عيد الأضحى المجيد، تُختم شعائرُه بذبح الأضاحي، لإطعام المساكين: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ)، وعن نبيّنا(ص): (إنّما جعل هذا الأضحى لتشبع مساكينُكم مِن اللحم فأطعموهم)، هذه الروح المعطاءة المتحفّزة لتسكين الجوع ومعالجة الفقر ينبغي أن تعمّ أجواء الأضحى، بمعونات وتضحيات وبرامج تنمويّة مؤثّرة لإسعاد الجميع بالعيد، هذا المنسك رُبط قدسيّاً بإسماعيل، حين فداه سبحانه “بخروف” عظيم، ليُذبح بدله، ضمنَ رمزية أنّ الإنسان أكرمُ من “خروف”، فهو محرّمُ الدم، وموهوبُ عقل، يتخيّر به دروبه، هذا ما تتعلّمه أمّةُ إسماعيل (الأمّيون) وهي تحتفّ بأكناف البيت العتيق: “أنّ الخراف للذبح وليست هي”، ولا حجّة لمن وفد على الرحمن أن يعيش “خروفاً” بلا خيار وقد افتُدي هناك “بخروف”، ليس مقبولاً أن “يضحى” إمّعة يصرخ “مَعْ..مَعْ” يُساق بعصا المستنفعين.
كجهازٍ مغناطيسيّ ضخم يُعدّل مسارات القطَع الممغنطة حين تفد عليه وتلتفّ سبعاً، فإنّ استدعاء ملايين الحجيج بمشاربهم ومذاهبهم ومرجعيّاتهم وهويّاتهم الفرعية المختلفة ليثوبوا آمّين مَصنع منشئهم “أوّل بيت وُضع للناس”، فيستضيفهم المبرمجُ الأكبر والأوّل لفطرتهم (سبحانه)، إنّما لإعادة “فرمتة” (Format) صفحات نفوسهم وإزالة البرمجيّات السيّئة والحزازات المخالفة لفطرتهم والنابذة لتراحمهم الإنساني القائم على سواسية واستواء نظرتهم إلى إخوتهم المختلفين، فتعود الملايين كرسل سلام وتحرّر إلى أوطانهم، بيض القلوب أصفياء الأذهان كيوم ولدتهم أمّهاتهم، عبيداً لله فقط، لا عبيدًا لبعضهم وسادةً، لا “خرافاً” ورعاةً، ولميلادهم من جديد -أخلياء من سبقيّات فيروسيّة وخدوشِ أضغان- تمّ تأكيدُ المعنى بذبح “خروفيّتنا” السابقة بأواخر المناسك.
“كحجيج” علينا دائماً اختيار دروبنا إراديّاً، لئلاّ نستحيل قطيع “خرفان” تتناطح (طائفيا)، واجبُنا التحرّر من مشاريع الاستعبادات والاستحمارات السالبة عقولنا عن التفكير والبحث، بغرض تنميطنا صوتًا واحداً لا يُبدع مدى الدهر إلا الصوت الموروث المجترّ، فنعيش صراعات الأوّلين (ماعْ)، وخلافيّات واجتهادات وقضايا الأوّلين (مَاعْ)، ونضحى حطبَ نيران غيرنا، هذه الحالة “الماعيّة الإمّعية” تصنع ضجيجاً لا حجيجاً (ما أكثر الضجيج وأقلّ الحجيج)، الحُجّة.. الحَجّ.. المَحجّة.. تُؤتى فقط بيقظةٍ فرديّة، مكمنُها عقلٌ حرّ، يُثاب بتشغيله المرء أو يُدان، يُكرم أو يُهان.
أن يستحيل الإنسانُ “خروفًا” فسيضحى قابلا للذبح والسلخ، وسيتأتّى ذبحُه جماعيا بذريعة إتمام الشعائر، وأن يُصبح المرءُ “إنسانًا” (أيْ حاجّاً) يعني امتلاكه الخيار، كقول إبراهيم(ع) لابنه المُفدّى “بخروف”: (إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى)، “انظر ماذا ترى؟” لا تُقال لخروف، الخروف لا ينظر ولا يرى، يُنظَّر ويُرى له؛ بأنْ يكون مجروراً بحبلٍ خلف مَنْ يسوقه، “الإنسان” وحده يرى ويختار الطريق.
أليس معيبًا أن تتناحر طائفتان عصبيةً لرجل حيّ أو ميّت؟ وأن تختلف رؤيةُ مرجعيّتين دينيّتين فتتنافر بالتلقاء وبغلظةٍ كلّ أتباعهما؟
البرمجة “الخروفيّة” تُقنعنا أنّ زعيمنا سوبرمانٌ معرفيٌّ لا يمكن تجاوزه في تفسير ورأي، وأيّ رأي مخالفٍ فحكمُه التحقير، لسيادة شعار الخراف: (حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا).
فمثلاً: بمقالي السابق الذي ضغطتُه لأحشد فيه خلاصةً تُعالج إشكالية “الحجاب” كمسألة حقوقيّة مدنيّة وكحرّية دينيّة، وعدم شرعيّة الإكراه على خلعه (مدنيًّا)، أو الإكراه على لبسِه (دينيّاً) حتّى مع قناعتي بوجوبِه، فالدين نصيحة، استلمتُ تعليقاً لأخٍ مجهول اقتطع إحدى عباراتي: “أنا أؤيّد لبس الخمار للمرأة المسلمة باختيارها..” وعلّق بقولِه: (ليس لي تعليق على الكاتب إلا فيما تضمنته “الأنا”) وزعم أنّ أوّل من سنّها إبليس، ثم استرسل يُخاطبني بشخصنة وكبرياء: (فمن أنت؟ لتؤيّد أو لا تُؤيّد؟).
حسناً، هذه مناسبة لتعرية استبداد بعض إخوتنا المذهبيّين وسقم لغتهم المتعالية التي يتعاطون بها مع بعضهم ومع الآخرين لدرجة شطبهم، وبالتالي هدم جسور التواصل والاحترام، صاحبُنا وأشباهه الآلاف بأمّتنا ممّن يستهويهم “الضجيج” بدلاً أن يكونوا “حجيجاً” ضالّتُهم الحُجّة، يرون وجوب سجود الآخرين لمشايخهم فحسب، ألم تكنْ هذه علّة بلايانا؟! أنْ نعطّل عقولنا الموهوبة ونبرُك ونتبرّك فقط على نسائج الرجال؟! نتخلّى حتّى عن حقّنا “بالتأييد” والرفض لها، ناهيك عن ابتداع رأي آخر؟! أبلَغ تحجّرنا لنحجر أن يكون للآخرين إطلالةٌ خارج حظائر القطعان التي يستميت البعض بتشييدها لاستعباد أمّة محمّد(ص) باسم دينه الطاهر من أنداد اله تعالى؟ موسمُ الحجّ مصنع هذا التحرّر الذاتي” “لبّيك اللهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك”.
أمّا مفردة “أنا” فليس إبليس مُخترعها، إبليس اخترع عبارة “أنا خيرٌ منه”، مفردة “أنا” قالها سبحانه ثمّ كلّ إنسان بدئاً بهابيل “ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك” واختتاماً بالمصطفى(ص) “إنّما أنا بشرٌ مثلكم”..والعشرات أمثالها، فهي أداة المتكلِّم العاقل.
فالتظاهرُ بذمّ كلمة “أنا” حتى بمقولة “أنا.. وأعوذ بالله من كلمة أنا” -وهي “ماركة” دجليّة لبعض المتنطّعين- يفضح مستخدميها بصفاقة الرياء، وإلا فقوْلُ “أنا” وحدها ليس بمشكلة، فعْلُ الـ”أنا” هو المشكلة، الفعل الذي ينفخ “الأنا” الذاتية والطائفيّة فتستكبر بالاختصاص لتُرسل مُغايريها للجحيم، وتسلبهم حقّ الاعتقاد والرأي “فمن هم حتّى يَرَوا ويعتقدوا”؟ حسبُهم أن يكونوا “خرافاً” تُقاد، فعلُ الـ”أنا” يُصيّر مذهباً-طائفةً-حفنة مطبّلين وراء شيخ، وحدَهم سكنةَ الفردوس.. وستّة مليار إنسانٍ حطب النار! “لقد ضيّقت واسعاً” هذا تعليقُ سيّد البشريّة جمعاء لإعرابي ساذج رفع يديه داعياً: (اللهم ارحمني ومحمّداً.. فقط)، فعل عاد عقلنا أضيق؟ فالإعرابي سأل ربّه إقصار الرحمة عليه، ونحن ندّعي أنّ الله احتكرها لنا بدون سؤال له! ولا نُجيز نقاشاً لنا!
إنّ اللسان الذي ينطق به ضيّقو العقل والصدر، وينسبونه للإسلام والفقاهة.. ينسبون به الجهل والظلم والعدوان لأقدس المصادر، عقلٌ لا يستجيز شرعيّةً لـ”أنا” أخرى متى فكّرتْ بخلاف المتساقط من جُبّة شيخه!
وفي محاكاة غريبة لحكاية جحا وابنه وحماره، حين جرّب جميعَ الاحتمالات: ركب الحمار وترك ابنه يمشي، عكَس الوضع، ركبا الحمار معاً، نزلا عنه، وكلّ مرّة لم يسلم من سخريّة المتهكّمين، فحين قرّرتُ صياغة عبارتي المتهكَّم عليها: (أنا أؤيّد لبس الخمار..)، تراءى لي أوّلاً كتابة “الإسلام يُؤيّد..” فتخيّلتُ أن يُلهم الشيطانُ بعضاً ليعلّق: “ومن أنت لتتكلّم باسم الإسلام؟!” مع أنّ كلّ قُساة القلوب يتكلّمون باسم الإسلام افتراءً ويذبحون الناس به! ثمّ تراءى لي كتابة “نحن نؤيّد..” فتوقّعتُ حاسداً يقول “هاهو يُفخّم نفسه”، فأخزيْتُ الشيطان وكتبتُ “أنا أؤيّد..” لأنها أبسط وأصدق، ومع ذلك لم أسلم -مثل جحا- إذ طفَر مَن يزعق: (أعوذ بالله من كلمة “أنا”) (ومن أنت “لتُؤيّد”؟)!
“أنا” عزيزي كما “أنت” بشرٌ عاقل، لسنا خرافاً، اللهُ أعطانا حقّ التأييد والرفض والتفكير، وسنُحاسب إن عطّلنا نعمة عقولنا، يوم يفرّ المرء من أخيه.. وأبيه.. وأيّ شيخ له وفقيه، وطوائفه التي تؤويه، يومَ نُُحشَر –كموقف الحجّ- متساوين، الأضحى يُعلّمنا هذا.