وأخيراً سقط الرجيم “بوش”، وانزاح كابوسه العفريتي الجاثم على صدور ملياراتٍ، أنّت من ثقل عربداته، وعنهجيّة سياساته.
ربّما لم يشهد التاريخ زعيما مثل “بوش” تعرّض لفشل عالميّ مُجمَعٍ عليه، حروب بالجملة، اعتداءات وإرهاب، غزو واجتياح، تبشير بصليبيّة بائدة وبأساطير تلموديّة وتصوّراتها المغلوطة البائسة، نهاية التاريخ، صراع حضارات، قطبية وأثَرة واستبداد، تكثير أعداء، تصهْيُن تامّ ومؤازرة كاملة لعدوّ إسرائيلي غاشم في نزواته ومغامراته وهمجيّته، أزمة مالية عاتية وركود اقتصادي عاصف، توتّرات تتفتّق بين الجار والجار، والبعيد والقريب، نزْغ بالعداوات، تسويل للكراهية، نفث بالتوجّس، وتوتير العلاقات بين الجيران والإخوة شرقاً وغرباً.. إذا لم تكن هذه جميعاً أفعال إبليس الرجيم، فعلينا الاستغفار إذاً بالترحّم عليه واستبداله “ببوش”!
وفي الداخل الأمريكي؛ لم تنتشر برامج كوميدية بهذه الكثرة، وتُجمع على التندّر بزعيمها كما حصل “لبوش”، فاتّفقت بإظهار صورة نمطيّة له تُوحي بالغباء، والجهل، والفشل، والرعونة، والاشمئزاز، فصار التهريج به بمحطّاتهم الإعلامية الكبرى تلقائيّاً، وغدا مهزلةَ أشهرِ برامجها الساخرة المُشاهدة من قِبَل مئات الملايين: “ستاردي نايت لايف”، “جون ستيورات”، “جيه لينو”، “ديفيد ليترمان”، “كونان أوبراين، “ستيفن كولبيرت”…
أمّا المؤلّف والناشط “مايكل مور” المُخرج القدير لفيلم “فهرنهايت ناين إلافين” (9/11) المنتقد اللاذع لسياسات بوش-تشيني بأحداث سبتمبر، فإنّه قام بعدئذٍ بفيلمه اللاذع “ذا بيغ وان” ينتقد نظام الهيمنة الأمريكي على الوعي والإعلام وسيطرة الشركات العملاقة وبؤس المواطن وقلّة حيلته، وفيه يوصّف أمريكا بإمبراطورية الشرّ الفعلية وينبغي إسقاطها لتأمن الناس والعالَم، أمّا فيلمه الوثائقي “سيكو” الأخير في ري المشاهد الصورة البائسة لطغيان النظام الأمريكي المادّي، ورأسماليّته المتوحّشة، التي تهدر كرامات الناس وإنسانيّتهم وحقوقهم الاجتماعية والفطريّة، وتشريحه كأسوأ الأنظمة الديمقراطية الساحقة لطبقات المحرومين والناس العاديين، مقارنة ببريطانيا وفرنسا وكندا، التي تتوفّر على ضمان صحّي اجتماعي ودعم حكومي، بدل أن يُترك الشعب فريسةً لجشع شركات الاسترباح الرأسمالية بلا ضمير إنسانيّ ووازعٍ أخلاقي.
إنّ عبارة عليّ (ع) القديمة تلخّص حكمة الأبد “ليس مَن طلب الحقّ فأخطأه، كمن طلب الباطل فأصابه”، الشعوب المسكينة دائماً “تطلب الحق” وتتمنّاه مع كلّ دورة انتخابية أو انقلاب عسكري مفروض، لكنّها تُخطئه، والزعامات المتسلّقة هي مَن “يطلب الباطل”، فتُصيبه!
منظومة الاحتيال والانتحال تجتاح مَشاهِد الدين والسياسة والاقتصاد، هي اختصاراً منظومة “النفاق وأهلِه”، لتُعيد مشهد تخفّي الذئب الجشع في ثياب الجدّة الرؤوم ليُخادع ليلى البريئة (وهي الشعوب البسيطة في حالتنا)، إنه يستدعي إلى الأذهان أقدم حيلة خبرتْها البشرية منذ زلّتها الأولى (المتكرّرة يوميّاً)؛ تسلّل الشيطان لخديعة الإنسان في إهاب “حيّة” زاهية ناعمة الملمس، أو “إقسام” الشيطان بالله و”وعوده” لأبوينا أنه لهما من “الناصحين”.
الشعب الأمريكي ككل الشعوب الغاطّة الحالمة المسكينة، “تطلب الحق” الطبيعيّ؛ من تعليم، وصحّة، ومسكن، ووظيفة لائقة، وضمان اجتماعي، وأمان لمستقبلها ورفاه لأجيالها، هذا مطلب أيّ شعب؛ أمريكي أو سنغالي، لذلك كان “ماكين” و”أوباما” في سباقهما للبيت “الرمادي”، يعدان “بتوفير الحقّ” والعدل والحرّية والرفاه والأمان والنزاهة ووعود التغيير والصلاح، كلاهما يوسوسان للشعب البسيط والحالم “هل أدلّك على شجرةِ الخلدِ وملكٍ لا يَبلى”؟
الشعوب “تطلب الحق” وغالبا تُخطئه، لأنّ الأنظمة المُغلقة لا تتيح إلا انتخاب (أو تعيين) مَن “يطلب الباطل” فيُصيبه.
ومع ذلك، فكلّ الطرق الاحتيالية المزيفة، والتمظهرات الانتحالية، وممارسات النفاق الاجتماعي والسياسي، تعتمد قاعدة “زهوق الباطل وغلَبة الحقّ” الفطريّة، فالباطل (كمفهوم) لا ينتصر أبداً، بل يتلبّس بثوب الحقّ ليَعبر مُخادعاً مجسّات الأنف والعين، لا أحد من الشعوب يتعطّش للباطل؛ للظلم واللامساواة والقمع والتناحر المجتمعي والطائفية والعدوان، لكنّها قد تعيش ألوان كلّ هذا الباطل وشراسته إنّما بعناوين أخرى مَوّهتها لها زعاماتُها، فكما استباح بوش دولاً وقيَماً وشعوباً تحت مسمى “نشر الحريات” و”محاربة الإرهاب”، فتحت مسمى وحدة وطنية، وحوار وتقريب، ولاطائفية، وتنمية، ومساواة، وعدالة، وواجب شرعي، تربض أكثر الأفاعي الشرهة الكامنة للانقضاض على خصومها السياسيين والشخصيّين وعلى حقوق الناس، إنها دورة حمل المصحف على رمح، (أو دسّ الرمح أسفله)، لتنبهر الأعين بمقدّس المصحف، ثمّ تُفقأ بالرمح المخبوء أسفلَه، أكان زعيمًا، نائبًا، رئيساً، ومع ذلك فهو أمرٌ يدلّ أنّ المصحف دائمًا وأبداً يغلب الرمح في الفطرة والعين، كما تغلب الجُبنةُ أسنانَ المصيدة في عين الفئران الجائعة، الحقّ يعلو ولا يُعلى عليه.
بموسم الحجّ الآتي، سيختتم المسلمون شعائرهم برجم الرمز الشيطاني بجمراتٍ، لا مرّةً واحدة بل سبعاً، لا شيطاناً واحدًا، بل ثلاثة؛ أصغر وأوسط وأكبر، والأكبر هو “العقبة”، هو العقبة وهو الشيطان الأكبر بميدان الحجّ، كما هو بمياديننا الدينية والسياسية، كما هو بالاستحقاق الرئاسي الأمريكي العالميّ، الذي يُساوق زعامة العالَم كلّه، حيث تترقّب كلّ الشعوب مصيرها تبَعاً!
ومع ذلك، علينا عدم الغفلة عن الشياطين الإقليميين الأواسط، والشويْطنات الصغار المحليين، فمنظومة الاحتيال أشبه بتنظيم سرّي متسلّل بكلّ مناشط حياتنا، و”التعوّذ من الشيطان الرجيم” أي المرجوم والمنبوذ، تغدو حركةً ثقافية وفعلاً انتخابيا، سواءً بصناديق اقتراع، أو بموالاة لأشخاص وانخراط في مواقف، أو بعدم انخداع عموماً، إنّها عمليةُ وعيٍ مستدامة أشبه بمضادّ “نابذ راجم” للفيروسات، لأنّها تعني أنّنا لن نقبل تسلّل الذئاب فنُقبّل أنوفها النتنة الطويلة، ولو تلبّست بكلّ عباءات الجَدّة الرحيمة، وأطلقت لنا كلّ وعود الأنبياء، ليُصبح انتصارُ الحقّ على الباطل لا داخلَ أفئدتنا السليمة فحسب بل في الواقع أيضا، وهذا ما يُسمّى -بمدوّنات الآثار- بسقوط الدجّال وذوبانه.