حينما يقول الرسول (ص) في خطبته الشهيرة التي استقبل بها شهر رمضان- ربما كان ذلك في أول سنة كتب فيها الصيام على المسلمين: (وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم، ووقروا كباركم وارحموا صغاركم، وصلوا أرحامكم واحفظوا ألسنتكم، وغضّوا عما لا يحلّ النظر إليه أبصاركم، وعمّا لا يحلّ الاستماع إليه أسماعكم، وتحنّنوا على أيتام الناس حتى يُتِحنّن على أيتامكم، وتوبوا إلى الله من ذنوبكم فارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلاتكم فإنّها أفضل الساعات ينظر الله عز وجل فيها بالرحمة إلى عباده، يجيبهم إذا ناجوه، ويلبيهم إذا نادوه، ويعطيهم إذا سألوه، ويستجيب لهم إذا دعوه.) فإنَّه بكل تأكيد لا يؤسّس هذه القيم أول مرة وإنَّما يدعو لمراجعتها وتعهّدها، فتوقير الكبار والرحمة بالصغار ومساعدة المحتاجين من الفقراء والمساكين والتحنّن على الأيتام كلّها قيم مجتمعية أصيلة أكّد عليها الدين منذ أيامه الأولى إلى جانب غيرها من القيم، وجُعِل شهر رمضان المبارك شهر مراجعة شاملة لهذه القيم وغيرها وإزالة العوائق من طريقها، والقضاء على كلّ ما يهدّد استمرارها، فلا يوجد شهر أولى من هذا الشهر بهذه المراجعات، وهذا ما يؤكّد اهتمام الإسلام بهذه القيم وأمثالها وأهمية استمرارها في علاقات الناس، وهذا الكلام يصدق على جميع ما دعا إليه الرسول (ص) من الاستغفار والصلوات وقراءة القرآن والدعاء، فالاستغفار مثلاً حالة مستدامة واجبة فهل الرسول يدعونا لتأجيل الاستغفار إلى الشهر المبارك؟!
بالطبع لا، لكنّه التأكيد على أهمية الاستغفار وبالنحو الذي يدعو إليه (ص) فالمفروض أن يدرك المسلم أنَّ المطلوب من الاستغفار في رمضان استغفار آخر محطة زمنية يتدارك فيها المسلم أمره في كلّ ما قصّر، سواء كان تقصيره فيما بينه وبين الله تعالى أو فيما بينه وبين الناس، وتلافي التقصير المتعلّق بالناس يعني الكثيرَ الكثير على صعيد الحركة الخارجية، فلو تأملت الناس وهم يستقبلون الشهر المبارك وقد وضعوا في أجندتهم أنّهم سيراجعون أنفسهم في حقوق بعضهم بعضًا، وأنهم جادون وصادقون في أن لا يخرج شهر رمضان إلا وقد خرجوا من عهدة هذه الحقوق وأدّوْها إلى مستحقيها، لرأيت عالمنا الإسلامي في هذا الشهر عالمًا آخر وقد ظهرت عليه علامات المراجعة الصادقة الشاملة، فما أجمل أن نؤسّس هذا الأساس الجميل فنرى مجتمعاتنا تعجّ بحركة المراجعة الشاملة التي من مظاهرها صلة الناس التي انقطعت، واعتذار المسيئين إلى المظلومين، وأداء الحقوق المالية إلى أهلها من ديون طالما ماطل أهلها في أدائها، أو أي شكل من أشكال المظالم التي يذكرنا بها باستمرار دعاء يوم الاثنين للإمام زين العابدين (ع)، هنالك سيكون الاستغفار الذي دعا إليه رسول الله استغفارًا ذا مصداقية، وهنالك يتحقّق الاستغفار الصحيح بِبُعْدَيه: استغفارك عما بينك وبين الله سبحانه وتعالى؛ واستغفارك عما بينك وبين عباده، وفي مثل هذا الحال سيغدو الشهر المبارك مباركًا بالفعل في حياتنا وقد صدَّقنا بركته حيث تعود الأشياء إلى أصولها فيعود توقير الكبار كقيمة مجتمعية أصيلة، وكذلك الرحمة بالصغار، والكلام ذاته مع صلة الرحم فالتغيير الذي يحدثه الشهر المبارك هو أنَّه يخلق جوًا تحوطه الرحمة الإلهية من أقصاه إلى أقصاه، ليكون مناسبًا لإحداث تغييرات لا بدَّ منها باتجاه الإصلاح.
نحن بحاجة إلى فتح آفاق مفاهيمنا الدينية التي حبست في دوائرنا الشخصية، فلماذا لا نرتقي بهذه المفاهيم إلى مستويات أرقى وأوسع توازياً مع سعة الإسلام وتطور الحياة؟ فمثلا دعوته (ص) في هذه الخطبة إلى صلة الرحم لماذا لا ترقى إلى مستوى التواصل الإنساني العالمي؟ فهناك قطيعة بين الأمم يغذيها الأنانيّون ومجانين التمييز العرقي والعنصري ومن يعيش على استمرار العداوة بين الناس، فصلة الرحم في عصرنا تتمثّل في مواجهة هذه القطيعة وقد قال برنادشو الكاتب البريطاني الشهير: (لو بُعِثَ محمدٌ في زماننا لحلّ مشاكل العالم وهو يشرب فنجانًا من القهوة) كناية عن رغبته في سلام البشرية وإخلاصه العميق وسرعته، هذا الكاتب فَهِمَ روح غايات رسول الله وهو يعلم أنّ الرسول (ص) لو بُعِثَ في هذا الزمان لتكلم عن صلة الأمم والشعوب ولم يقتصر على صلة الأسرة والعشيرة، ودعاهم إلى ترك القطيعة وأصلح فيما بينهم، ومنذ ذلك الزمان البعيد قد أسّس القرآن لمثل هذا التواصل حيث قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، كان يفترض أن نُمضي قدمًا في موازاة هذه الدعوة ونتواصل شعوبًا وقبائل ونقضي على جميع حالات التقاطع باعتبارنا شعوبًا وقبائل آدمية إنسانية، إلا أنَّنا لم نتقدّم خطوة واحدة باتجاه هذا التعارف والتواصل الذي دعت إليه الآية الكريمة ونحن بني الإنسان رحم واحدة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، فهناك رحم أسرية ورحم إنسانية عالمية فكلّنا لآدم وحواء، فمواجهة أعداء الإنسانية وإعادة التقارب الإنساني هو من صلة الرحم التي يتّسع لها مفهوم صلة الرحم في الإسلام، وما من شك أنّ المصداق الأول لهذه الدعوة هو ما يتبادر إليه الفهم سريعًا، لكن طبيعة المفاهيم الإسلامية في صالح الإنسانية طبيعة امتدادية، فصلة الرحم في مصداقها الأولي هي الأسرة ولكنَّها في اتجاه الإصلاح تمتد إلى العشيرة ومن ثم القبيلة ومنها إلى الشعب ومنه إلى الأمم كلّها.
ومن شأن هذه المراجعات الرمضانية إعادتنا إلى أصولنا وقيمنا الإنسانية الصحيحة، والتخلص من كلّ طارئ سيئ لا ينسجم وفطرتنا السليمة، وقيمنا الإنسانية التي أكّد عليها “دين القيمة”، على أن لا تقتصر هذه المراجعة على العلاقة الفردية بالله تعالى ولا على العلاقات المجتمعية فحسب، وإنَّما هي مراجعة ضرورية لكلّ شيء انحرف عن جادته المستقيمة، فقد يكون ذلك الأمر أخلاقياً أو عبادياً وقد يكون مجتمعياً أو سياسياً أو اقتصادياً أو فقهياً أو حتى صحياً أو قراراً أو اجتهاداً خاطئاً أو تفسيراً.
وبالنظر إلى أهمية المراجعة من جانب وأهمية القضية التي نراجعها في المحطة الرمضانية من جانب آخر، فإن لدينا أموراً بحاجة شديدة لمراجعة نوعية معمّقة لفرط ما ألحقت بالمسلمين من ضرر كالطائفية البغيضة والفتاوى المنفلتة الطائشة. ذلك أنَّ الإسلام يقود الحياة ومن الطبيعي والضروري أن نؤمن بأهمية المراجعة من أجل أن تتوازى أمورنا مع منطقية الإسلام حتى لا يكون هو في وادٍ ونحن عملاً ووعياً في وادٍ آخر، ولا يصحّ أن نحمّل خطايانا من أيّ شكل كانت إلى ما بعد هذا الشهر المبارك، فهو شهر الرحمة والمغفرة والرضوان والقرآن، وكلّ الأدبيات الواردة بشأنه تؤكّد لنا أنَّه المحطة التي لا يجوز أن يمرّ عليه الخطأ دون أن يُتَلافى.
فهل نتطلّع في السنوات القادمة إلى شهور رمضانية مباركة نشهد فيها مراجعات شاملة جادّة وفق هذا الوعي تتخذ من الشهر المبارك محطّة نهائية لتلافي ما هنالك من تقصير؟ نأمل أن نحظى بمثل هذا الفهم والوعي فيكون ذلك دليلا على أنّنا في صحوة ووعي لديننا العظيم.