه، فلو خالجَك أن تقوم بشيء تتعزّى به، إحياءً لذكرى غاليك تُعطّر بها نفسَك وروحَك، وتُوصل من قلبِك الملتاع سلامَ الشوق والحنين إلى (حُسينك)، لفكّرتَ ببرامج وأنشطة، تهدف تعليم الناس، حسنَ تربية الأبناء ورعايتهم، وتغذيتهم بالقيَم وبرّ الوالديْن والمسارعة لخدمتهما وأنّ (الجنّة تحت أقدام الأمّهات)، وتُوصي الناس بحفظ براءة أطفالهم ليعيشوا كملائكةٍ بيننا ويرحلوا كملائكة تحفّهم الملائكة، وستكشف للناس قيمة الإيمان بالله والصبر على بلائه وما يفعل بالنّفس من أعاجيب ويبثّ من اطمئنان، ولقمتَ تصنع باسمِه المبرّات ومشروعات الخير، تُساعِد باسمه المرضى ومتضرّري الحوادث، ستقوم بكلّ ذلك (مجّاناً)، وستُحاوِل توعيتهم بطرق سلامة المرور واتّقاء حوادث الطريق، وستدعو لحبّ الأطفال والمحتاجين… وستدعو وستقوم وستفعل وستكون… فلو جاءك من يُقنعك أنّه سيُحيي ذكرى ابنك بأن يبثّ شريطاً مصوَّراً شجيّاً عن مأساة ابنِك وكيف أُطيح برأسِه، ثمّ سيقبض منك أيضاً، بين ألف إلى عشرة آلاف دينار، فهل سترضى بأن تكون البقرة (أمَّ البوّ)؟
وإن جاءك من يريد تسويق، صوتِه، واسمِه، وحزبِه، ومآربِه، عازفاً على فاجعة ابنِك، ويقبض أيضاً منك ثمنها، فهلْ؟
وإن جاءك من يُلفِّق على ولدك (حسين) خروجَ موته أنّه كان قاصداً (مأتم الشرْخ!)، أو (خبّاز علي!)، أو لإشعال بيت هندوسيٍّ في الحيّ، فهل ستلحس هذا (الفيلم) وتُصبح ضرعاً يذرف بالحليب؟! ها يا أبا حسين؟