لأنّ ثقافتنا غير حقوقية، ومغرقة بالوصائية، لابدّ من وقوع التباسٍ لأناس، فحديثي ينطلق من بُنية أخرى تنكر شرعية الحرب الدينية، وكلّ حرب سوّغتها نصوصُ الدين فهي حروب “حقوقية” ضدّ الظلم، أي (لتملأ الأرض قسطا وعدلاً)، ولا علاقة لها بعقائد الناس، (لا إكراهَ في الدّين)، فلم تتمزّق الأمّة شيعاً إلا حين وُظّفت العقائد لإيقاد العداوات، ولُويَت نصوصها لاختلاق فتاوى تكفير المفكّرين وإيذاء المخالفين، لذلك لا أتوقّع ممّن يسكن صندوق الوصائيّة أن يتفهّم، لكن ثمّة قلوب متعطّشة للحقّ والحرّية والعدل والمساواة، تريد أوبة دينٍ ثوابتُه أنّ (الله لا يحبّ المعتدين) مهما كان وشاحهم المذهبي.
البعض ما يزال يتكلّم منبريّاً وإعلامياً وكأنّه بمأتم بيته الخاصّ، فليس المساجد والمنابر وحدَها ينبغي أنسنتها لتُصبح “لله” وحده، بل الذهنيّة المذهبيّة ينبغي تنقيتها أيضاً من تسوّل فتاوى استباحة مخالفيها “حتى لا تكونَ فتنةٌ ويكونَ الدينُ لله”، وكلّ نصّ يُدّعى سماويّته ويُوجب استباحة الأبرياء والمخالفين الفكريّين فهو مزوّر كائنًا الكتاب السماوي الضامّ له، فما بالك بفتاوي بشر؟! فالله لا يظلم ولا يحبّ الظالمين، والشرائع ليست اعتباطية إنما معلّلة بالقبح والحسن العقليّين، الشريعة سجلّ حقوق، وليست مسائل طهارة وتفاصيل شكليّة، الإسلام دين الحقّ/(الحقوق)، ومولانا عليّ(ع) داعية حقوق، وما عبارة أنّه (يدورُ مع الحقّ حيثما دار) -أكان الحقّ لِواليه أم لامرأةٍ عارضته- إلاّ نهجاً حقوقيا ينبغي تمثّله، والمؤسّسات الحقوقية تمثّله حين تقف مع أيّ ذي حقّ ضدّ أيّ انتهاك، مؤمناً أم ملحداً.
وأهل البيت(ع) دعاة حقوق، انظروا رسالة الحقوق لزين العابدين(ع)، وتدبّروا دعاءه ليوم الاثنين، إنّه برنامجنا العمليّ “للتوبة” الرمضانيّة، وللتحلّل من عدوانيّتنا، لنصنع سلامنا المجتمعي: (اللهمّ..وأيّما عبد من عبيدك، أو أمَةٍ من إمائك، كانت له قِبَلي مظلمةٌ، ظلمتها إيّاه في نفسه، أو في عرضه، أو في ماله، أو في أهله وولده، أو غِيبة اغتبتُه بها، أو تحاملٌ عليه بميلٍ أو هوى، أو أنفةٍٍ، أو حميّةٍ، أو رياءٍ، أو عصبيّةٍ، غائباً كان أو شاهداً..الخ) نظام “حقوقيّ” لا تتعدّاه فتوى، هو الفارز الوحيد لإنسانيّتنا، وقد ثبّت الله مثيله “الأخلاقي” بفطرتنا، وذكّرت وصايا الشرع به؛ (لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تكذب..الخ)، هو فوق تفصيلات الأديان وحاكمٌ لها، والنبيّ(ص) بُعث لإتمام مكارمِه.
فأيّ نصّ وفتوى تدعو لقتل مختلفٍ، لرميه بالزنا، لظلمه، لبهتانه وشتمه، لتجاوز حقوقه، فهي فتوى ساقطة تعبّر عن سقوط البناء الثقافي والحقوقيّ لمستفتيها، ومغادرته تلقائيّاً نهج أهل البيت(ع) المظلومين (لا الظالمين)، لأنّه خالف أثبت ثوابت الدين، أمّا إذا جعلنا الفتوى، فوق ثوابت الأخلاق/الحقوق، فقد وقعنا بزمرة من يقرأ القرآن ولا يجاوز تراقيهم، ويصلّي ولا تنهاهم صلاتهم عن فحشاء ومنكر، فقد أزرى تعالى بعوام اليهود حين اتّخذوا أحبارهم أربابًا دون الله، حين رأوهم يحملون التوراة ونصوصها ورواياتها وشرائعها لكنهم يتعطّشون للتسلّط ولوجاهة الدنيا، فيكذبون ويدْعون للقتل ولاستباحة خصومهم الأغيار ويقولون “ليس علينا في الأمّيين(الآخر الاعتقاديّ) سبيل”، ويظلمون المرأة، ويستعبدون الناس، ويسلبون أموالهم بالربا والسحت، فما فائدة علم دينٍ وأزيائه وطقوسه إذا انهارَ نظامُنا الأخلاقي/الحقوقيّ وتركنا إنصاف منْ شنئناهم؟!
إنّ الدولة الدينيّة لا شرعيّة لها، بل الدولة العادلة فقط؛ دولة المساواة المدنية ذات الشراكة الوطنيّة التعاقدية، لا دولة تُدار من “النجف” فوق الدستور والقوانين! فالخوارج سلبوا دوْر المجتمع/الإنسان في التشريع والحكم وقالوا بحاكمية الله وردّ مولى المتّقين(ع) عليهم: ” “كلمة حقٍ يُراد بها باطلٌ، نعم إنّه لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلا لله، وإنه لابدّ للناس من أمير برٍّ أو فاجرٍ، يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويُجمع به الفيء، ويُقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي، حتى يستريح برٌ ويستراح من فاجرٍ”، فالدولة عند عليّ(ع) دولة قانون وحقوق وشراكة وأمن للمؤمن والكافر!
وشعار “خطّ الفقهاء” و”حاكميّتهم” وأنّ “الردّ عليهم ردّ على الله”، شعارٌ دعائي لقتل حرّية الضمير وحرّية التعبير، للوصاية والتحشيد السياسي والاجتماعي ضدّ خصوم سياسيّين وأغيار حزبيّين، فالفقهاء مرَّ التاريخ يختلفون، وهذا فريضةُ كونهم مجتهدين أحراراً، ورؤيتهم السياسية والفكريّة ليست واحدة، بل ربّما جنح بعضهم ففسّق أنداده، وأتباعهم يتصارعون وربّما يتشاتمون، الفقيه غير معصوم، تحكمه بشريته ويجتهد وفق أفقه، فطبيعي أن تغلو بعنفها بعضُ فتاواه عن الاتزان لتستبيح حتى فقيهًا مثلَه، لذلك ورد بالمروي المجيز اتّباع الفقيه العادل المأمون “مَن كان مِن الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا لهواه.. فللعوام أن يقلّدوه”، ولسان الرواية يجعل مهمّة مراقبة الفقيه مسئوليّة الناس الواعين لئلا يتّبعوه بعمًى فيكونوا عبدوه وقدّسوه دون “الحقّ” تعالى، بل مفهومها يقول ليس كلّ فقيه “صائنًا لنفسه” عن الضغائن والانزلاق، “حافظا لدينه” من بيْعه للجمهور وللسلطة وللوجاهة وللمنافع الشخصية، “مخالفا لهواه” عن تحكّمه بقراراته وتوريطه أتباعه وزجّهم بأتون معارك رغائبه ومخاوفه المتغلّفة بالشرع، لذلك ورد بالغ التحذير من علماء السوء، المغادرين منهاج السلام، والمخالفين شرعة “الحقوق” ومنهجها الأخلاقي، بل ورد إنذار نبيّنا(ص) من تفرّخهم آخر الزمان وتسخيرهم المساجد أوكاراً للفتن الطائفية والتحريضية: “سيأتي زمان على أمتي لا يبقى من القرآن إلا رسمُه، ومن الإسلام إلا اسمُه، يُسمَّون به، وهم أبعدُ الناس منه، مساجدُهم عامرة، وهي خرابٌ من الهدى، فقهاءُ ذلك الزمان شرُّ فقهاء تحت ظلّ السماء، منهم خرجت الفتنة، وإليهم تعود”، وبالتأكيد ليس المقصود الفقهاء الشرفاء؛ دعاة الوحدة وتأليف الأمّة والاعتناء بقضاياها ورفعتها، بل علماء “الفتنة” -كما في النصّ- المهووسون بالتفتيت وتقطيع المجتمع والأرحام.
نحن الذين نثير فقهاءنا تجاه السلام أو الحرب، نستفزّهم ونستزلّهم بالمعلومات المضلّلة لنغرّر بسماحتهم، وربّما هذا ليس عيبهم، فحتى النبيّ(ص) تُقدّم له المعطيات الخاطئة حتى حذّر أنّ البعض يلحن بحجّته ويزيّنها فيحكم(ص) له على أخيه بحسب الظاهر، (فإنّما أقطعُ له قطعةً من النار فليأخذها أو ليدعها)، نحن نستطيع أن نجعل فقهاءنا دعاة سلام بتوفير المعطيات الصحيحة والعواقب الخطيرة لأي فتوى نطلبها للتشطير والتحريض ولتقوية أحزابنا.
علينا أن نرمّم العلاقة السويّة بين الناس والفقيه، لتكون أكثر وعيًا، ومناصحةً وحبّاً، وليس تقديسًا أعمى من ناحية، ولا تدنيساً للفقيه وتوظيفه لخصوماتنا الشخصية والسياسية، فهذه علاقة لا وعيَ وحبّ فيها، تتمظهر استعباداً من أعلى لأسفل طوراً، واستنفاعاً من أسفل لأعلى طوراً، حتى اشتكى فقهاء أجلاّء ضغط العامّة (دافعي الحقوق الشرعية) في جرّ الفقيه وإخضاعِه لما يريدون.