نبارك لأمتنا ولأوطاننا عيد فطرهم الثلاثاء والأربعاء والخميس، وفق اختلاف مبانيهم الفقهية، ونأسف أنّه مع انفضاض شهر التربية ونفحات السلام، انشجر لنا أمران ينكآن الجراح، نُسجّل موقفنا منهما بإيجاز:
أمرٌ أقلّ أهميّة، تبدّى بخطاب تقليدي لأحد مشايخ بلدنا لمرجعيّة فقهية تجديديّةمستنكرًا اجتهادها خارج مألوفه، ومخالفتها إجماع الأمة بحسبه، باعتمادها علم الفلك ووحدة كونيّة الهلال، وتثبيتها الثلاثاء عيداً، وتشديده النكير بغلط اجتهادها، ووعيده لمَن أفطر وفقَها كأنه ارتكب أشدّ الموبقات والاستهتار بالحرمات!
الأمر الثاني وهو الأهمّ؛ بانفتاق شجارٍ علنيّ مشخصن بين أقطاب التقريب بين المذهبين، ممّن لهم فضلٌ بتبليغ الدين وعلاج شبهاته ومواجهة موجات التطرّف والغلوّ، إلا أنّهم تعثّروا أخيراً بفخّ تبديدالأمّة، نتيجة عقائد تسكن صدور/عقليّات معظم (علماء) المذاهب، مادّتها ذاك الكمّ المدفون بالكتب من سموم وأغاليط/ خرابيط& -بحسب السيد فضل الله- عن الآخر، ومحاولة إعادة نبشها لتأخذ صدارتها، ومنها عقيدة الفرقة الناجية البالية التي تستدعي التبشير ومضادّاته، ومزاعم أحقّية الكثرة ومذهب الجماعة، ومشروعيّة أوصاف البدعة والضلالة، وأسوأها التكفير الذي نُبرّئ منه ساحة المتساجلين الأفاضل، لكنّ أتباعهم إذا هاجوا سيجعلونه أهونَ أحكامهم وتوصيفاتهم للآخر!
ملاحظاتي التي تستقرئ البنية الخفيّة للتراشق الخطابي المحتقن -وأرجو ألا تُحسب تطاولاً بل نقداً لمناهج ولأخلاقيّات التعامل، ولأنّ الدين النصيحة هي كالتالي:
1- النموذجان المحلّي والإقليمي يطبعهما عقلية الانغلاق على ما في اليد، التي تتمظهر احتكاراً للحقيقة وللتمثيل الإلهي ولخطّ الشرعيّة، بالوصاية على الدين وملكيّة تفسير نصوصه، وبادّعاء الفرقة الناجية، فنحن متشبّثون بقلاعنا الفكرية المذهبيّة، ونرى عقيدة الآخر واجتهاده بدعةً/ضلالةً/خروجًا على إجماع الأمة وجماعتها وربما كفراً، يعني أنّ صنميّة التقليد المضادة للتجديد تثقل عقولنا وتشدّها للخلف وللجمود.
2- إنّ العلم/الفقه ليس بالضرورة أن ينتج وعيا وأخلاقاً (فربّ عالم قتله جهلُه وعلمُه معه لا ينفعه)، وهذا ليس حكما على المتساجلين بافتقادهم لهذا، بل هم معروفون بالأخلاق والتسامح، لكنّه تقريرٌ أنّنا قابلون -بعقائدنا الموروثة وبالمعطيات الصحيحة/والمضلّلة وبالاستفزازات- أن ننفجر خارج إطار وعينا المُحكم، وأخلاقنا العالية، وغاياتنا النبيلة، ظنّا أنّنا نُنافح عن ديننا/مذهبنا.
3- نحن لا نتقبّل اختلاف الآخرين وتعبيرهم عن رأيهم بقبول حسن، ونتّجه دائما للردّ بالتجريح الشخصي والاتّهام بالعمالة للصهيونية والاستكبار، أو بالغزو والتمدّد لإشاعة الضلالة، وننسف كلّ علائق الودّ والقربى والتاريخ الجهادي والعلمي لبعضنا، فقط لأنّ الآخر -في أسوأ تقدير- أساء تقدير المرحلة، أو أساء التعبير عن هواجسه بصراحة وبهيجان زائد.
4- إنّ إذاعةً بإيران لا تمثّل إيران، وأنّ تصريحات زعيم سنّي لا تمثّل السنة، وأن أخطاء شخصية شيعية حاضرة أم غابرة ليست وزراً لكلّ الشيعة، هذا التعميم وجدناه حاضراً بقوّة في السجال التمزيقي، فالكلّ يتكلّم باسم عموم طائفتي الشيعة والسنة، (سواء كان تبشيرا مذهبيا مارسه أشخاص فعُمّم وزره الجميع، أم مجرّد تغيّر قناعات وتحوّلات بين مذاهب) أو (عقيدة فرقة ناجية تعتقدها نخبٌ وفئات ويُراد نسبتها للجميع) أو (قول بائد لشخص منقرض بتحريف القرآن، تُؤخذ العامة به مع عدم معرفتها بقوله، لولا أن يُنبش ويُروّج)، هذه التعميمات تُوقد معارك لا شأن لعموم الشيعة والسنّة بها، فقط لأنّ عالمين تقريبيّين فتحا النار على بعضهما باسم العموم، فيُستثار المهتاجون، ويدفع الثمن عمومُ المغلوبين!
5- ما زلنا نجترّ سجالات ومفردات عقيمة كان ينبغي أن تُقبر أو تُدار برحابة بالأروقة الخفيّة الخلفية بدل بثّها للعامة، دون وعي أنّ هذا يفجّر كوامن الضغائن ويُفسد التقريب والتأليف بين شرائح الأمة.
6- يكفينا إيقادُ أعدائنا بمكائدهم ومطامعهم الفتنَ فينا، ويكفينا تشنّجات الطائفية السياسية سببًا وغايات، فلا نحتاج لضخّ المزيد من الشحنات فيها بخصومات وهواجس مذهبية، واستحضار مفخّخات التاريخ الاحترابيّ البائس.
7- إنّ عقيدة الاصطفاء (الفرقة الناجية) هي التي تجعل طرفاً يبشّر بمذهبه لدى آخر تبشيراً مؤسّسياً(وليس شخصيا وحواريا)، وهي نفسها تجعل الآخر يغضب إن خرج من مذهبه فردٌ وتسلّل بقناعته لمذهب آخر، أي أنّنا سواءً صرّحنا أو كتمنا، نرى المذهب الآخر ضالاً/كافراً لا يجوز اعتناقه والتعبّد به، ولن نرى الآخر مسلماً وناجياً، إلا بتركنا غرور هذه العقيدة اليهوديّة الدخيلة بأنّ الفرقة الأخرى ليستْ على شيء، وتصحيح أعمال المذاهب وعباداتهم واختياراتهم لنعيش أخوّة الدين الواحد، وهذا أمرٌ -لو بلغناه- سيرينا سخف التبشير، وسخف غضبنا لتحوّل أحدٍ عن مذهبه، وسخف عبارات المذهب
الشيعي الصحيح&، المذهب السنّي الحقّ..الخ.
8- إنّ فكرة التقريب بين المذاهب مع إيجابيّتها، وخدمت الأمّة كثيراً، إلاّ أنّنا بحاجة الآن لأحد أمور:
أ- إعلاء الإسلام فوق المذاهب، بلا حاجة للتقريب بينها، بل إبراز المشترك بينها من عقائد ثابتة، وأخلاقيّات سمحة، وشرائع عدل، ومقاصد رحمة، وهي جوهر الإسلام الفعلي، وترك باقي المساحات والتفاصيل للاختلاف غير المضرّ، وعدم تسييج المذهب على أتباعه كالقطيع لئلاّ يفلت أحدها!
ب- تأسيس منهج أخلاقي، يتيح لنا إعذار الآخر، وحبّه، والتعاون معه، وعدم تكفيره/تبديعه/تضليله/تفسيقه
لأيّ اجتهاد منه شخصيّ، مذهبيّ، أو اختلاف عقائدي.
ج- التقريب بين أتباع المذاهب بدل المذاهب، ولا يكون ذلك إلا بإيجاد ثقافة حقيقية تُوجب التواصل والتعاون، وتزيح من اعتقاداتنا كلّ اللوثات المنفّرة عن الآخر، تحرّم فينا جهالات سبّ ولعن مقدّساته (كالصحابة) والهزء برموزه، ثقافة تستحيي نبش الكتب البائدة واجترار مساوئها وتوتيراتها وجهالاتها والتحريض بها، وتترفّع عن طرح نفسها لأتباعها بأنها وحدها تمثّل الدين الصحيح والمذهب الحقّ والباقي للنار وللشنار، بل تعمّق لدى الأتباع قاعدة التفكير الحرّ والتسامح واللاتشدّد وعدم الفرح بما في اليد، وتؤكّد حقّ الآخر؛ المسلم، والجار، والإنسان، والقريب والبعيد، والمواطن..مهما كانت عقائده ومذاهبه، وتشغل أتباعها دائماً (وليس فقط غالبًا)، بقضايا رفعة الأمة وإلفتها وتهذيب أخلاقها، ومكافحة الجهل والفقر والتخلّف والفساد والاستبداد، وبمجابهة أعدائها الغزاة وغطرسة المحتلين.