تُجّار الأذكار ونيْل الأوطار

وردني أنّ أشخاصاً بلبلهم مقالي الفائت، وأشخاصاً أقرّوا بوجود وَرَم لكن علينا ألاّ نستأصل معه الجزء السليم.. وآخرون أكّدوا بأنّ المقال قال ما يتلجلج بصدورهم، ممّن يخافون على الدين التسطّحَ، وعلى عقولهم التسطيحَ.

فما دامت مهمّتُنا إصلاحَ دين محمّد(ص) ممّا خالطه، لإعادة عرضه نقيّا، لاسيّما بزمنٍ تتآكل فيه طبيعتُنا الإنسانية وتُسلب الناس –بالنكبات- إيمانُها واتّزاناتها النفسية، فلابدّ مِن معاقل موثوقة تعيد شعورَنا بالاطمئنان وبالأمل، وتُعيد “للذكْر” -قرآنًا ودعاءً- رونقَه وأجرَه المباشر بتحصينه للقلوب وطمأنتها وفتح أقفالها، بدل إحالته لأجرٍ خرافيّ مفترًى. سبق وأكّدنا أنّ “القشريّات” التفّت على “الدين” ونخرَتْ جوهره، لدرجة تحوِّلِ تقديسِنا لها، وهذا الخبل -بترويج أذكار وأوراد- وبالذّات توقيتُه مع مخاضات الأمّة ومِحنها.. ومطلوبيّة شرف المواقف العمليّة، مشكلتُه في “لامَنطقِه” الترويجي بجعل ثواب “القشريّات” يفوق ثواب المجاهدين والصابرين والنبيّين والمصلحين، ترويجٌ يُوفّر بتغريره الجنّةَ مجّاناً ببضع كلمات يتهجّاها منبطحون لا “يُغيّروا ما بأنفسهم”، ترويجٌ “يُصلحُ عمَلَ المفسدين”!

تعملقُ هذا التعلّقِ، بأذكار وزياراتٍ وطقوس، وتضخيمُ أجورَها، يُولّد مظهرًا دينيًّا زائفاً مضادّاً لدين محمّد (ص) المعتني بإصلاح البواطن، ويضادّ موازينِه ومنها: “كَمْ من تالٍ للقرآن والقرآنُ يلعنه”، “والذي نفسي بيده، لا تدخلون الجنة حتى تُؤمَنوا” أيْ تُراعوا الأمانة، “..لا يدخل الجنةَ مَن لا يأمنُ جارُه بوائقَه”، “خيرُكم مَن تعلّم العلمَ وعلّمه”، “إصلاحُ ذاتِ البين خيرٌ مِن عامة الصلاة والصوم‏”، موازين صريحةٌ.. تُحدّد الأعمالَ والخصال “المنطقية” المُربحة للجَنّة، وتُلغي قيمةَ “أذكارٍ” -ولو كانتْ صلاةً وقرآناً- لا تُترجَم فعلاً صالحاً‏.

وقلنا أنّ بعض التشويقات لتلك “الأذكار”، قد تكون “منطقيّةً” لزمنها، وأزمةُ عقلنا الدينيّ أنّه يسحب النصوص/الأحكام حرفيّاً خارج سياقها التنزيلي الأوّل الذي صيَّرها “تنزيلاً حكيما” يحكم واقعها، فعبارة “مَنْ قال لا إله إلا الله دخل الجنة” صحيحةٌ بشروطها، وليست بالسطحية المُروَّجة، وإلا فكلّ فاجرٍ ومجرمٍ سيدخل الجنة بتلفّظها، وسيثور التناقضُ في الدين حين أوجب النارَ للظالمين، ولآكلي أموال اليتيم، ولنُهّاب المال العام، ولمفسديّ الأرض، وللجشعين آكلي الربا أضعافًا، وللذين يأمرون الناس بالبرّ -مشايخ وكهّاناً- وينسَوْن أنفسهم…، واشترط لنجاة أحدهم “أفعالاً” تبدأ بترك فساده “وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ”، يعني كمفهوم “العدالة الانتقالية”، فيقوم بردّ المظالم والقيام بواجب الإصلاح والاعتذار وتحسين المنهج السلوكي، “فالذكرُ” كلمةٌ طيبّةٌ لكن يعوزها رافعةُ “عملٍ صالح” موازٍ: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)، فيخرج “الذكْرُ/الزيارة/العزاء” طيّباً مِن نفسٍ طيّبة الفعال والخصال.

أمّا أجرُ “الذكر” اللفظيّ فهو فيه، حيث يقرّبنا لخالقنا، ويحجز أفكارنا عن الغفلة والشرور، ويكفّ ألسنتنا عن اللغو والغيبة والفحش والتشاتم والترنّم بالأغاني المنحطّة، وليس أجرُه -كما يُروَّج- فردوساً أعلى وثوابَ “مليار” حجّة وعمرة! فمِن هذا الجُحْر لدَغَنا الدجّالون وراجت صكوكُ الغُفرانات، وانتشرت مرويّاتٌ هزليّة صنعتها إملاءاتُ ساسة الأمويين والعباسيين والبويهيين والصفويين، بأفواه الدراويش والمحتسبة والمسترزقين بالدين، لتخدير الناس بدينٍ حشويٍّ يُغشي أبصارَهم عن سُبل نجاتهم الحقيقية حضاريًّا وأخروياً… فدمعةٌ كرأس الدبوس –كما تُروّج ملالي- تَضمنُ لمُستعبريها الشفاعةَ.. محضُ هُراء، فقد بكى خذَلةُ الحسين(ع) عليه، وخاطبتهُم زينب: (يا أهلَ الختل والغدر، أتبكون؟! فلا رقأتْ الدمعة، ولا هدأت الرنّة)، صدْقُ الفعال -وليس القول والتباكي- هو المنجاة.

فالتحضيضُ بالأجر للتلفّظ “بكلمة التوحيد” وأشباهها، كان له سياقٌ موضوعيّ سياسيّ واجتماعي، يومَ كانت تُفضي بقائلها للأذى والقتل، والطاغوتُ يُكره الناس ويُنمّطهم على العقائد السخيفة، كانت يومَها “كلمةَ حقّ” تؤسّس للدين -كخيار للمستضعفين- وكثغرةٍ للعقل وللتحرّر، فقائلُها مناضلٌ حقيقيّ يُرخص نفسه للقتل في سبيل تدعيمها وإشهارها، أمّا الآن فهي مجرّد ذِكْر لسانٍ خالي المشقّة… وعلى هذا السمت أجْرُ حِفظ السور القرآنية، فالحفَظةُ إذّاك دُعاة دينٍ كان “الذكرُ الحكيم” رسالتَه، ويحتاج لحفظِه صدورَهم، والصدْعُ به ألسنتَهم… وهكذا سائرُ النصوص الترويجيّة التي أعظمتْ “زيارات” مخصوصة، فإنّما كانت تأسيسيّة لأمرٍ يُحيا به معالم الدين، وعُدّ بظرفها الاستثنائي جهاداً بالنفس والمال والولد، فواجبُنا اكتشاف “روح” تلك النصوص (لو صحّت)، وروحُها كان “بذل الجهد لتغيير الواقع” (فالأجرُ بقدر المشقّة)، ولا مشقّة الآن باجترار مجرّد ألفاظ لا واقعَ تغييريّاً لها بنفسِ صاحبها وعلى مجتمعه!

وقلنا أنّ الدينَ منطقٌ، وما خالف المنطقَ فليس من الدين، والعجيب أنّ بعضنا بدلاً من تحكيم عقله وحسّه الديني يهرع مستفتياً “فقيهه”: “مولانا، تردُنا رسائلُ دعويّة بوجوب إرسالها لعشر أشخاص وإلا ستصيبنا الأخطار، فهل يجب ذلك؟” -(ملحوظة: بالأيام الخوالي يُنشَر هذا الهراء بالأوراق المُكرفسة وبخطّ اليد)- فيأتي الجواب: “لا يجب”، الجواب الأصوبُ منطقيّةً: “لا يجوز”، فهذا خبَلٌ ومسايرتُه وتقويتُه تسفيهٌ للدين، علينا التطرّفُ لعلاج هذا التطرّف، لا شرّ سيصيبنا إلا الذي كتبه الله علينا نتيجة فساد أعمالنا.. ومِن “منطقية” الدين أيضاً رفضنا لدعايات تُنثَر بالجرائد “العلاج بالقرآن والرقيّ لكل الأمراض المستعصية”، فالتساؤل “المنطقي”: هل سيأخذ المُعالج (أبو الدعاية) أموالاً على علاجه؟ إذن هو مِن “الذين يشترون بآيات الله ثمنًا قليلاً”، إن لم يكنْ دجّالاً باسم الدين!

مرّةً رأيتُ طرفةَ “كاريكاتور” ترسم رجلاً يتوعّد آخر بعدم قطف “الفِطْر” بالليلة القمراء وإلاّ سيمسّه “شرّ” عظيم، بالصورة الثانية يُحاول المنصوحُ قطفَ حبّة فِطْر، والناصحُ ختَلَ له بعمودٍ ليفلخ رأسه! هذا هو “الشرّ” الذي يتهدّدنا به تُجّارُ قشور الدين، شرٌّ كامنٌ بنفوسهم تجاه مَن لا يُصدّق زيفَهم ويُروِّج له ليُنعش أسواقَهم!

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة