احتفاليّات وأهازيج تتكرّر بذكرى مولد المهدي المنتظر(ع)، أشبه بالفولكلوريّات الشعبية لدى البعض، وبالتكسّب والتوظيف لرصيدٍ شعبي لدى فئات ربّما ما عادت مؤمنة بمضامينها واشتراطاتها، وبابتهاج بريء ومحبّ لدى الغالبية ببساطة إيمانهم الموروث بصاحب المناسبة العطرة.. وبما يُشكّله مِن أملٍ بوجدانهم لحلمٍ يُنهي ضوائقهم.. فيبتهلون لاقتراب أجله وتحقّق وعده.
يحتفل ملايين المسلمين (مِن الشيعة) بمولده(عج) بمنتصف شعبان.. وبهذه المناسبة القدسيّة نستلهم ومْضتيْن تختزنها فلسفة هذه الذكرى:
الأولى: أملٌ ضارب بوجدان الإنسان بضرورة تحقّق حلم الإنسانية: بانبساط العدل والمحبة بين البشر.
الثانية: عدم تخلّي الناس عن إيمانهم بحتمية قدوم منقذٍ عالمي روحانيّ غيبيّ، رغم انتظار “آلاف” السنين.. تبَعاً لتنوّع الاعتقادات والملل. هذا بدوره يُفضي بنتيجتين:
1- أنّ البشريّة “حاولت” جهدها -وواجبُها المواصلة- لتحقيق “حالة مُثلى” لمجتمعنا الإنساني.. بعضُ شرائطها تحقّقُ وعي الإنسان بضرورة العدل والسلام، ولبلوغ هذا الوعي -بالوسيلة القاسية- ينبغي مقاساتُنا الظلمَ بأنواعه والدمار بألوانه، لنقتنع أخيراً بقدرتنا على حلّ كلّ مشاكلنا أو تجاوزها.. بالمحبة وبالتآخي وبالعدل والحِوار.. وأيضاً شرْطُه أنْ تتواصل طبقاتُ البشريةُ وتتّصل بتجاربها لتُراكم مخزونًا كافياً يُعيد تشكيل وعيها..
2- أنّ البشريّة “أخفقت” بتحقيق “الحالة المُثلى” تلك، لأنها للآن لم تشكّل ذلك الوعي، ولأنها تختزن من الهمجية والفساد والعجلة وغرور القوّة والتفوّق و”الاختصاص بالحقّ” ما يجعلها تُعاجل خلافاتها بالقوّة والعربدة، لدرجة باتت توظّف أقدس الأشياء وأنفعها.. كالعلم والدين.. لأخبث أغراضها.. فلذلك اشتدّ احتياجُها لمنقذٍ مِن خارجها لم يتلوّث بأنجاسها ولمْ تُلبسه مدلهمّاتِ ثيابها، سمّتْه طبقاتُ الأمم بأسماء شتّى وفق أديانِها وخصوصيّة ثقافاتِها عن مُخلِّصيها، وحلمتْ بمجيئه بسيناريو أشبه بالخيال: إمّا قادماً من عميق الزمان، أو هابطاً من السماء، أو رجلاً “طيّبا” عاديّاً أصلح الله أمره بليلةٍ واحدة ليُصبح “المُختار” الذي يُبيد الشرّ (كفكرة فيلم “كونغ-فو باندا” الرائع..على وجه التقريب)…
المشهد “الطوباوي/المثاليّ” هذا، أصبح مشهداً دعائياً يُخيّله كلّ سياسيّ أمام أحداق ناخبيه، ويُثير شهيّة المتضوّرين والمتضرّرين، فمن أبهرته خطاباتُ “أوباما” الانتخابيّة أطربتْه هذه اللغة، ومَن يستمع مليًّا لمرشح أيّ منصب أين كان، وأنه سيجتثّ الفقر والجهل، ويوفّر الحرّيات والحقوق والكرامة والرفاه، ويعمّم العدل والسلام وسواسية القانون، لن يشكّ أنّ هذا السياسي أو المرشّح يُحضّر أو يتقمّص “المهدي”، ريثما يُقاسي التجربة.. ليُثبت فشله كغيرِه بتلوّثة وتهالكه.. وليضحى أحد مآزقها، وتصريفًا من تصاريف امتداد الظلم واشتداد الجور.. وتعميمه وعولمته…
قدّام البشرية الكثير ليستوعبوه، فالدخائل ما زالت عصيّة عن “حبّ الآخر”، طالما هي نزيحةٌ عن الاعتراف “بحدّها”، وبأنّ حقّها الوجوديّ هو حقّ الآخر سواءً بسواء، مهما كان دينُ الآخر وعرقُه ومرجعيّتُه وجنسه! فمَن منّا الآن يعترف عمليّا بهذا؟! لا أحد.. إلاّ المقهورون والمهمّشون طالما كانوا مقهورين مهمّشين.. أمّا إنْ تولّوا فسيُعيدون إنتاج مسلسل ظلم الآخر وتقطيع الأرحام.. وتُعاد الحكاية الأبديّة.
طوبى، طيبة، تِيبس(Thebes)، تيبت(Tibet)، عنتيبي(Entebbe)، إتيوبيا/إثيوبيا(Ethiopia)، يوتوبيا(Utopia).. أسماء تاريخيّة وثقافيّة لأمرٍ واحد.. هو “طيبة” الخصيبة (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) الذي اشتقّ منه الفلاسفة مصطلح “طوباوي” (أيْ “مثالي/خيالي/حالِم”)، دولة “طوبى” أفلاطون والفارابي والحالمين.. أو المدينة “الطيبة” (الفاضلة في السياسة والقانون والاجتماع).. التي جهَد الأنبياء والمصلحون الحكماء مدى الدهر لإقامتها.. بتغيير النفوس تجاه التكامل والتكافل والمحبّة والتطوّر الحضاري السلِس.. المتناغم مع الطبيعة والكون.. والمفعمة بإنسانية قوانينها، وربما نجحت بعض الحضارات التاريخيّة بتشكيل حالة من حالاتها، لكنْ عولمةُ هذه الحالة لتستحكم وتَحكم ما كان ولن يكون إلا بشرائط تقنيّة مدهشة تُستهلّ بتوفّر وسائل مواصلات واتّصالات متقدّمة.. وبشرائط إنسانيّة تبدأ ببروز احتياجٍ ورجاءٍ عالمي حقيقي (للعدل والمحبّة والسلام)، وعملٍ حقوقيّ حقيقي، وتوفّرِ مقدارٍ كافٍ من مصلحين نبلاء مضحّين، يُتوجّ ذلك معونةٌ مدديّةٌ من السماء بمصلحٍ روحانيّ حقيقي.
يحتفل كثيرُنا بالمولد المبارك، لكنّنا لا نؤسّس لواقع يومنا المأمول.. طالما عقيدتُنا “الإصلاحية” لا تعني أكثر من “إصلاح” أوضاعنا “الشخصيّة” أو أوضاع فئات محسوبة علينا من طائفتنا، وليس إصلاح أوضاع “الناس كافّة” النفسية والاجتماعية.. مؤسّسين لمنظومة “القسط والعدل”، “فالآخر” ليس له محلٌّ من إعرابنا، وقد يكون هذا “الآخر” منافساً من تيّارنا نفسه، “آخر” قريب جدّا –فما بالك بالبعيد؟!- لكنّه يُنبَذ من المسجد –كما يحصل دائماً وحصل مؤخّراً بقرية الدير- لأنّ “الذات” المتنفّذة المستحوِذة ترى المسجدَ مسجدها ومسجد “ديرتها” وليس لله وللمسلمين عامّة، وأنّ المُختلِف مع عباءة مرجعيّتها (السياسية) المحلّية.. يستحقّ التهميش وسلب الحقوق (المُساوية) والإخراج من ملّة المسلمين والمؤمنين..
فبدعوى ضرورة الرضوخ “لمرجعيّاتنا الفئويّة” وبدعوى احتكار “الإسلام الأصيل” من قبَل فئةٍ.. تتبعُ تيّاراً.. يتبع طائفةً.. تتبع شطراً.. من مذهب! وبدعوى تمثيل “الدين الحقّ”، و”الفرقة الناجية”، و”العرق الأنقى”، و”الشعب المختار”.. لدى أيّ ناطق وناعق.. وأنّ الآخرين ليسوا على شيء، فبتمكّن هذه الدعاوي عمّت العالمَ فوضى التجاوزات.. وانتشر الظلمُ والجورُ طولاً وعرضًا.. حتّى مع الأسف ممّن صدحوا بذكر “المهدي” وبتكثير مظاهر وحرَكات وطقوس الاتّضاع له.
أوردتْ آثارُ أئمّة أهل البيت بأنّ مهديّهم(عج) سيغيب لأنّه “يخاف القتل”، والعاقلُ يُدرك بالبداهة أنّ مصلحًا عالميًّا بهذا الحجم والاقتدار والإيمان لن يُخيفه غيرُ ربّ الأرباب.. وأنّ شرف القتل للمصلحين عادةٌ وشهادة، ولكنّه خبرٌ ورد وفق سياقه التاريخي، رامزاً لاستصحاب أيّ مصلح -صغُرَ أم كبُر- شعورَ خوف اجتثاثه وإجهاض مهمّته، جرّاء تفاقم همجيّة واقع الفساد الاجتماعي والسياسي، وبالأخصّ لدى ذوي الخصومات السياسية أو الدينية الذين لا يحسبون الناس إلاّ أتباعاً ومتاعاً من أمتعتهم، فيقفون حجر عثرة دائمًا ضدّ تحريرهم الحقيقي، فيبدون مستعدّين لضرب “الذي فيه عيناه” لأيّ منازع لهم ولو كان نبيُّ الأمّة أو مهديُّها.. لذلك سنبقى وستبقى الناس المستضعفة على موعدٍ وأملٍ بأملها المأمول.. الحقيقي.