في كُتب الفقه: (وجوب منع المشركين دخول المسجد الحرام)، (يُمنعون من جميع المساجد، لقوله: “إنما المشركون نجسٌ فلا يقربوا المسجد الحرام”) (لا يجوز لمشرك، وذمّي، وحربيّ، سكنى مكّة) (وسكنى الحجاز إجماعا)، (يُطردون من جزيرة العرب)، (الظاهر عدم جواز استيطانهم بلاد الإسلام)!!
بدأ الأمر بمنع (المشرك) من (المسجد الحرام)، ثمّ من (المساجد)! ثمّ من (مكّة)! ثمّ (الحجاز)! ثمّ (جزيرة العرب)! ثمّ (دول المسلمين)! ولولا الهوان لظهر من يُنادي بطردهم إلى المرّيخ!
أكتب هذا وأسمع تقريراً بأنّ 30% من سكّان السعودية أجانب!!
كلّ شرائع السماء والأرض شرّعتْ حماية النفس والمال والوطن من الاعتداء، أيًّا كان دين الظالِم والمظلوم، والإسلام كدين فطرة، لا يُمكن أن يخترع قانوناً آخر.
ولأنّه دين (فطرة) و(منطق)، فلن يُبيح قتالَ الآخر لاختلاف (عقيدته) مهما سَفهتْ وتَفهتْ، إلا إذا كانت عقيدةُ ذاك تُهيجه لظلم الآخرين وإكراههم، كما كانت عقائد أقوام الأنبياء، تجورُ على مصلحيهم ومستضعفيهم، وكما (النازية)، و(العنصريّة) و(الصهيونية)، وكما (أيديولوجيات) تمحو قيمة الآخر وحقوقه، وكمقالة اليهود (ليس علينا في الأمّيين سبيل). و(مشركو) مكّة بأحلافهم هكذا كانوا؛ صنعوا عقيدةً زائفة لاحتكار (الدين) و(السلطة) و(المال)، ونسفوا قيَم الرحمة والعدل والأمن، فاستشرى ظلمُ الضعيف: (لا يُكرمون اليتيم، ولا يحضّون على طعام المسكين)!
إنّ جرجرة (الدين) السمح، ليُقاتَل –باسمه- غيرُ الباغي فيُؤذَى (لمجرَّد شرْكِه)، انحدارٌ لعقلِ الأمّة وضياعٌ لمنطقِها، فانبرى (الفقهُ السلطانيّ) لينسج أغطية شرعيّة لغزوات الساسة وبطشهم بالمعارضين على مرّ التاريخ، تحت عنوان (شركهم) و(كفرهم) ولو كانوا فرقاً مسلمة! فانجرفت النصوصُ بأحكامِها (المنطقيّةُ) عن مواضيعها، وأحدثت طوفانات هدّت قيَم الإسلام نفسِه، وبين يديهم سيرةُ نبيّهم (ص) تُخبرهم بعدم قتال (المشركين) عدا الباغين، فنبيُّهم(ص) حالف وصادق (مشركين) كُثُر، بل بنو هاشم آزروه وعانوا الحصار وكثيرُهم آنئذٍ (مشركٌ)، والبعضُ يعتقد بشرك (أبي طالب!!) و(العبّاس!) عمّي النبيّ (ص) آنذاك، إذن؛ ضحّى أولئك وغيرُهم بأنفسهم وأبنائهم وراحتهم للنبيّ وأصحابه، فشكرهم النبي وقرّبهم، ولقد سار بمسلمين و(بمشركين) حين همّ بالعمرة التي أفضتْ بصلح الحديبيّة، واستعان بعد الفتح بمشركين أيضاً وبدروعهم!
هذا التخبّط (التنظيريّ) تمادى بتراكم أفعال الساسةِ التاريخيّين، ليُعاد إنتاج (كتابة) السنّة أو (فهمها)، وتطويع (تفسير) القرآن وفقَ فِعالهم، بعيدًا عن ظرفها الأوّل وسياقاتها الخاصّة عندما أُمِر النبيّ(ص) بقتال البُغاة (المشركين) المعلومين: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)، فتناسوا أنّ الحكم معلّلٌ بسبق قتال (أولئك المشركين) (لأولئك المسلمين)، وأنّ شطرَه الثاني يدعو للتحرّي و(التقوى) لئلاّ يُظلم المُشرك المُسالِم، والسياق يُظِهر أنّ (هؤلاء المشركين) الذين لطّخوا (البلد الحرام) ظلماً واستباحةً، هم مَنْ سمّاهم القرآن (إنّما المشركون نجَسٌ)، ليأتي الفقهُ التقليديّ معمِّماً حكم (النجاسة) لكلّ مشرك عقيديّ بالعالَم(!!)، بينما كانوا خاصّةَ المعتدين (وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) و(وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) هذا هو سياقها، فما علاقة (مشركيّ) العالم مِن كمبوديا وجامايكا بهذه (النجاسة) و(بالقتال المُتبادَل)؟!
ولكنّ (الفقه السياسيّ) عمّمَ مفهوم (المُشرِك) المأمور قتالُه، على القبائل المُجاورة، ثُمّ الدول المختلفة العقائد خارج الجزيرة، وصنعوا حديثاً لابن عباس أنّ النبي(ص) أمر بطرد المشركين من جزيرة العرب! هذا وهم يقرؤون سيرته الربّانية السمحاء وأخلاقه الكريمة مع (المشركين) واستماتة بعضهم دونه(ص) لأنّه الصادق الأمين، لا يغدر ويبغي!!
رحمةُ العالمين محمّد(ص) لا ينفي عن جواره إلاّ الباغين المفسدين المُعربدين، لأنّ مطلبه السلام والإخاء لا الحرب.
فليس ثمّة تشريع (للمُنجَّس) و(المُقاتَل) يُخالف الفطرةَ والعقل! فالشأنُ الديني فطرةً، وعقلاً، وقرآناً، وسنّةً محمّديّةً، هو شأنُ دفاعيّ بحت وردعيّ، لصيانة حقوق الناس وأمنهم وحرّياتهم وقيَمهم ونُظُمهم الإنسانية، (نجّس) الرذائل وواجه قبائح المتوحّشين.
فمنْ دعَوْهم “هنوداً حمراً” ناضلوا -بعقيدتهم- محتلَّهم الأوربيّ حتى أبادتهم همجيتُه واستشهدوا، والفيتناميّون –بشيوعيّتهم- ثاروا ودحروا محتلّهم الأمريكي، وغيرُهم وغيرُهم، فقانونٌ فطريّ أن يُدافع كيانُ الأفراد والأمم عن كينونتهم وأشيائهم.
أمّا سياسات التطهير للمختلِف (مسلماً أو هندوسيّاً أو مشركاً)، فستُقسِّم العالَم إلى حاراتٍ متنازعةٍ حكراً على أتباعها تكون (دار سلمهم) ومغايروها (دار حربهم)! وسيزول التواصل الإنساني والتعارف الحضاري والتعامل القيَميّ وتداول المنافع التي كانت غاية الرسالات.
الكلامُ آنفاً، استنطاقٌ لنصوص القرآن، واستلهامٌ لسيرة نبيّنا(ص) ومأثوره، فهو القدوة دون الآخرين.
إنّ دعوات طرد الآخر العقائديّ، لا علاقة لها بالدين، بل (بالنفس الأمميّة) حين تُضرَب بفيروس غرور الأفضليّة والأحقّية، لذلك نجد أعراضها لدى يهود وصليبيّين قديماً وحديثاً فيُصبح الآخر (أغيار) و(بنجاسة الكلاب)، ومؤخَّراً نادى بعضُ غُلاتهم (بتطهير) أوربا من (المسلمين)، ونجد أيديولوجيات شمولية أبادت وهجّرت أمماً خالفتها لباسَها، استبدادٌ قديم استبشعه القرآنُ مع تهديد المجرمين لأنبياءهم (لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) و(أخرجوا آل لوط من قريتكم) وعن المشركين (المعتدين) مع محمّد(ص) (يُخرجون الرسول وإيّاكم) و(ظاهروا على إخراجكم) ..
لذلك كان “منطقيا” و”إسلاميّاً” و”إنسانيّاً”: (التعايش مع الآخر، إلاّ الذي لا يقرّ بوجودك وبحقوقك المساوية لحقوقه)، و(مشركو) مكّة البُغاة كانوا من هذا الصنف المُتعجرف النجس، فتُرصِّد لهم، ليأمن البلدُ الأمين وأُناسه.