لتنامي ظاهرة “النقاب” بمصر، أصدرت الأوقاف المصرية كتاباً بعنوان “النقاب عادة وليس عبادة”، لكنْ ثمّة دُوَل يُفرض فيها ليس “الحجاب” فحسب (كغطاء للشعر)، ولا النقاب (كغطاء للوجه)، بل أشبه بخيمةٍ تُسربل كامل جسم المرأة وتمشي بها!
ثمّة فتاوى شاذّة تُوجب استعمال عينٍ واحدة فقط وستر الأخرى درءًا للفتن! وجماعات -كما بالصومال- يرشق بعضهم الفتيات غير “المنقبات” بالمواد الكيميائية، أوضاع لخّصتها منظمة العفو الدولية بتعرّض قرابة مليار امرأة في العالم للاضّطهاد وللعنف، من متحرّرين ودينيّين.
حديثنا اليوم ليس عن “النقاب”، بل عن إشكالية مزمنة بمسألة “الحجاب”، والأصحّ تسميته “الخمار”، حسب الدلالة القرآنية، أمّا “الحجاب” قرآنيّاً فلم يكن إلاّ “ستراً” على باب بيوت (غُرَف) زوجات النبيّ(ص)، لفرض الاحتشام على زوّارهنّ بعدم التعامل المبتذل المكشوف، ولئلاّ يشفّ عمّا بداخل البيت مباشرة.
لا نُجادل هنا في طبيعة الحجاب، وشرعيّته، وشكله وحدّه، وفرض الدّين والأسَر المحافظة له، بل كمسألة حقوقية تتبع الحقوق الشخصية من جهة، والحريّات الدينية من جهة، حين اشتباكها مع الأنظمة الدولية والقوانين المجتمعية.
تركيا (وفرنسا) تفرض “منع الحجاب” على مواطنيها ومغتربيها في بعض المؤسّسات تذرّعاً بعلمانية الدولة، وإيران تفرض الحجاب تذرّعاً بدينية الدولة، فما الفرق بينهما من منظار حقوقيّ إنسانيّ؟
“الفرض” لونٌ من الإكراه، فكلا السياستيْن تقييدٌ لاختيار الناس، لكنْ تفصيل المسألة الحقوقيّة تحتاج بسطاً:
1- القانون العادل له الحقّ بفرض أنماط اجتماع أهله، كونه حقّ المجتمع (عبر مؤسّساته التشريعية) في تنظيم نفسه.
2- مصادر هذا القانون/التشريع هي: أعراف المجتمع، مصالحه، إحصائيّات ومعطيات واقعه، قيَمه وأخلاقه، شرائع دينه/أديانه.
3- القانون ينبغي أن يصدر عن الشعب، عبر أعيان ممثلين حقيقيّين لمكوّنات مجتمعه، لا باستئثار وتسلّط غالبية على أخرى.
4- الفرضُ المدنيّ مجالُه “المُباحات” الدينية بتضييقها، لا “المحرمات” بفرضها، ولا “الواجبات” بمنعها.
5- الفرضُ لا يمكن أن يكون “بسلطان الدين” فالدين لله وحده، ولا إكراه فيه، الدولةُ هي مسئولةُ الفرض (إنّ الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)، الدينُ يُوصي ويقترح ويهذّب ويدعو بالتي هي أحسن، فقط.
الآن، فما تفعله تركيا (وفرنسا) يناقض حرية شعائر الأديان، فإذا كان دينٌ (أو أحدُ تفسيراته واجتهاداته) يقول “بوجوب” تغطية رؤوس نسائه وحرمة إبداء زينة شعرهنّ، فأيّ قانون يُفرَض “لمنع” هذا “الواجب” المفترض، أو “إيجاب” هذا “الحرام” على معتنقيه، هو تعدٍّ على حرية الأديان وشعائرها ومعتقداتها، وعلى حرّية اختيار أفراد الناس لممارستها.
ما تفعله إيران (والسعودية)، إن فعلتْه بعنوان أنّه قانون قوّتُه الفتوى الدينية فهذا أمرٌ يناقض الحرّيات الشخصيّة العامة وينقض قاعدة “عدم الإكراه بالدين”، وإنْ فعلتْه الدولةُ كقانون اتّخذه شعبُها عبر برلمانه التشريعي الممثلّة فيه أطيافُه بمذاهبها، للحفاظ على أعرافهم، واحتشام مجتمعهم، واحترام قيم دينهم، فليس فيه تعدٍّ، إذْ القانون شأنه تقليصُ الحرّيات الشخصيّة التي لا يرتضيها المجتمعُ، هكذا هو قانون المرور وتخطيط الأبنية وغيرها، فرض الخمار بهذا سيقلّص بعض الحريات الشخصية فقط أسوة بسائر القوانين الضابطة، لكنّه لا ينتهك “حقّ حرية أديان”، لعدم وجود دينٌ يُحرّم وضع خرقة تُغطّي الشعر، بل الشتاء ببرده وأمطاره يفرض هذا دائمًا، فإيران والسعودية وأشباههما لم تعتديا بهذا على “حرية تديّن”!
الآن من وجهةٍ دينيّة، هل الحجاب فرضٌ شرعيّ أم خيارٌ كماليّ؟ هل هو عامٌّ للبشر؟ هل بالإمكان فرضه بالقانون؟
أوّلا: أنا أؤيّد لبس الخمار للمرأة المسلمة باختيارها، وأحبّ تستّرها واحتشامها، لأنّه يقضي على أيّ امتهان للمرأة ويقلّص التفكيرٍ الأعوج والمشبوه تجاهها، ويجعلها تخرج وتمارس أنشطتها المجتمعية والسياسية والتربوية بعنوانها الإنساني لا كأنثى، أي كعقل وعاطفة إنسانيّة لا كغريزة وشهوة، فتنشر بهذا نظرة الاستواء والاحترام نحوَها، وتنشر الفضيلة في المجتمع، وتُفشي السلام وتدرأ الإيذاء بألوانه، التي اجتاحت مجتمعات اليوم بجرائم الاتّجار بالجنس والاعتداء والاغتصاب حين تمّ تخليع المرأة من ألبسة صيانتها وعرضها عارية كسلعة إغراء جنسية تثير هرمونات الرجال، وهذا ما عبرت عنه آية الخمار والجلباب: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ).
ثانيا: أنا أيضا مع خيار كلّ امرأة لا ترى الخمار ملزماً لها كعاصمٍ، بل تُقدّم سلوكَها الرشيد المحتشم، وخاصةً أنّ كثيرات عشن ببيئات “غير خمارية” سواء ببلداننا أو كملايين الشرقيّات والأوروبيات، لكنّهنّ محترمات شريفات مصونات جادّات عاقلات، فهذا المستوى هو المستوى العالميّ الفطري، وهو المستوى الذي كان بالمدينة ولم يفرض عليه النبي(ص) خمارًا، بل كانت الإماء المسلمات لا يعتمرنَ الخمار.
نُلخص الأمر بالتالي:
1- آية “الحجاب” (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) تعني “الستار”، وهي خاصة بنساء النبي(ص)، كما كنّا نضع “ستارةً” خلف أبواب البيوت المفتوحة قديماً.
2- آية “الخمار” (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) خاصة بالمؤمنات به، أمر الله بها نبيّه(ص) ليأمر به نساءه وبناته والمؤمنات، ليتميّزن بلباس الفضيلة في مجتمع كثر فيه المتحرّشون والمهووسون جنسيّاً.
3- الوصيّة القرآنية كانت مباشرةً من النبي(ص) إلى النساء بلا توسيط رجالهنّ، لتكون أمراً دينيا كأيّ أمر يُطاع اختياريّاً، لئلا يتحوّل فرضًا عنفيّاً ومشجباً لتولية للرجال وتسلّطهنّ.
4- المجتمع المديني كان تعدّديا، فلم يفرض النبي(ص) “دعويّا” هذا الأمر إلا على نساء أتباعه، دون نساء الملل والمذاهب أنى كانت، مشركة، كتابية.. وغيرها، ولم يُعاقب المُخلّة به من المُسلمات الباقيات على فطرتهن ولباس أعرافهن.
5- لم يفرضه(ص) قانونيا “مدنيّاً”، فضلاً أن يُعاقب عليه، بل جاء دعوةً “دينية” تربوية اجتماعية مجرّدة.
هذا يقودنا لاستلهام النموذج الأسوة؛ أنّ النساء بمن فيهم المسلمات أحرارٌ بلبس الخمار، ولا ينبغي إيذاؤهنّ وتفسيقهنّ واضّطهادهنّ لتركه، دينيّاً النبيُّ(ص) فعلاً أوصى المؤمنات بلبسه لحمايتهن من الاعتداء والإيذاء والتحرّش ونظرات الافتراس، فالكمال بلبسه، وهذا لا يعني أنهنّ شرّيرات إذا لم يلبسنه، ولا تجريد إيمانهن واستقامتهن متى حافظن عليها بالاستواء الإنساني وبقوالب أخرى من اللباس العفيف غير الخليع، ولم يشعن أيّ فاحشةٍ في المجتمع.
وأنّ القانون “المدنيّ” يتعدّى طورَه إنْ فرَض “خماراً”، إلا إذا كان هو خيار الشعب كلّه (وهو مستبعد) عبر ممثلّي مكوّناته بمن فيهم الأقلّيات والملل الأخرى موافقًا لأعرافهم الحسنة.
مع أنّ محاربة الرذيلة والألبسة الفاضحة بقوّة القانون المدني أولى من فرض خمار (بافتراض أنّ له وجهاً مقبولاً في سياق خاصّ)، بل الأوْلى أنّ القانون ليس عليه إلاّ فرض الاحتشام العرفيّ كقواعد عامّة، وليس زيًّا معيّنًا تفصيليّاً.
ومن جهة ثانية فالقانون المدنيّ ليس من صلاحيّته أبدًا أن يفرض “منع الحجاب” على النساء فضلا أن يعاقبهنّ ويحرمهنّ حقوقهنّ لإكراههنّ بخلعه، لأنّ هذا اعتداءٌ على حرية الأديان ووصايا أنبيائها وأعراف الناس وحرياتهم وطبائعهم وحقوقهم المدنية.