المهديّ يملأ الأرض قسطاً وعدلاً

أجمع المسلمون على حديث أنّ المهدي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، ويكفينا هذا الإجماع مؤونة البحث عمّا يُسمى سند الحديث ورجاله، خاصة وأنّ الأساس في صحّة الحديث هو المضمون الذي إذا عُرض على القرآن كان مقبولاً، أضف إلى ذلك أنّ نشر العدل هو المحصلة النهائية التي تراكمت من أجلها جهود الأنبياء والمصلحين، ولأنّ قيادة الصالحين للمجتمع البشري هو وعد إلهي فالعاقبة للمتقين بحسب القرآن، كما أنّ ذلك هو النتيجة الحتمية لمسار سنن الحياة والكون، فكلّ شيء في هذا الوجود لا بدّ وأن ينتهي إلى منتهاه الذي رُسِم له، وأنّ الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً، فلا بد أنّ تنتهي السنن التي تحكم حياة البشرية إلى نهاية جميلة تنهي هذا الصراع المرير والمؤلم الذي تكبّده الإنسان على كلّ صعيد.

وسنن الحياة قائمةً على أساس الجهد البشري، فهي تترك الصراع مفتوحاً لينتهي إلى نتيجته الفضلى، فكلّ الطرق ستوصل إلى هذه النتيجة، وأهل هذا الزمان هم المعنيون بالانتظار الذي تحدّثت عنه الأحاديث أكثر من غيرهم، لأنّهم على عتبات هذه النتيجة وقريبون منها جداً.

وسيكون الإمام المهدي محطّ آمال المسلمين قاطبة بل وشعوب العالم، لأنّ مهمة الإمام نشر العدل على كلّ صعيد، وسيكون المظلومون وهم معظم الناس مع هذه الأطروحة، خاصة وأنّه ستكون أمام هذه الراية إرهاصات ودلائل تبشّر بقدومها، وها نحن نرى اليوم أحرار العالم من مختلف البلدان والديانات يؤسّسون وينضمون إلى مشاريع متنوّعة تطالب بالحقوق الإنسانية المهدورة، ومن الطبيعي أن يكون هؤلاء الأحرار أشدّ الناس فرحاً ببزوغ فجر العدالة العالمية الصادقة.

فمهمة الإمام وفق هذا الحديث ووفق كلّ المعطيات والسنن مهمةٌ واضحة، إنّها نشر العدل والقسط في الأرض كلّها، ومعنى ذلك أنّ الناس سيبقون أحراراً فيما يتعلّق بدياناتهم، وبذلك تحقّق أطروحة الإمام مبدأين قرآنيين رئيسيين: الأول هو نشر العدل الذي كان وعداً إلهياً للأنبياء عليهم السلام (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ) ونتيجة لجهودهم المستمرة المتكاملة، والمبدأ الثاني العمل بقانونلا إكراه في الدي، ولذلك فإنّ الجانب العقيدي العبادي من الإسلام سيبقى شأناً اختيارياً لا يُجبر الإنسان على اعتناقه، لكنّ الشيء الحتمي الإلزامي في أطروحة العدل هو ضرورة التزام الجميع بالعدل نظاماً عالمياً قولاً وتطبيقاً، وستكون هذه الأطروحة بمبدأيها (العدل ولا إكراه) أطروحة منطقية لجميع المهتمين بالشأن الإنساني والعاملين من أجل العدل والإنسانية، وسيكون هذا الوجه من أوضح وجوه اليسر في الإسلام وسيدخل منه الكثير من الأمم والشعوب في دين الله تعالى، ما دامت الغاية للدين هو نشر العدل على مستوى البشرية يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وهو الجانب العملي الدنيوي من الدين وفي الحديث (الدين المعاملة).

فالدين الإلهي العملي يشمل كلّ راغب في نشر العدل، ولابدّ من الالتفات هنا إلى التماهي الكامل والإندماج الحقيقي بين هذا الهدف المعلن للإمام المهدي وبين الهدف المعلن من جانب القرآن عن إرسال الأنبياء (ع) قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)، فالهدف هو الهدف والغاية النبيلة هي الغاية، وهذا يدل بشكّل واضح على وحدة المسار دونما اهتزاز أو تغير أو انحراف، فالدين هو الدين والمؤمّل من هذا الدين لحياة الناس جميعاً هو بسط القسط والعدل.

غير أنّ هذا الهدف للدين ليس بذلك المستوى من الوضوح والجلاء عند عدد ليس بالقليل ممن يرفعون لافتة الإسلام هو الحل، فليس العدل هو المحرّك الاستراتيجي لمعظم الإسلاميين، وإن دعوا للعدل فلا يتجاوز مدى تلك الدعوات مستوى النزر اليسير، لأنّ المحرك الاستراتيجي لجهادهم هو محور العقيدة والعبادة في الدين، وهذا ما يجعل المدخل للإسلام لدى الأنبياء من جهة ومعظم الإسلاميين من جهة ثانية ليسا سواءً.

فالأنبياء يدخلون للدين مجتمعياً من مدخل العدل ومعظم العاملين من أجل الحل الإسلامي مدخلهم العقيدة والعبادة، ولا يشكّ أحد في اهتمام الأنبياء (ع) بالعقيدة والعبادة ولكنّهم يتركون للناس حرية الاختيار، بينما في الجانب الآخر من الدين وهو الجانب العملي يتشدّدون في تطبيق العدل ومواجهة المخالفين، لذلك كان أعداء الأنبياء على طول الخطّ هم المترفون كما قال الحق سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ)، ولو أنّ العاملين من أجل الإسلام جعلوا مدخلهم واستيراتيجيتهم في الدعوة للإسلام نفس إستراتيجية الأنبياء والإمام المهدي لكان لذلك تداعيات إيجابية مهمة وتغييرات كبيرة، تترك آثاراً واضحة على مجمل العملية التغييرية باتجاه الإسلام.

وأخيراً لابدّ من التذكير بأمرٍ بديهي فالإمام المهدي (ع) سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً لكن ليس وحده وليس بالطرق الخارقة، ولو أنّ ذلك سيتحقّق بالطرق الخارقة إذاَ فلماذا الانتظار ولماذا كل هذا التأخير؟ إنّما سيملأها قسطا وعدلا متبعاً سنن الله تعالى خاصة المتعلّقة بحياة الإنسان وذلك يحتاج إلى جهود نوعية تراكمية، وأكبر هذه الجهود هو أنْ تكون إستراتيجية الممهّدين ذات إستراتيجية الإمام وهو العمل بميزان القسط والعدل، هو أن ننظر للإنسان والآخر بنظرة الإنصاف، هو أن نتعاطى الأشياء بتعاطي المصلحة العامة، هو أن نشهد للآخر بالحقّ والصواب متى ما كان الدليل معه، هو أن نتجنب أي درجة من العصبية والطائفية ومن أي لون كانت.

إنّ البشرية اليوم متعطّشة إلى أيّ درجة من درجات العدل سواء في القول أو العمل ومواساة المحتاجين والمعذّبين والجوعى والمقهورين، ولو أُذِن لهذه الأرض أن تبوح بحزنها لسمعنا أنينها المثقل بآلامها بسبب الإنسان المقهور ظلماً وجورا، وإنّ علامة أن نكون على الطريق هو أن نتحسّس هذه الآلام، وأن نساهم في رفعها فعسى أن نكون من الممهّدين والمنتظرين لمهدي هذه الأرض ليملأها قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً.

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *