انعتاقاً من أكوام المذاهب بمتاريسها، واحترابات الطوائف واحتقاناتها وتكفيراتها وشراستها، لنستبصر مفهوم (الكفر) قرآنيا وعلى هدي السيرة الشريفة، وذلك قبل أن تؤصّل كلّ مدرسة (للكفر) معنى (شرعيا)، ليتوسّع بحسب منظورها للأمور، فمدرسة ترى عدالة الصحابة من الإيمان، وأخرى ترى عصمة آل البيت، وقد يكفر من لا يرى ذلك، والبعض أدخل أموراً أخرى يُكفّر غيره عليها، ولأنّهم أجروا أحكاماً أخرى مرهونة بهذا التأسيس من إسقاط حرمة، وعدم موالاة، وتنجيس، وعدم تزاوج وتعاشر بالحسنى، وربما القتل كالذي نشهده حاليّاً، فأعطت الممارسة العنيفة حفزاً لتجذير تلك المفهومات (المذهبية) المتشدّدة، لكنْ لا (القرآنية والمحمّدية).
مع أنّ كلّ ما مزّق الأمّة وفرّق فرقها، وحزّب أحزابها، وقطّع أواصرها، وكفّر أبعاضها، ليس من دين الله بل هو من مذاهب الرجال، والساسة.
قرآن الله، ووصايا نبيّه (ص)، ووصايا أهل بيته (ع)، وسيرة أصحابه (رض)، تقول هذا، فلا يكفر من لا يرى عدالة صحابي، ولا يكفر من لا يرى إمامة الآل، وإلاّ كانت الملايين من الأمّة كفّاراً، وعُدنا نضرب رقاب بعضنا. وهذا لا يعني إنكارنا على المعتقِد بعدالة أو عصمة أحد، وطلبنا تغيير اعتقاده، والتعدّي عليه والتجاوز بإهانة مقدّساته، فحريّة الاعتقاد مقدسة، واحترام الآخر واجب، بل لا ينبغي تكفير الآخر (دينيًا) وهو يشهد الشهادتين ويؤمن بأصول الدين، فقط لعدم قناعته بتلك الأمور الخاصّة بالمذاهب، وترتيب أحكام قهرية جرّاء ذلك، فهذا اعتداء على الآخر منافٍ لحرية التفكير ولقاعدة عدم الإكراه.

هناك كلمة (كفْر) استخدمها القرآن، الذي جاء بلسان عربي مبين، وتعني ما عنته في العربيّة، وهو تغطية الشيء وعدم رؤيته، وظلّ هذا المعنى في اللغات (Cover) بمعنى غطاء، والأرض المغطّاة بالزروع (كفْر).
(فالكفر) حُكمٌ بحسب موضوعه ولا ينتقل لغيره، فهناك كافرٌ بعصمة الآل (أي منكر) لأنّه لم يرَ دليل عصمتهم، وكافر بعدالة الصحابة لأنه لم ير دليل عدالة جميعهم، ولكنّهما غير كافرين بالنبيّ (ص)، وإلاّ كفّرنا بهذا حتّى الصحابة لأنّهم تقاتلوا، وكفّرنا أكثر أئمّة المسلمين لعدم اعتقادهم بعصمة وإمامة غير النبيّ (ص).
وهناك كافر بنبوّة النبي (ص)، من مسيحيّين ويهود وغيرهم، لأنّهم لم يصل لهم دليلها، ولكنّهم غير كُفّار بالله، بل أنّ مشركي العهد الأوّل كانوا كافرين بالنبيّ لا بالله.
وهناك كافر بوحدانية الإله، غير كافر بوجوده، كبعض المسيحيين كما بينته الآية (لقد كفر الذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة) وكالمشركين مع الله أرباباً: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)، وأقوام غيرُهم.

لكنْ ما يُؤاخذ الله به هو (ما وقَر في القلب) وما وصل لعقل المرء مِن حجّة فرفضها أو استهان بها وتلهّى عنها، وهذا هو (الإسلام) لله، وهو الدين الذي لا يقبل الله غيره، مهما كان اسمُه بعدئذ، وانتسب لأيّ نبيّ كريم، وهو الإيمان قلباً بالله الواحد الأعلى (وهذا شيء فطريّ) أي الإيمان بقوّة مجهولة عليا مسيطرة على الوجود وأنّها تراقبنا وستحاسبنا إذا كنا أخيارًا أو أشراراً، وبناءً عليه يصدر منّا (العملُ الصالح)، لذلك كان شرط القرآن العامّ (آمن وعملَ صالحاً).
فكل أحكام التنجيس والتكفير (الاجتماعية والسياسية والمذهبيّة) إنّما هي أحكام تاريخيّة ومرحلية تخصّ أقواماً بخصوصهم نتيجة صراعاتهم مع (كفر) بقضايا محدودة، أكان أطلقها نبيّ أو مجتهد أو غيره من علماء طوائف، صراعات قد تصل إلى قمتها (كفر بالله) أو إلى ما دونها (كفر بنبوة، بعصمة، بعدالة، بشرعة، بتفصيل صغير، بزعامة رجل ..)، ولسنا ملزمين إلاّ بما ينطبق على عصرنا وبما لزمته الحجّة والبرهان.
فالله لا يحاسب الناس كمًّا، بل كيفاً، وكلّ فرد يُحاسب بمقدار ما جاء إلى أمّته وتوفّر له شخصياً من علم، فيُحاسب على تقصيره في عدم البحث عن علم توفّر في زمانه، ويُحاسب بعدم عمله بالعلم الذي حازه، لا أكثر، وجاء في هذا قرآنٌ ومرويّات.
فهذه نقطة جوهرية، الكافر كافر عند الله، لا عندنا، والله وحدَه يُحاسبه على كفره، لأنّه الأعلم بعقيدته وبما توفّر له من برهان خالفه.
والكافر بمحمد (ص) هو غير الكافر بالله، والكافر بالوحدانية غير الكافر بالوجود، ولن يُحاسب الله أحدا إلاّ بعد إتمام حجّته عليه.
وكلّ ألوان (الكفر) في نظر أيٍّ كان فتُعامَل بالتحاور والجدال الحسن، لتكون القناعة ذاتيّة، وليس من مسئوليّة أحد جبر آخر بإيمان على أحدها، ولا ممارسة القوّة لتعديل رأيِه وتبديله.

هناك (كفرٌ) واحد فقط من مسئولية الناس (مجتمعاً ودولة) أن يُحاسب عليه ويتصدّى له، هو الكفر بالقيم الإنسانية؛ قيَم التعايش والسلام، وهو (الظلم)، وهو الذي ينبغي مقارعته بما تيسّر لانتهاض الإنسانية، ولهذا جاءت شرائع الله (فلا عدوان إلاّ على الظالمين) أي منتهكي قانون (الحرّيات والحقوق)، فالكافر بحقوق الغير المعتدي عليها هو الذي ينبغي محاسبته فقط والتصدّي له للحفاظ على الوجود الإنساني وسلمه الاجتماعي، الأمر الذي سمّاه القرآن (الظلم)، فالظلم هو (الكفر) بحق الآخر في الوجود وما دونه، الكفر بحقّه فيما كلّ الناس فيه شركاء.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة