قالوا: (تعدّدتْ الأهلةُ الشرعيّة، بحسب المبنى الفقهيّ والتصوّر العلميّ لكلّ فقيه). حسناً، الدينُ واحد، وفقهاؤه الأكارم أبصرُنا بتمزّق الأمّة وأحْوَطُنا عليها، وهم إخوةٌ وقدوة، ووسائل (التواصل) ميسورةٌ لاستجلاب فتاوى النّفع والضرّ، فلماذا لم (تتواصل) مجاميعُهم طوالَ عقودٍ وتتشاور، مقدّمين أولويّة (وحدة الأمّة) و(وجاهة الدين) ضِمنَ مبانيهم وتصوّراتهم، للوصول لأرضيةٍ تُوحّد (مقلِّديهم) بهلالٍ، بدلَ تفتيتنا إلى إقطاعيّات أتباع، نتخالف في القرية الصغيرة؟!
سيثور البعضُ: (فقهاؤنا أعلم بتكليفهم ولا يُسألون عمّا كانوا يعملون)! سنُجيبهم: كفانا تأليهاً لبشرٍ مثلنا، فأعظم الخلائق المعصوم نبيّ الله(ص)، أشار عليه أتباعُه فرحّب واستجاب وغيّر.
سمّينا الحلقة السابقة (هلال لمحو الضلال)، إذْ أيُّ ضلالٍ بتفسيق فقيهٍ وشتمِه لمخالفته التصوّر التقليديّ مُخلصاً باجتهادِه؟!
أيّ ضلالٍ أن نستهلّ صومَنا/فطرَنا بأربعة أيّام؟! المبرِّرون يعزونه (لاتّساع ديار المسلمين ولاختلاف آفاقهم)، بلى، لاختلاف آفاقهم الذهنيّة وليس الجغرافيّة، لأنّ هذا التعدّد الرباعيّ يحدث بقريةٍ ميكروسكوبيّة واحدة!
أيّ ضلالٍ أن يقطع آلافُ المسافرين (مسافةً “شرعيّة!) لإفطارٍ قسريّ بيوم العيد، مع أنّ (قطْع المسافة) هي الأخرى طُرفة، مفادُها أنّ (دين الله) يُحتال عليه (شرعياً!)، وأنّ الحكم “الشرعيّ” حَرِجٌ لدرجة دفْعِه بالألوف ليخرجوا من ديارهم حذَرَ الصوم، وإلاّ (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ) أسيء فهمُها أيضاً فضاع لُبُّ التشريع، فـ(على سَفَر) بوسائل تُحاكي زمن التنزيل كـ(الخيل والبغال والحمير) والقدمين، بحيث لو تطوّرت وسيلةُ سفرنا المستقبلية، لسيّارة صاروخيّة مكيّفة تُوصلنا (الظهرانَ) بدقيقتيْن، أنقطعها ونفطر بآيسكريم ونرجع، لأنّها (مسافة شرعيّة) ولأنّا (على سَفَر)؟! احتيالاً و(تلاعباً) بأحكام الله للمقتدرين المرفّهين، والفقراءُ محرومون من هذه الألعاب الطريفة وامتيازاتها “الشرعيّة!”؟!
التضليلُ يتكرَّس حين يُقال (الرؤية الشرعيّة)، لتصبح (الشرعيّة) (للرؤية) وحدَها دون باقي الوسائل الأيسر منها والأيقن، ولقد حاول مُجدّدون الدفاعَ عن وسائل زماننا (كالسيّد موسى الصدر والسيّد فضل الله وغيرهم)، بأنّ (أفطروا لرُؤيته) تعني الرؤية العقليّة بوجود الهلال، وردّ عليهم فقهاءُ ظاهر اللفظ، والحقّ مع الظاهريّين نصّاً، لا روحاً، لأنّ الحزبيْن سحبا زمنَ الخطاب والمخاطَب ليكونا أبديّيْن! ولم يعودوا بالخطاب إلى زمنه بأدواته، حين وسيلة اليقين (الرؤية المجرّدة)، ودامَ هذا الزمنُ بوسيلتِه إلى عهدٍ قريبٍ، أنهاه انفجارُ علوم الصناعة والفضاء، لذلك ظلّت حقبة النبيّ(ص) وآلِه والفقهاء مبرّرةً باعتمادها (العين) لتحصيل يقينها وتوحيد مناسك الناس، إنّما العُهدة على مَن يأتيه اليقينُ العلميّ ويظلّ مُؤخّراً (الدين) عنه فيسبق (العلمُ) (الدينَ) ويسود التخلّف والتفرّق (بالدّين)، فيسترسلُ اليومَ وسيلةَ (القيافة) لإثبات نسبة الولَد بموارد التنازع، ونفيِ الولَد (بالتلاعن)! ويُميّز أنوثيّة الخنثى بهيئة تبوّلها لأنّ عليّاً(ع) قضاه، بدلَ اعتماد يقينيّة البصمة الوراثيّة وتحليل الحمض النووي، ويحصر الحكمَ الصالح (بالخلافة) أو (بالإمامة) دون الأنماط الإداريّة الأخرى، ويُدافع بـ(رباط الخيل) وبالسيف التزاماً بظاهر النصّ!
الخطابُ القرآنيّ (والنبويّ)، يحمل بصمَتَه التاريخيّة وبيئة التنزيل، فينبغي تجاوز حرفيّته لمضمونه، فالتطهُّر متى (جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ) لا مجالَ لحرفيّة تطبيقه اليوم، (فالغائط) المكانُ المنخفض الذي ترِدُه العربُ لتقضي حاجتها فيه، فاتّخاذ المراحيض بالبيوت وبالأبنية ألغى حرفيّة الآية وليس مضمونها، بوجوب الوضوء مهما كانت وسيلة الخلاء (غائط/مرحاض/شفّاطة “مستقبلاً”!)، وكذلك (إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ)، فلو جاء الغُزاةُ اليوم بإنزال مظلّي (جوّاً) وليس (زحفاً)، وبغزو (إعلاميّ)، فواجبنا ثابتٌ بحماية خياراتنا وهويّتنا؟! وأمره سبحانه الإعداد بـ(رباط الخيل)، وإرشادات الزمن الرساليّ: (علّموا أولادكم.. ركوب الخيل)، وأنّ (الجنّة تحت ظلال السيف)؟! فالخيل والسيف والقرطاسُ بما يوازيها عصريّاً من وسائل، والمئات أمثالها، ينبغي على الفقه فصْلُ أزمنةٍ كانت حرفيّةُ الخطاب فيها حكيمةً لمناسبتها لقدْر عقول الناس ووسائلهم، أمّا إنْ تغيّرَ الزمنُ بعناصره فستغادر تلك الأدواتُ حكمتَها، عندها ينبغي تغييرُها والتشبّث بمقاصد الخطاب، وليس بقوالبه.
وقد بيّن عليّ(ع) تبدّل الحكم بتبدّل الواقع الاجتماعيّ والمعرفيّ، حين احتجّوا عليه مخالفته أمرَ النبيّ(ص) بتغيير الشيب لئلاّ يتشبّهوا باليهود، فأجابهم: (إنّما قال(ص) ذلك والدّينُ قُلّ، فأمّا الآن وقد اتّسع نطاقُه وضربَ بجرانه فامرؤٌ وما اختار)، فأثبت أنّ العزّة واللاّتبعيّة غايةٌ، أمّا الوسيلة فاختيارية.
لقد جمّدَ (التقليدُيّون) إثبات الهلال على (الرؤية) بحدقة العين -وهي غايةُ مُستطاعِ الماضين- مع اكتشافنا التليسكوب، وصعودنا القمر، وانفجار علوم الكون والحساب، وكأنّ (العين) متعيّنة لذاتها لا باعتبارها إحدى وسائل (اليقين) الناقض للشكّ! هذا يذكّرنا بكاريكاتور معبِّر للفنّان البحرينيّ خالد الهاشمي، لرجلٍ قفز على سطح (سوبر-كمبيوتراته)، فجعلها تحت قدميه، باحثاً عن الهلال بعينٍ جاحظة! مع أنّ الإحصائيّات تُشير أنّ ثُلث الترائيّات البصرية تحتمل الخطأ والتخيّلات، بينما الحسابيّة-الفلكيّة يقينيّة مستحيلة الخطأ.
لقد فكّر بعضُ المُخلصين بمشروع لإطلاق قمر صناعيّ لرصد (الأهلّة)، وكأنّه انعدمتْ الكمبيوترات والبرامج الفلكيّة، إنّما هو إيغال في التعلّق بالوسائل القديمة، عظّموا الوسيلة حتى اخترعوا (هلالاً شرعياً) وآخر (فلكيّاً)! بدل أن يُصحّحوا تصوّرهم، ويُيسّروا ويُطوّروا حكمَهم تبعاً لأدوات اليقين، بخلاف النبيّ(ص) وآله كانوا علماء (زمانهم) بحقّ، وأيضاً مطوّرين لعلوم الكون ودعاته ومؤصّليه بمرويّات كثيرة تُحدّد حساب الهلال.. وللحديث بقيّة.