كزوجةٍ واجبُها فقط الصمتُ والاستماعُ وإحسانُ التبعّل، وإنْ أساء زوجها وسلب حقوقها، وإنْ أشرك بفراشها منافِسات مجتلبات من الخارج، وإنْ بعثر رصيد الأسرة، حرامٌ عليها أن تنقل “خلافات” داخل المَخْدع لخارجه، فتشتكيه لأهله ولأهلها وللرأي العام وللقضاء المدني والشرعي، مجرمةٌ وخائنة إن فعلت، هكذا تُعامِل بعضُ سلطات السياسة وأوصياء الدين “رعاياها”، معاملةً قائمة على التطويع والاستتباع ومصادرة الرأي، وقمع شكاوى الإصلاح، فالنظام “البعل” له مطلق الولاية، و”الرعايا” قاصرة، لا يمكنها استبصار حقّ خارج رؤية “البعل” الرشيدة، فلا تُحاسبه، ولا تشتكيه للخارج، ولا تُفصح عن إعضالاته معها وأخطائه، بغرض صلاحها وإصلاحه!
إنّ قيم العدل والحقوق والحريات واضحة وبسيطة، لكنّ النفعيّة السياسية والتوظيفيّة الدينيّة تلبّس الأمر غالباًً، فتجعلها ضبابية رهن النقاش بل والتفنيد!
لو كانت السياسة تتهذّب بالأخلاق ولرعاية مصالح الناس فقط لما جازَ أن تُصاغ مواد قانونية تُعاقِب مواطناً اجتهد برأيه وبثَّه لإصلاح الشأن العام، الذي هو مسئوليّة أيّ مواطن غيور، ولاقتصر القانون فقط بتجريم من يمسّ بأمن الوطن والمواطنين بإشاعة أراجيف واضحة وعمديّة بقصد إضرارهم، فبدل تفصيل القانون (والشرع) وفق هوى السلطات (سياسية ودينية)، ينبغي تفصيله بمسطرة القيَم لحفظ حقوق الناس فحسب.
الوطن ليس هو الدولة، والدولة ليست هي النظام السياسي، وإنّ “أوضاع الوطن وشأنه وهمومه” لا تقتصر على نقد السلطة فقط، بل كلّ شأننا المحلّي بما فيه أدواؤنا الاجتماعية والطائفية وأمراضنا الثقافيّة والإنسانية، حقّ الفرد -كمواطن وكإنسان وكمتديّن- بإبداء رأيه في الشأن العام بأيّ ملتقى مكفولٌ ومقدّس، وكفالتُه ضمانُ صلاحِ الوطن وديمومة مشاريعِه الإصلاحيّة، ودونه تتنفّس الاحتقاناتُ بمسارات عنفية تُفضي باستبدادٍ وانفلاتٍ أمني.
إنّ أي تكميم للأفواه الوطنيّة عن الإدلاء برؤاها ونقودها للإجراءات والتدابير الخاطئة بغرض إصلاحها، هو ردّةٌ عن الإصلاح واستدعاء لطبائع الاستبداد، وعلى المشرّع أيّا كان، دينيا أو سياسيا، معيّنا أو منتخبا، أن يتّقي الله، ويتوخّى مصلحة الناس أوّلاً وآخراً، لا مصلحة فئويّة وسلطوية.
النقد -بوصفه مصارحة- دعامةُ الإصلاح، ولا ينتج إصلاحٌ بدسّ الأخطاء، وبلجم الأصوات المعارضة للفساد الكاشفة للمساوئ، لذلك أرسى الدين مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حمايةً لمسيرة الصلاح لتقويم السلطات بنصحها وإرشادها، تركيزاً لشرعية “الحكم الصالح” فيها، ومنعا لتأزّم أوضاع الأوطان وتفجّرها.
إنّ المشتغلين بالسلطات التشريعية والتنفيذية ليسوا بالضرورة خيرة عقول أهل الوطن، وإنّ إقصار الحديث في الشأن العام على جهات معيّنة وتقييدها بجبهات محدّدة مرسومة، وأدٌ للخبرات والعقول أن تشارك في مهمّة إصلاح وطنها ونظامه بما “يَنفعُ النّاسَ” الذي يستحقّ أن “يَمْكُث فِي الأَرْضِ”، لا يُوجد عقلٌ يُلغي العقول إلا حيث النُظم الأبوية (الفرعونية)، السياسية والدينية.
العمليّة الإصلاحية، كمشاركة حضارية، تقتضي تَشارك العالَم في الهموم والخبرات بشفافيّة الحديث عن أوطانهم وشجونها وسياساتها؛ سلبيّها وإيجابيّها، هذا التشارك المعلوماتيّ الصريح هو مادّة التعارف الحضاري ولقاح الانتفاع، منافعنا الإصلاحيّة تتحصّل بالمشاركة في المحافل الدولية واللقاءات والأنشطة والفعاليّات والمواسم “ليَشهَدوا منافعَ لهم”، وعلينا إذ نُشارك أن نأتي بالصدق لا بالزيف، ونكشف الواقع لا نلمّعه، لتأتي الحلول والمقترحات عمليّة وصحّية وواقعيّة، البرلمانيون، النقابيون، المنظمات النسائية، الحقوقيون، الاقتصاديون، الصحافيون، القوميّون والدينيّون، وأغلب المؤسّسات المدنية، لها لقاءات ومؤتمرات مع الخارج بحسب مجالات اهتمامها، ولابد أن تستحضر أرقام ووقائع ما يجري بأوطانها، وعرض رؤاها ومرئيّاتها للإفادة والاستفادة، بل وللضغط السلمي أيضاً على “النظام/البعل” لتقويمه!
العالَم اليوم بيتٌ مفتوح، ونسيجٌ واحد، يتأثّر ويُؤثّر بتجارب بعضه وبتداولها، والانفتاحُ الرسميّ على الخارج –المرتبطةِ دُوَلُنا بمعاهداتٍ دوليّة متعدّدة معه، تستدعي تفاعلها مع هيئاتِه بالصدق والنطق بالحقّ- وكذا الانفتاح الأهلي كمُشارك موازٍ ومراقب فعّال، هما من طبيعة وموجبات هذا العصر.
إنّ مشجب “النفرة إلى الخارج” هي نبرةُ زمنٍ متحجّر، وسائلُ اتّصاله وتواصلِه الجِمال والبغالُ، وبالمكاتيب الورقية والحضورِ الجسماني، وهذا سقطَ اليوم بعولمة الاتّصال، فكلّ المعلومات والبيانات والإحصاءات التي تخصّ الوطن ونظام الدولة -صفوها وكدَرها- تصل العالمَ عبر عالَم الصحافة وفضاء الإنترتيت (إيميل، نشر إلكتروني، منتديات)، فمؤتمراتنا الداخليّة ومُخرَجات جدلنا المحلّي، ومقالات كتّابنا الغيارى، تعرض مشاكل الوطن وآهاتِه وقضاياه، مع أنّ كثيرها ليست مشاكلنا حصريّاً، فمعظم الأنظمة والشعوب مبتلاة بمثلها وبأسوأ منها، بدئاً من تجنيس وتمييز، عمالة وبطالة، غلاء وتدني أجور، شحّة أراضي وأزمة سكانية…إلى الطائفية والقبلية، وتسييس الدين وطأفنة السياسة… فمعظمها يُعرض بعرْض مانشيتات جرائدنا الوطنية والإلكترونية، وتصل لأسماع العالَم ومرائيه، ويقرأها الأجانبُ وسفاراتُ العالَم هنا ويبعثونها كتقارير لدوائرهم العليا، فبالتّالي هي ليست أسرار خاصّة لمخادع “بُعولنا”، بل تتنقل تلقائيّاً للخارج لكون العالَم مفتوحاً، وعبثاً إدانة مَن ينقلها ويتناقلها للخارج!
إنّ سياسات دسّ الأخطاء والتلميع لا تنفع وطننا الكريم ولا نظامنا الرشيد بشيء، بل تُفقد الناس حسّهم الوطني، وثقتهم بنظامهم، وتُفسد أكثر إن قُمعت الأصوات الإصلاحية الناقدة، سواء بهراوة الأمن، أو بقوانين الأمن، لإخراسها عن صراحة إفشاء العيوب.
إنّ قانون “أمن الدولة” و”أمن الدين” شأنُ رجالهما قمع المخالفين ومنع الحرّيات، في حين حرّية القول والصراحة بتعرية الأخطاء والتعدّيات حقّ إنساني وواجبٌ ديني ووطني، لتدعيم مسيرة الصلاح العام وتحفيز الكمال الإنساني الخاصّ، وبدل تكميم أفواه عشّاق التغيير والتطوير، بدل الإسراف على تلميع الصورة، بدل استجلاب خبراء أجانب إداريين واقتصاديّين ليفحصوا الخلل والفشل بنظامنا و”يُهدونا معايبه” فندفع لهم بسخاء، فهذا فحصٌ مجانا يأتي من أهل الوطن الأدرى بشعابه.
إنّ مسئولي الدولة الكرام إن عزموا على إغناء تجربتنا الديمقراطية الفتيّة، وحرصوا على تعزيز مشروعها الإصلاحي، عليهم أن ينظروا لمسألة نقدهم وكشف عيوب سياساتهم كفرصةٍ تعينهم ضدّ أهوائهم وجمودهم، تضغطهم للتطوير والتحسين الجادّ، وليس فرصة لإلهاب ممانعتهم بالتمترس بألاعيب السياسة، وصناعة التدليس والتعتيم بالإعلام، والجور بتجيير موادّ القانون، واستنفار أجهزة الأمن، فهذه ردّة ديمقراطية، وتقويض للمشروع الإصلاحي، وتضييع لفرص التطوير والأمن والتنمية الحقيقة لأوضاع المواطنين والوطن، وإهدار الانتفاع من عقول أهله وخسران ثقتهم.
لن تخشى أنظمتنا الوطنيّة من أيّ معلومةٍ وخبر يُنشر هنا ويُتناقَل هناك إنْ عاشت الشفافية والصدق، خادمةً مخلصةً لرفاه مواطنيها، ولن تُلاحق منتقدًا لأدائها وأخطائها بهراواتها الغليظة، بل ستترنّم: “أحبّ الناس إليّ من أهدى إليّ عيوبي”.