(عليكم بحُسنِ الخُلق فإنّ حُسنَ الخُلق في الجنّة لا محالة).
بينما رسول الله(ص) يمشي اعترضت طريقه امرأةٌ تحبس الطريق، فقيل لها: تنحَّي عن الطريق، فامتنعت قائلة: الطريق عريض، خذوا يميناً أو شمالاً.. فقال(ص): “دعوها فإنّها جبّارة”.
إذا كان “إماطةُ الأذى عن الطريق صدَقة”، ففي حادثة المرأة الجبّارة يبيّن النبي الكريم ومهذّب الأمة، أنّه أحيانا يكون التهذيب ليس بإماطة الجبارين من طريقنا، بل بتوسعة صدرونا للتسامح وتجاوزهم.
ثقافة المرور –ونحن نحتفي بثقافة أسبوع المرور الخليجي- هي رصيد أخلاقي للأمة المتمدّنة، وإنّ إزالة الأذى من الطرقات لبنةٌ في بناء مجتمع الأمن والسلام، ولأنّ “الأمم الأخلاق”، فأكبر حصانة لبقاء أمّة هو بقاء أخلاق أفرادها؛ الأخلاق الاجتماعية التي بُعث (ص) لإتمام مكارمها، وأكّد عليها فعلاً وقولاً.
(الأذى) يأخذ صورًا متعدّدة، ومن صورها العصرية: توقّف الناس بسياراتهم في أيّ مكان يستهويهم دون اعتبار لمن سيتعطّل خلفهم، طالما قضوا رغباتهم ولو كانت دردشة تافهة مع صديق يحتلّ بسيارته الثانية بقيّة الشارع، أذكر جارًا لي كان يركن سيّارته حيثما وقفَتْ، كأنّ سيارته ناقة رسول الله(ص) حيثما برَكت برَكة! فيبرك أحيانابمنتصف الشارع الذي عرضُه ستة أمتار، تاركاً مساحة 2 إلى 3 أمتار عن جدار بيته، كأنه ملتزمٌ بالمسافة الارتدادية التي تفرضها بلديّتنا داخل البيوت!
ظواهر كثيرة في الشارع عنوانها “أذى الطريق”، بعضها ينمّ عن قلّة خبرة، ومعظمُها دواعيه قلّةُ الوعي وعدمُ احترام حقوق الآخرين، القارئ لديه حتماً شواهد وقصص كثيرة، فالأبواق المزعجة مع كلّ فجر أمام البيوت تعجيلاً لخروج تلميذ وطفل، تجاوز مسارات الآخرين عنوة، لؤم البعض و”نحاسته” لرفض تجاوز الآخرين له ولو تسبّب بحادث تصادم، الشباب وسرعتُهم الطائشة في الأماكن السكنية المزدحمة، وبعضُهم يسوق ناقلات الأطفال، يسوقونها وكأنّهم بمهمّةٍ عسكرية جنوبَ لبنان، الفتياتُ عديمات الخبرة ومع هذا تراهنّ مشغولات بأحاديث الموبايل يُضِفْنها لسياقتهم الرعناء، الأصوات المنبعثة لموسيقى صاخبة أو لطميّات صاخبة، كلها وأشباهها “أذى في الطريق”.
أذكر عصبيّة أبي (عليه الرحمة)، والعصبيةُ بأوطاننا أمرٌ اعتيادي للمطحونين في أرزاقهم، ممّن يكدحون كالحمير صبح مساء ليعيلوا أسرة كبيرة منحشرة ببيت ضيّق ذي غرفتين، غيظُهم يتمّ التنفيس به وقت الخنقة والزحمة والحرّ، بالأخصّ زحمة المرور والمطبّات والتحويلات والحفريّات والردميّات، فذلك وحده سببٌ كافٍ لانفلات الأعصاب وتلفها، إذ قديمًا كان “الحمار” خارج العربة يجرّها، الآن وُضعت حميرٌ كثيرةٌ داخل العربة ليكونوا هم السوّاق.. فأذكر عصبيّة أبي في معارك السير، وإذا ناكفه أحدٌ فبدلاً من تجاوزه عنه، يُعلن كلمته المشهورة “دعوني أربّيه، ملعون الوالدين”، بمعنى أنه سيبدأ معركة العناد معه، وهو أمرٌ يبدو كأنّه تنفيسٌ مفيد، لكنّه على العكس يفاقم العصبية، ويُفسد الأخلاق، ويُنهك البدن.
كثيرون بدل أن يتسامحوا ويتجاوزوا رعونات الآخرين فيكظموا أنفسهم عن دخول صراع الجبابرة المنشّط لنزعة جبروتهم، يريدون غصباً أن يربّوا الطرف الآخر الجاهل/المزعج/المعاند.. بهذا تتفاقم احتقانات الشارع وتزيد الأخطار و”أذى الطريق”.
أذكر شابّا نزقاً كان يسير ببطء شديد بالمسار السريع (الأيسر)، وظللت وراءه مدّةً متحمّلا عجرفته وأنا في عجلة من أمري (كعادتي!)، أعطيتُه الإشارات المتعارفة بالتحوّل للمسار الأبطأ.. فلم يكترث، اضطررتُ أن أتحرّك أنا للمسار الأيمن لتجاوزه، عندها زاد سرعته ليمنع تجاوزي، فقلتُ: حسنًا “هذا ما أبغي”، فرجعتُ وراءه، لكنه أعاد الكرة وبطّأ لأدنى سرعة ممكنةٍ لإغاظتي، وحينما حاولت مجدّداً الانتقال للمسار الآخر لتجاوزه أعاد كرّة الإسراع..وهكذا، كانت عبارة “دعوني أربّيه ملعون الوالدين” تتراءى لي كقرنيْ شيطان، لكنّي خزيت إبليس قائلا: “دعوه فإنّه جبّار”، حتى افترق دربُه عن دربي، شاب غرّ يظنّ الشارع مسلسل “توم وجيري” للكرّ والفرّ، وأنّه ميدان بطولات وهميّة قد تتلف عمر أبرياء بلحظة غرور، وأشباهه كثيرٌ هم “أذى في الطريق”.
مرّةً رأيت عجباً؛ سيّارتين تقفان مليّاً قبالَ بعضهما.. وبداخلهما السائقان، (مثلَ ذكَريْ سنّورين على وشك المعركة)، كان المطلوب تراجعَ أحدهما بضعةَ أقدام ليسمح للآخر بالمرور، لكنْ يبدو أنّهما دخلا مرحلة صراع الديَكة، واستلم “المخّ القديم” زمام الأمر!
أعزّ أصدقائي الظرفاء له طرفةٌ بهذا الشأن، فيحكي أنّ أيام شبابه وبسيّارته “السوزوكي” ذات الدفع رباعي العجلات، دخل زقاقا، فإذا بسيارة شابّ آخر تعترضه، وكأفلام الكابوي، تواجه البطلان، وظلّ كلّ منهما يُحدّق بعين الآخر ويتقدّم ببطء حتى التحمتْ مقدّمتا سيّارتيهما، ثمّ بدءا معاً بضغط دواسة البنزين في مسابقة دفع، والعجلات تصهل بشدّة، دفع صديقي بسيّارته سيارة ذلك الشابّ وطرحها خارج الزقاق، غمز الشابُّ صديقي بعينِه رافعاً إبهامه نحوه، كعلامة تشجيع وتسليم -بروح رياضية- لانتصاره، واعترافاً بأفضليّة سيّارته!
هذه الفكاهة البريئة، تحوّلت اليوم إلى نعرات تطبع سلوكنا بأحاسيس مغرورة وكأنّنا نملك الشارع، كما ملك كبارُنا الوطن، الدين، المذهب، والناس، مسلسل الغطرسة يتسلسل.. ويُعطينا الحقّ (الزائف) بإزاحة الآخرين عن الشارع وتعطيلهم متى شئنا!.
إنّ اكتظاظ الشوارع بالسيارات وبألوان النفسيات عليه أن يحفّزنا لمزيد من الوعي لاحترام حقوق بعضنا، ولإدارة أماننا وانسيابنا بأخلاق التعاون والتسامح والانتظام.