“العمّال والخدَم”.. ورشةٌ للباحثين عن ضمير

“زيدُ بن حارثة” تخطفه عصاباتُ المتاجرة بالبشر من يد والدتِه بإحدى القوافل، ويببعونه بسوق عكاظ للنخاسة بسنّ ثماني سنين، يُشتُرى ويُهدى لخديجة، فيُربّيه محمّد(ص)،… بعد سنين، يجيء أبوه المفجوعُ وعمّه يتوسّلان محمّداً(ص) لإعادة ابنهما ويفديانه بمالٍ عظيم، الحبيبُ محمّدٌ(ص) يرفض المال ويعرض عليهما –بدلاً- تخيير زيدٍ نفسهِ، فيُوافقان… فيقول محمد(ص) لزيد: إني أخيّرك بين أن تذهب مع أبيك وعمّك وبين أن تبقى معي. فيُجيب: بل أبقى معك ما حييتُ. فيُعنِّفه أبوه: ويحك زيد.. أتختار “العبودية” على أبيك وعمّك؟! يُجيبه: نعم، قد رأيت مِن هذا الرجل ما لا أختار عليه أحداً، ولقد كان لي نعمَ الأب والعمّ! عندها.. يُعتقه النبيّ(ص) ويُناديه بابنه، فيقرّ بالُ الأب والعمّ.

حرص النبي(ص) على صيانة كرامة “العبيد”/الخدَم، فيُوصي: (هم إخوانُكم، فمَن كان تحت يدِه فليُطعمه ممّا يأكل، وليُلبسه مما يلبس، ولا تكلّفوهم ما يغلبهم، فإنْ كلّفتموهم فأعينوهم)، وأمَر بإحسان “تأديبهم” و”تعليمهم”، ثمّ كرّس ثقافة تصحيح المفاهيم: “لا يقلْ أحدُكم عبدي ولا أمَتي، ولكن ليقلْ فتاي وفتاتي”، ثم طوّرَها ليُنادَى واحدُهم: “أمة الله” و”عبدالله”، وسهّل إجراءات عتقهم، ومعونتهم ماليّا، ليُصبح توصيفهم أخيراً: “المولى”، “الأجير” و”الخادم”. فما هو إسقاطُ وانعكاسُ هذه القيَم على عصرنا؟!

يحتفي العالم بشهرنا (مايو) بعيد “العمّال”، تذكيرًا بحقّ العمّال في الاحترام الإنساني والعدالة، بما يعنيه من تحسين أوضاعهم وأجورهم، وبكلّ ما يستلزمه من جهاد، سواء بنصب آليّاتٍ و”تشريعاتٍ” وتشكيل نقابات، أو بتغيير” ثقافات” تُحسّن “الضمير” الإنساني.. وبالأخصّ ضمير “السادة” أرباب وربّات العمل.

قدّس الدينُ “العمل” وبغَض الكسل، لدرجة تقبيل النبي(ص) يد “العامل”، وإنبائه بأنّ الله يحبّ تلك اليد الشريفة، التي تزرع وتبني وتغزل وتربّي وتشيّد المدنيّة والحضارة.. وتجلب الرفاه، والدّينُ إذا قدّس أمرًا فمحالٌ أن يدَعه مهضومَ الحقّ، بل سيشيّد أسباب حفظه، تحت جناحيْ: “الضمير” و”القانون”، بالتهذيب “الثقافي” والتطوّر “التشريعي”.

تبرز مسألة “العبيد” تاريخيّاً كأسوأ وجه لنظام السُّخْرة (العمل)، نتيجةَ ظروفٍ بائسة حطّت بالعقل وبالاجتماع مرّت بها البشرية.. مِنْ سبي حروب، وخطف، واسترقاق المَدين والغارم، لذلك اهتمّ بمسألة الحقوق ونحى لتحرير العبيد بطريقة إنسانية تغييريّة تعمل بعقائد الأنفس وأفكارها ومشاعرها، بإعادة تعريف “العبيد” كـ”خَدَم وأُجرَاء”، و”كإخوة” إنسانيّين لهم حقوقهم المكافئة والمصونة، مؤسّساً لحرمة ظلمهم.. وامتهان كرامتهم.. وأكل مالهم وجهدهم، ونادباً لتأهيلهم للحرّية، وتزويجهم، ومكاتبتهم، ومركّزاً مفهوم “تحرير-رقبة”/”فكّ-رقبة”.. كمستحضر حيويّ ومُعالِج عبادي للخطايا وكفّاراتها، بل جعل كفّارة إيذاء المملوك عتقَه وإغناءه، وحرّم -بسلطان الدين- الأدوات الخصبة لأكل حقوق “العمّال” و”استعبادهم” تحت وطأة الحاجة: كالربا، والظلم، والخطف، والتطفيف، وبخس الناس أشياءهم، وإضرار الغارمين.

الإسلامُ إذاً لم يشرّع الرقّ كما شرّعته الأمم الأخرى فجعلته نظامًا طبيعيا.. وإلهيًّا، وإنما شرّع العتق ورغّب فيه، جاعلاً الناس يتقرّبون لله بعتق عبيدهم. إلاّ أنّ دول السلاطين المتعاقبة باسم الإسلام مسخت روح الدين، حافظت على القشر وأفرغت اللبّ، فأكثرت من السبي، وتكديس الرقيق والمماليك، وخدَم القصور والجواري.. وأعادت الصبغة الجاهليّة.

إنّنا ولأجل الاحتفاء الحقيقي “بالعمّال” بدَل مجرّد إهدائهم “وردة”، علينا تغيير ما بأنفسنا وطباعنا تجاه “الخَدم” لا أقلّ، عملاً بقيَم الدين التي أرساها سيّدُ البشريّة محمّد(ص)، وخيراً تلك المبادرة التي (أَطلقتْ في بيروت سلسلةَ كتب أطفال للتوعية باحترام خدم المنازل، الذين يُقدّر عددهم بنحو 200 ألف.. حيث غالبا ما يتمّ تجاهل حقوقهم وتساء معاملتهم) ، لتعليم ناشئة لبنان احترام ثقافات (الفلبين، سيلان، أثيوبيا)، فيُدركوا سواسية الخدَم إنسانياً، ويشعروا باحترامهم.

أيُّنا يُفكّر بحبٍّ بترجمةِ وصايا نبيّنا(ص) في أُجَرَائنا وخدَمنا (عُمّالنا)؟!فيكون لهم كالأب والعمّ بدل “استعبادهم”؟ أيُّنا يستقطبهم ويهديهم بمناسباتهم؟ يتعرّف على أحوالهم.. ومشاعرهم.. ومشاكلهم؟ يُتيح لهم فرصاً لتطوّرهم وتعليمهم (كتابة/علوم/مهارات تقنية وحياتيّة)؟ يُوفّر لهم كتباً بلُغتهم ممّا يحبّون (وليست كتباً تبشيرية دينيّة كما فعل جنود الأمريكان بأفغانستان!)؟

أيّنا ينفّذ وصاياه(ص): أن نُلبسهم ممّا نلبس، ونُؤاكلهم ونُجالسهم؟ ألاّ نبهظهم بالمشاقّ، ونمنحهم وقتاً للراحة والتعطيل؟ أن نهبهم فوائض ما لدينا يرسلونه لأهليهم المحتاجين؟ ألاّ نُسيء معاملتهم ونُهينهم بالصراخ والضرب وبالشتائم العنصريّة،وألاّ نتساهل بتعويد أبنائنا أيضًا على إهانتهم بالكلمات الجارحة والاستعلائية والمطالب السخيفة، فهذا فوق أنه ظلمٌ فهو يُفسد أبناءنا وأخلاقَهم واستقامتهم، ويُميت “ضمائرهم” وإنسانيّتهم.

علينا مسئوليّة وقاية “خدَمنا” من الانحراف فهم أمانة بأيدينا كأبنائنا، علينا التيقّن أنّهم بشرٌ مثلنا أحوجَهم لخدمتنا عوزُهم، لنعمةٍ فاضت علينا وشحّت عنهم.. وكان يُمكن العكس. وجودُهم بيننا فرصةٌ لنُنعش “ضمائرنا”.. ونختبر أخلاقنا وإنسانيّتنا، وفي المنظور الكوني: (كيفما نكون معهم.. يُولّى علينا)، ومَن يُطالعهم باستعلائية ودونية، ويعاملهم بشراسةٍ وبحرمان، فسيُسلب الرحمة، وله يومٌ ستكون الدائرةُ عليه.

إنسانيّتُنا وأخلاقُنا هي ملاذُنا الأخير من نُذر المستقبل، هي التي تشدّ لحمتنا المجتمعية وتعطّفنا مع أجناس الناس، وفي الأثَر: “ارحموا مَن في الأرض يرحمكم من في السماء”.

“الضمير” و”التشريع” صنوان نحتاجهما؛ الأوّل لتطوّرنا فرديّاً، والثاني لتعايشنا حضاريّاً، المُطالبة بالثاني إنّما لسدّ نقص الأوّل فينا وليس بديلا عنه، بل أنّ الاستغناء بالثاني وحده.. يُفاقم همجيّتنا ويجعل مِن التحايل على القانون.. شريعةً أخرى موازيةً لشريعة القانون، تتعايش معها وتنقضها، كما هو المُشاهَد!

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة