إخوتي أخواتي الأنجاس

تشارك المسلمون والمشركون (المُسالِمون) متعايشين، حُوصروا في شِعْب أبي طالبٍ معاً، وتعاونوا بعد الفتح معاً، ولقد لطم عمَرُ (قبل إسلامه) أختَه المسلمة وحاول انتزاع صحيفتها، فصاحت به: (أنت نجس)! فاغتسلَ، فناولته الصحفَ فقرأها، فتأثّر وقال: (ما أحسن هذا الكلام!) مُشركٌ يغتسل فيُعطى القرآن فينقلبُ حالُه! فما الذي قلبَ مفهوم (التنجيس)؟!

أشدّ ما كابدناه طُلاّبًا في الغرب، ليس التكيّف مع ثقافة ولغةٍ مختلفة، وتخيّر أكلٍ حلال، ومدافعة الانحلال، فهذا ميسور ومقبول، بل قيودٌ تعوّق المسلمَ عن التواصل بحيويّة كقدوةٍ حميدةٍ تمثّل -حسب المفروض- أعقل دين وأرهف رسالة للإنسانيّة.

أحدُ عوائقنا كان اختصاصنا (بالطهرانية) والآخر (بالنجاسة)، فمن سنلقاهم في الغربة ونُصادقهم (أنجاس)، تنجس يدُك وثيابُك بتماسِّهم (نداوتُهم وعرقُهم ولُعابُهم نجَسٌ كالكلب)، فلا تُداخلهم وتستعمل مغاسلهم وأوانيهم ومطبوخاتهم!

فقهُ التغرّب والأقليّاتِ المسلمة، يسَّرَ فتاواه، لكن دون مراجعة مصادر العِوج لتقويم فهمها، فبقي الآخرُ نجساً (معنوياً)! حُكماً مِن أسمح دين!!

ما الذي جعَلنا طاهرين والآخرين أنجاساً؟! البعضُ يقول (الله حكم بنجاستهم وبطهارتنا) فنقول له (أين “أفتى” ربُّ “العالمين” بهذا، وهو الحكَمُ العدْلُ؟!)، ولكنّها عقائدُ (الطاغوت) أطغتنا فتخيّلنا أنّنا (نحنُ أبناءُ الله وأحبّاؤه) والباقون (نجَس)!

قال فقهاء السنّة: (الآدمي طاهر، مسلمًا كان أو كافرًا)، وروت الشيعةُ رواياتٍ بطهارة الكتابيّين وأخرى بضدّها.

لذلك “طهَّرَهم” فقهاءُ (كالأخوند الخراساني) و(السيد فضل الله) فأفتى بطهارة مطلق الإنسان، و(الشيخ يوسف صانعي)، لكنّ المشهور لدى الباقين (نجاسة غير المسلمِ)، وزاد بعضُهم (التديّن بغير الإسلام شرْك، ويترتّب عليه أحكامُه؛ من نجاسة، ومنع المساجد، ووجوب مقاتلة)!!! وجعلوا (الإسلامَ) أحدَ المُطهِّرات بالمعنى المادّي! لا الباطني، كمضمون قوله تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)، فالمسلمون ما كانوا نجسين مادّياً.

دليلهُم القرآني الوحيد، الآية التي قدّمناها حلقتَنا الفائتةَ وبيّنّا سياقها (إنّما المشركونَ نجَسٌ، فلا يقربوا المسجدَ الحرامَ)!

تمّ الاشتغال بالصناعة الفقهية، بعيداً عن مورد تنزّل الآية بواقعها العمليّ الأوّل، فتجرّدت الآيةُ من واقعٍ تنزيليّ حكيم، وبطلَ (التنزيلُ الحكيم) الذي هو “التطابق الواقعيّ المنطقيّ”، فاستنبطوا (نجاسة!) (كلّ مشرك!) بالمعنى المادّي (للنجاسة)! و(منْعَهم) من (كلّ مسجد)! بل (ومقاتلتهم!) بلا تساؤلٍ؛ لماذا خصّصتْ الآيةُ (المسجدَ الحرامَ) مع وجود غيره آنئذٍ؟! ولم يستدلّوا بالسيرة، ليُحكِموا (تنزيل) (الآية)!

كانت أوثانُ الشرك تُلوِّث (الحرَم)، وعبَدتُها النفعيّون القذرون، يحتكرون بيع ملابس الشعائر فيجبرون المُعدمين بالطواف عُراةً! حوّلوا الموسم تجارة ودعارةً وربًا وخموراً، واستذلالاً للضعفاء، وتعرّضاً للنساء واتّخاذهنّ للبغي، يسرقون الكعبة ويصدّون الحجّاج ويقطعون السبيل، يفسقون ويُعربدون ويتشاجرون ويغدرون في الحرم، (يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ)، فرضُوا الانحلالَ والقذارات (النجاسات)، لم يُذعنوا لنظام الفضيلة وتعظيم البيت الذي رفعَ قواعدَه الخليلُ (ع) وجدّد مناسكه المصطفى(ص)، (ليطهر) المسجد الحرام فيعمر بالأمن، وتفعم قلوبُ وفّاده بالسلام، (لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)، فباطنُهم وفعالُهم (نجَسٌ)، كأيّ مُعتدٍ، خمّار، نهّاب، فحّاش، منفلت القِيَم، مسترخص الدماء والكرامات (كالصهاينة المدنِّسين الحرم المقْدسيّ، نموذجاً، وكأمريكان دنّسوا الأعراض)، فهذه الحُثالة (نجَسٌ) عصريّ يُواطئ (تنزيل) الآية، لا ملياراتُ المشركين والمسيحيّين والبوذيين العاديّين!

إنّ معاداة الآخر و(تنجيسه) و(طرده) سبيلُ المعتدين، لذا عوقِب أولئك بالإجلاء، ليأمن الناسُ وتَسلمَ الحقوق، وإنّ تعميم (طرد أيّ مخالف) نتاجُ الاستبداد وفقهِ السلاطين لتسويغ أفعالهم، (بحسب مفكّرين منهم “خاتمي”)، فقد روي عن عمر بن عبدالعزيز أنّه كتب: (امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين) وأتبع نهيَه قوله تعالى: “إنّما المشركون نجَسٌ”! ثمّ أُعيد تنظيرُها وتدوينُها بأجواءِ القطيعةِ والانغلاق والتشدّد! لذلك نجد فقهاء سافروا واحتكّوا بحضارات الآخر، غيّروا فتواهم التنجيسيّة (أُثِر هذا عن المرجع الدينيّ محسن الحكيم).

هذا (الفيروس) الاستعدائيّ والاستعلائي، أنتج هوَساً (بطهارةِ) الذات الطائفيّة، و(نجاسة) المُغايرين اعتقادًا، وكان ينبغي تعليل (الآية)؛ أنّ كلَّ ديانة لها (منسَكٌ) وموضعٌ مقدّسٌ خاصّ، ترفض اختراقَه بمُدنِّسٍ لقدسيتِه، يُعكِّر روحانيّته، والمسجدُ الحرام لم يشذّ عن القاعدة، لكنّهم باتّجاههم (التنجيسيّ) الشامل شذّذوه، حين عمّموا مفهوم (المشرك المُدنِّس المخصوص) على جميعِ (غير المسلمين)، ومَطّوا مفردةَ (نَجَس) المحصورَ موضوعُها (بالمشركين) المكّيين الباغين وأشباهِهم، ومعناها: الخبيثون المُفسِدون لقواعد الحُرمة الإبراهيميّة ومُدنِّسوها بالرذائل، مَطُّوها لتشملَ (الجميع)، وفسّروها (بنجاسة شرعية) ذاتيّة/عرضيّة!!

ذلك نموذج لأزمة قراءة القرآن خارجَ دلالاته اللغويّة وسياقه التنزيليّ، فتعسَّر تطبيقُه، لأنّ مفهومهم المُستولَد قيسرياً خاطئ -وبالتالي ساد (التجميد) بدل (التجديد)- فلن نُبصر (واقعَنا الراهنَ) المُحاكي (لذاك الأصل)، لتتجدّد الآيةُ تنزّلَها فيه، مُعالِجةً نظائرَ دائِها القديم، فكانت (كدواءٍ يُعالجُ الصرَع، وصفوه لكلّ وجع)!

إنّ ثقافة تنجيس الآخر، ستُعوِّق فهمنا رسالة الإسلام وانسيابها، بالرحمة والعدل وإفشاء الأخوّة الإنسانيّة، بل ستُصبح مدعاةً لكلّ طرف لتنجيس نظيره، فالكلُّ نجسٌ عند الكلّ، والكلُّ يُلوِّح بنصوصِه السماويّة! ثمّ سيُشحن الكلّ بالبغضاء، ويتوسّلون العنفَ لإكراه (الأنجاس) لتطهيرهم، أو يُعالجوهم بالاجتثاث كالنجاسات!

ليس بمشكلة نسبةُ الآخرين لمعتقداتهم المقرّين بها؛ (مشركين)، (كفّاراً) وغيرَها، فالقرآنُ فعلَها، المشكلةُ بإساءة مُعاملتِهم؛ تنجيساً وتحقيراً وطرداً وقتالاً لمجرّد عقائدهم، وهيهاتَ فعلَها القرآنُ ونبيُّنا الكريم.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة