أكثرُنا لا يُدافع عن (الشرع) فعلاً، بل عن خياراته وانتماءاته بيافطة (الشرع)، فهي عصبيّةُ (ذات) لا حميّة (الله).
سأوجز حلقتي الأخيرة بثلاث نقاط تليق بمقالة:
أوّلاً- التقدير والحساب: بقوله سبحانه: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) و(جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ)، أثبت أنّ “الشمسَ” “علامةُ” “السنين” بتوالي فصولها الأربعة، و”القمر” وتبدّل “منازله” “للحساب” الشهريّ، وكلّ “شهر” أورده القرآن فهو “قمريّ”، أنشأتْ هذه الحقائقُ ثقافة الإنسان، فمنذ بابل، حدّدوا منازلَ القمر ووضعوا التقاويم ودرجات دائرة الفلَك و(تنقّل) (القمر/الشمس) فيها وسمّوها (أنقِل Angle) وهي الزاوية، ومِن (سَنا/Sun) وهو نور (الشمس)، قُدّرت الـ (سنة) التي (تنتهي) بموت (سَنا/Sun) الشمس بالانقلاب الشتوي.
وأوّل يوم/الأحد سمّوه بالشمس (سَن-دي/Sunday)، والثاني/الاثنين بالقمر (مون-دي/Monday)، إنّ الفعل العربيّ والسرياني (مَنى) تعني (حسَب) و(قدّر)، ومنه اشتُقّت المفاهيمُ ذات الدلالة التقديريّة (أمنية/مَنيّة/مَنِيّ)، وكلمة (منتال/Mental) أيْ الحاسوب العقليّ، والـ(مَنْدَل/مندالا) لحساب الأقدار، و(مِنوت/Minute) لحساب الزمن، كلّها مِن الجذر نفسه، عرَف القُدماء أوجه القمر الأربعة، ونحتوه تمثالاً وسمّوه (مَناث/مُنات/منا) كرمزٍ للحساب الربّاني، واستهجنه القرآنُ بعدئذٍ حين عُبِد كصنمٍ بتضليل كهَنة الدين فتولّدت أسماء (عبدشمس- عبدمناث/عبدمناف- عبدالعزّى وهي عبدالزُّهرة)، فكلمة (مُنى/مناث/منات/مناة) تعني حساب (القمر) و(الشهر) معاً، وذهبتْ للإغريق فالقمر (مونا/Mona) والشهر (موناث/Monath)، وبالإنجليزيّة (مونث/Month) والقمر (مون/Moon)..الخ.
تعليمٌ أمدّته السماءُ للشعوب وأسّس عقلَها وهُداها الحضاريّ، تثبيتاً لحقيقة ناموسيّة (حسابيّة)، يستحيلُ لشرعِ السماء أن يتجاوزها!
ثانياً- اليقينُ واليُسرُ أصلان: لمّا أمَر الهادي(ص): (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإِن غُمَّ عليكم فاقْدُرُوا له) وبأخرى (فإِنْ غُمّ عليكم فأَكملوا العِدَّة)، فقد سبق إخبارُه (الشهرُ تسعٌ وعشرون)، فالحديث الأوّل (كما فسّره ابنُ شريح) حكْمُهٌ للعلماء، و(اقْدُرُوا له) أَيْ قدِّروا منازلَه فتدلّكم أَنّ شهرَكم تسعٌ وعشرون أَو ثلاثون، والثاني -حين غياب العلم- تكليفُ مَن لا يُجيدون التقدير، و(التقدير والحساب) هو رأيُ الشيخيْن مصطفى الزرقاء وأحمد شاكر فقالا: (بوجوب إثبات الأهلّة بالحساب في كلّ الأحوال إلاّ لمن استعصى عليه العلمُ به)، وقد أسلفنا أنّ السيّد فضل الله قال بهذا، ويُناصرهم شيخ الأزهر الطنطاوي، ومُفتي الديار واصل، والدكتور الشرباصيّ.. وكثيرون، فالقمر ساعةٌ كونية حسابيّة لا تُخطئ، وكان العربيّ الحذِق بمجرّد نظره للقمر وموقعه يعرف الساعة واليوم، فبدايةُ الشهر لا تُعرَف بالهلال فحسب بل بالمحاق أيضاً، فهو كساعةٍ حائطُها السماء، فبعد عقرب الساعة (12/المحاق) مثلاً، ستأتي (الواحدة/الهلال) قطعاً، كأجلٍ مسمّى ومحدّد (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً)، بعودة العُرْجون/الهلال، ولا يُمكن أنْ يُحبَس مُحاقاً ويُبتَلع كالتصوّر الخرافيّ.
فالهادي(ص) يأمرُ بتحصيل (اليقين) بـ(أيسر) الوسائل، بلا احتياطات زائدة، فمنعَ صيامَ يوم الشكّ باسم رمضان لئلاّ يُتّخذ ذريعة للغلوّ والتشدّد بفرائض الله، و(اليقينُ الميسور) يتحصّل (لعامّة) الناس زمن الخطاب وإلى يومنا بالرؤية وبإكمال العدّة، ويحصل للعلماء -وهم حُكّام الناس- بالتقدير الحسابي، واليوم (اليُسرُ) و(اليقينُ) جهةُ هذا؛ لتوفّر تقنيّات فائقة وحسابات قاطعة، دونها رؤية العين بأشواط.
وأهلُ البيت علماء/أمناء على النهج ذاته، ورد عنهم كجدّهم(ص) وسيلةُ (الرؤية) كأداة (يقينيّة) (متيسّرة) للناس حينها، وورد أيضاً علمُ (الحساب) بأدوات زمانهم فكيف بأدوات اليوم: (إذا غاب الهلال قبل الشفق فهو لليلة، وإذا غاب بعد الشفق فهو لليلتين)، والإمام العسكريّ يُعلِّم أحد تلاميذه (فإني أعطيك أصلا إذا ضبطته لم تشكّ بعد هذا أبدا .. تعرف أيّ يوم يدخل المحرّم، فإنّك إذا عرفته كُفيت طلب هلال شهر رمضان..) إذن بالإمكان الاستغناء بالحساب النافي للشكّ (أبداً) والمُغني عن الرؤية، مع ملاحظة أنّ الدّين ربطَ الإنسان بظواهر الطبيعة من رصد شمس وظلّ واستهلال قمر وخسوف، ليُبقي جذوة الاتّصال بالخليقة الدالّة على الخالق سبحانه، فيرفد شعورَ التعبّد، فإنّا نتنازل عنها كوسائل لآيةٍ أحسنَ منها، لكنّها حاضرةٌ كشعورٍ وكدلائلَ وكأدعيةٍ روحيّة.
ثالثاً- مركزيّة مكّة: اختارت السماءُ بقعةً تحكم بها سائرَ البقاع، كمقرٍّ لتدبيرها وإمدادها، وكمهبط لملائكتها، فكانت بدئاً أوّل (يابسة/أرض) طَفتْ من الغمر البدئيّ، ومنها (الأرضُ مُدّت)، منها انطلق الإنسانُ يُعيِّنُ جهاته وينتشر (شعوبًا وقبائلَ)، كانتْ (أوّلَ بيتٍ وُضِع للنّاس) و(البيت العتيق)، ولا علميّة لمركزيّة (جرينتش) المفروضةِ (عام 1882) بمنطقٍ استعماريّ، بل (مكّة) هي المركز، وما زالت كلمة (مكة-Mecca) تعني المركز والقبلة غربياً، والشريعةُ بمناسكها وافقتْ ذاتَ الحقيقة التاريخيّة والسماويّة، (فالرسالاتُ) بدأتْ منها وخُتمتْ فيها، و(الصلاةُ) شطْرَ مسجدِها، و(الحجُّ) إليها، و(الخطابُ القرآني) تنزّل مفصّلاً على بيئتها ولغتِها، (فالمواقيتُ) الشرعيّةُ مرهونةٌ بها، وباعتبار كوكبنا نصفُه ليلٌ ونصفُه نهار، فإن وُلد الهلال فَلكيّاً -وبقي بالأفق بعد غروب الشمس- في أيّ بقعة مِنْ نِصف الكوكب الذي مركزُه مكّة (وتُخومُه 6 ساعات شرقاً و6 غرباً) فسيثبت شرعيّاً.
فإن وُلد الهلال فَلكيّاً -وبقي بالأفق بعد غروب الشمس بحيث يمكن رؤيته بالآلات- في أيّ بقعة مِنْ نِصف الكوكب الذي مركزُه مكّة (وتُخومُه 6 ساعات شرقاً و6 غرباً، على وجه التقريب بسبب اختلاف الفصول) فسيثبت شرعيّاً.
إنّ على الفلكيّ وهو (المُختصّ) أن يُقدِّم شهادةَ (اليقين) للفقيه، ليُعمّم الفقيه بمقتضى العلم هذا الحكم، وإلاّ فقد خالف (الشرعُ) (الناموسَ)، ومن مسئوليتنا كحمَلةِ خاتَم الرسالات اعتمادُ (العلم) وإلاّ فسيفرض الحقُّ نفسه ونحن كارهون، فنُصبح كذاك الخطيب يصيح أنّ صعود الأمريكان القمرَ خدعة مكشوفة، لأنّ القمر بحجم (سُفْرة) الطعام!