زوجان قرّرا التصييف بنفس الفندق الذي تزوّجا فيه قبل عشرين سنة، سافر الزوج لتلحقه الزوجة بعد يومين، بمجرّد وصوله أرسل لزوجته (إيميلاً)، أخطأ بطباعة عنوانه، لسوء الحظّ ذهبتْ الرسالةُ لأرملةٍ راجعةٍ للتوّ مِن مراسمِ دفن زوجها، قرأتْ الأرملةُ الرسالة فأُغمي عليها، دخل الابنُ فوجد كمبيوتر أمّه مفتوحاً على رسالةٍ تقول: (زوجتي الحبيبة، أخيراً وصلتُ، لعلّك مندهشةٌ لوجود إنترنيت هنا! المكانُ جهنّم (ويقصد حارّ)، أوحشني فراقُك، ولقد جهّزتُ مكانك، أنتظر وصولك بعد يومين)!
طُرفةٌ محزنة، لكنّ واقع أراملنا أحزن، وسبحانه لم يظلم المرأة، نحن فعلنا، حينما نحرقها حيّةً مع زوجها الميّت كفعل طوائف الهندوس.
يخرج (رأيٌ) فقهيٌّ متشدّدٌ، يُطبّقه ناسٌ في زمنٍ قديم لأنه يُناسب فهمهم وحياتهم، يصير (عادةً) وتستحكم، ثم يكون هو (الشرع)، ثم الويل لمن خالفه.
والتشدّد يُمارسه عوامُّ الناس، يتكلّمون بالأحكام وكأنهم خُلفاء الله، يتوعّدون بالويل والنار مخالفهم، ناسين أنّ سبحانه يُحاسب المُحرِّم لكونه مفتريا أشدّ ممّن حلّل، إذ التحريم شأنٌ إلهيّ يعوزه نصٌّ واضح، والأمور حلال بالأصل الطبيعي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمَْ)، (وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ)، (قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا)، (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ)!
يموت زوج المرأة فيأتي مَن يزجرها
للبقاء ببيتها أربعة أشهر و(يُحرّم) خروجها منه!
ولعلمي أنّ (الحداد) و(السواد) ظاهرة بكلّ الأديان، وأنّ أحكام الدين الاجتماعيّة ليست اعتباطية (وتعبّدية!)، بل معلّلةٌ بالحكمة والرحمة، فحاولتُ تحرّي لغز هذا الإلزام المتمادي والحبس الانفرادي للمرأة –دون الرجل– بين الجدران، ليقيني أنّ (حبسها) بعنوان (الحداد) هو من دخائل متطفّلةٍ على الدين والحياة، فسّرتْ النصوص الشريفة تفسيراً خاطئا، لأنّ (حبسها) مدخلٌ لتقديس الأموات بدلاً من احترامهم فحسب، ومدخلٌ لتوليد الأمراض النفسية والاكتئاب والإحباط واليأس بدلاً من إعادة التوازن بالانشراح والتوكّل والسلوى بالخدمة.
وتساءلتُ لماذا لا يُحبس الرجل (حدادًا) على زوجته أيضاً؟! أليس الواجب احترامها كذلك؟!
وكُنتُ أحيل أيّ تعسّفٍ تشريعي منزوع الرحمة والحكمة، إلى ذهنّية تاريخيّة
تعلّقت بظاهر النصّ دون سبرِ مقاصده،فأعضلتْ النص وأعضلتنا به؛حين عدمتْ الاعتناء بمقاصده وظروفه، وبأشخاصه النازل فيهم، واجتزأته من سياقه الكامل المفسِّر له والمبرّرة لصدوره، وجعلته حُكْمًا دائمًا يُطلق عبر الأزمنة كلّها حتى غزا عصرنا.
وكان مستحيلاً لديها أن يُنظَر لنصّ المعصوم كتوجيهاتٍ خاصّة ومصالح وعاداتٍ حسنة ملائمة لبيئتها ولأشخاصها فقط، حتى صيّرتْ كلّ (حديثٍ) (سنّةً)، فأوقعتنا بمآزق أخرى، حجبتْنا عن رؤية واقع النصّ التاريخيّ، والاستفادة من مقاصده لواقعنا، فضلاً عن تثبيت استخدام خاطئٍ للنصّ ضدّ مقاصده، فتشيّد (دينٌ) ضدّ (الدين)، ووقع التعارضُ بين رواياتٍ للشأن الواحد، لأنّهم صيّروها أحكاماً مطلقةً، وليستْ خاصةً بحيثياتها وأشخاصها وزمانها!
كُنتُ أرى أنّ الحياة السويّة تقتضي تواجد المرأة والرجل بكلّ مناشطها وديناميّاتها، ووفاة زوجها لا يُعطّل
دورها وعملها وخروجها لمواصلة مهمّاتها وارتزاقها لأسرتها، فالحياة لا تتعطّل لموت أحد، بل تتواصل بالأمل، وينبغي إخراج المثكول بأسرع وقتٍ من غمّه وحزنه وتعويضه بدسّه بمجالاتٍ يستأنف بها حياته، بدل حبسه بين الجدران وجعله عرضةًلهواجس إنكار الحياة ومزالق التشاؤم، فحجز الأرامل بالبيوت وعدم خروجهنّ إلا (لضرورة) مدّة أربعة أشهر، خطيئةٌ، ومنافٍ للعقل، وللمساواة، ولمقاصد الشريعة، وهو من مخلّفات عقليّة سلطويّة، استبدّت بالمرأة واستتبعتْها.
إنسانيّةُ الشريعة تحرّتْ إرجاعَ المثكول سريعًا إلى استوائه النفسي ليتواصل عطاؤه لمحيطيه ولمجتمعه، وذمّتْ الانتكاس على الأعقاب والتردّي النفسيّ والإيماني لموت أحدٍ ولو أشرف الخلائق (أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)؟! وبضرورة عدم تعظيم المصيبة، فمنعتْ التفزيع باللّطم والنياحات المُفرطة وشقّ الجيوب، لغرس الجانب الإيماني بالحياة الآخرة وبالامتداد، بينما الشيطان يُفزّع الناس على فوات الدنيا ويُعظّم الأسى بمفقوداتها، وكلّ مظاهر (الحداد) المبالَغ واللطم الهستيريّ هو من استفزازٍ شيطانيّ لا يحثّ على التضحية والاحتساب، ولا التوق للباقيات الصالحات، فقد عزّى عليّ(ع) مُصاباً بقوله (إنِْ صَبَرْتَ جَرَى عَلَيْكَ اَلْقَدَرُ وَأَنْتَ مَأْجُورٌ، وَإِنْ جَزِعْتَ جَرَى عَلَيْكَ اَلْقَدَرُ وَأَنْتَ مَأْزُورٌ)!
كُنتُ أرى هذا، فلمّا تابعتُ كُتبَ الفقه رأيتُ عجباً، بأنّ الحِداد (أربعة أشهر وثلث) (لا خلاف بين المسلمين بوجوبه)، لقول النبيّ
(ص) لامرأةٍ مات زوجُها: (امكثي في بيتك الذي أتاك فيه نعيُ زوجك حتى يبلغ الكتاب أجلَه)، وحفيده الصادق(ع) قال عن مثلها: (لا تكتحل للزينة، ولا تطّيّب، ولا تلبس ثوباً مصبوغا..) وغيرها، وضربوا بالحائط مرويّاتٍ قالتْ عكسها تماماً!!
فقهاء عديدون قالوا (بحرمة أيّ زينة في العدّة)، وتشدّد بعضُهم فزاد: (لا يحسب من العدّة ما يخلو من الحداد، للإخلال بمراد الشارع، فيجب الاستئناف)!!
فماذا فعل فقهاؤنا المعاصرون المحاصَرون بمقتضيات الحياة المدنية، وبضرورة مشاركة المرأة وحضورها
في ميادين المجتمع، وبزعم أنّ الإسلام أعطى المرأة حقوقها وكرامتها وشخصيّتها؟!
لقد ثبّتوا التفسير الخطأ، لكنّهم وسّعوا
(مساحةَ الضرورة)، فأجاز بعضُهم خروج المرأة للعمل والتزاور (للضرورة) التي تبيح المحظور!
فهل ينفع هذا؟! ..البقيّة مرّةً أخرى..