سبق وقُلنا أنّ القرآن الكريم ليس دستوراً وطنياً لفرقاء وشركاء الوطن، لكنّ روح القرآن من دعوة لأخلاقيّات، وسنن عدل، وقيَم سلام، ومنافع مشتركة للناس، ومقاصد عليا، هي التي تُتوخّى في أيّ عقد توافقي، أكان عقداً وطنياً أم تجاريا.
مرجعيّة القرآن هي مرجعية قيمه ومقاصده ومعارفه، وكذلك هي مرجعية المصادر التي دعا لتأصيلها، كمراعاة القوانين الكونية والطبيعية، والأعراف والسنن الاجتماعية والتاريخيّة، والقسط بين الناس، وأثارة العلم، وحكم العقل، ونتائج الاختبار، ونخائل الشورى، وما ينفع الناس ويُصلحهم.
إنّ شريعة العدل والحقوق الإنسانية يتيمةٌ لا تعرف نسبًا، عمياء لا تميّز بين مؤمن وكافر، وأسود وأبيض، وموالي ومخالف، وعلى من يتكلّف لواءها أن يدرك أبعادها واشتراطاتها، و”حاكمية الله” المقابلة “لحاكمية الطاغوت” تعني حاكميّة “الضمير” الإنساني الذي يرى الناس سواسية، ولا تعني توصّياً استبدادياً وتحكيماً لرجال عشائريّين/مذهبيّين كمرجعيّات مفروضة، فسبحانه ليس لأحد معه نسبٌ وقرابة، وعدالته ليست لصالح المطيع دون العاصي، فأيّ نزوع نحو “العدل” نزوعٌ متجرّد تجاه “حاكمية الله”، وأيّ عصبيّة قرابية/دينية/مذهبيّة/ولائية على حساب قيمة العدل والقسط (الحقوق الإنسانية) هو نزوع لتمكين نُظم “الطاغوت”، حيث “تطغى” كفّة على كفة، وتربو أمّة على أمة، وتطغى المنفعيّاتُ وعلائقُها على القسطاس المستقيم.
إنّ مساحات الشراكة للمتعاقدين/المواطنين هي مساحة الأوطان وما تكنّه من ثروات، ومرافق عامة ومؤسّسات، وقضاء، وتعليم وصحّة، ووظائف ومناصبها، وإعلام وصحافة، ومساحات نشر الفكر، والسياسة والاقتصاد، فكلّها سواءٌ لفرص تمكّن المواطنين/المتعاقدين وتمثّلهم بلا تمييز.
وإنّ ميزان العدالة أعمى عن هويّات الشركاء المتعاقدين مهما تشاكسوا، وشريعة التعاقد (وهي سواسية) تقف على مسافة واحدة من مكوّنات أطرافها كما “الله” تماماً، لذلك امتعض عليّ(ع) حين أمرَه الخليفة “قف يا أبا الحسن بجانب خصمك اليهودي”، لأنّه كنّاه فميّزه عن خصمه! شريعة التعاقد لا تعرف تمييزاً واختصاصاً، ولا الاهتمام بملفّ طائفة دون أخرى، ولا تمكينًا لذواتٍ دون أخرى؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)، وهذه ثقافة قرآنية غيّبتها الخصوصيّات المذهبيّة والهويّات القبليّة، وستظلّ غائبة طالما نحن أسرى برمجتنا العصبية.
 
إن مناهضة الفساد العامّ ابتغاء “حقّ” العدالة الاجتماعية واجبٌ إنساني، لكن علينا توقّي فخّ ظنون الفوقية والعصمة، الخوارج طلبوا “الحقّ” فأخطأوه، وباحتكارهم القرآن وبزعْمِ تحكيمِه وبمنهجهم المذهبيّ الخاصّ رأوا أنّهم فوق تعدّديات المجتمع، خرجوا ضدّ نظام طاغوت لكنْ “بتطغْوُت” ديني اصطفائي متزمّت خيّلَهم “كشُراة” اشتروا الجنّة كفرقة ناجية دون غيرهم، فأنتجوا فكرَ تضليل مخالفيهم وتكفيرهم واستباحتهم بذريعة تطبيق “حكم الله” ومحاربة الفساد، ارتكبوا أعنف جرائم الإنسانية المخالفة للفطرة، باسم “القرآن” والنياحة به ليل نهار.
إنّ تصفية منهجنا لينسابَ وفق جوهرٍ قرآني/إنساني يدعو إلى سبل السلام أمرٌ عسير، طالما نوازع الأنا الفردية والجماعية ووحشيتها هي مُنتِجةُ منهجنا، ثمّ تُبرقعُه بالقرآن وباسم الله.
لقد تصدّى عليّ(ع) لجذور هذا المنهج المشوّه وتفشّيه في الأمة، لأنه باسم الله يُشرّع أخطر ما نهى نبيّ الله(ص) عنه “لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض”، ويُخسر الأمّة أنفس مِنن الله عليها “إلفة القلوب”، ويهشّم سلمها الاجتماعي وهو أكبر حصانات الإنسانية ضدّ شرائع الغاب.
هذا الفيروس تأسّس فقهياً وتكرّس بالممارسة، فبعضُ المذهبيّين يفهم “حميّة الدين” مواجهةً لمخالفيه الاعتقاديين، وحروباً “مقدّسة”، ومعارك كلام، وفتاوى استقواء، ونبذاً وإقصاء، واستتابات وإكراهات، ولعناً وقطيعة، ويستدلّ بآيات وبروايات يستلّها من مواضعها التاريخيّة ليبرّر سوء فعله، ولا يفهم الدين رحابةً إنسانية، ومكارمَ أخلاق، ورحمةً للعالمين، وتعاوناً مع مختلفين، وأنّ استثناءات إجازات القوّة القانونية بتعاليم ديننا دفاعيّةٌ لحماية وجودنا فقط، فعاد الإسلام غريبًا بين أهله، ولُبس مقلوباً بانقلاب الاستثناء قاعدة، ليصير باطنُه ناعم الملمس تجاه الذات، وظاهرُه خشناً تجاه الآخر.
أسقط عليّ(ع) دعوى الخوارج “دستوريّة القرآن”، حين بعث لهم ابن عباس وأوصاه: “لا تجادلهم بالقرآن فإنّه حمَّال أوجه، تقول ويقولون، ولكن جادلهم بالسنة فإنّهم لا يجدون عنها محيصاً”، فالقرآن حمّالُ أوجُه، يصلح لتغليف أيّ باطل وتجميل تشنّج، فكانت الفئات الاحتكاريّة تتلاعب بالقرآن وتوظّفه لمعاركها الكلامية/الاعتقادية وتشنّ التكفيرات والاستباحات وتدّعي اختصاصها بالله، وبالقرآن، وبتفسيره.
إنّ الدولة الدينية (سنّية/شيعية)، و”حاكمية الله/القرآن” المزعومة أسقطها عليّ(ع) حين قال بضرورة نظامٍ تعاقدي اجتماعيّ تأمن به الناس وتحفظ به حقوقها المدنية، وعليّ(ع) كان ينطلق من الدين نفسه الذي أوصى أتباعه ألا يجعلوا العلائق الدينية تفسخ العلائق الإنسانية وقيَم العدل لتجور على الآخرين، فالإيمان خاصّ لا يُكرَه عليه أحدٌ، بينما العدل عامّ ومفروضٌ لأنّه أساسُ الحكم/الدولة/الاجتماع…(وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاّ تَعْدِلُوا).
ففي الميادين المشتركة، ينبغي نصب مرجعية واضحة ليست “حمّالة أوجه” تقبل التأويلات وفق الأهواء والعقائد الخاصة، وكانت “السنّة” آنذاك -كسيرة عقلائيّة نبويّة- كاشفةً للخوارج أنّ النبيّ(ص) لم يكفّر مسلماً، وأنّه عاقب الجناة والزناة وفق نظامٍ مدنيٍّ عادل لا خارجه، وبدون شحنات دينية تكفيرية ترافقه، ولم يسلّ سيف البغي والاعتداء، ولم يُميّز ويُقصِ مختلفاً عقائديا، تلك القيم (السنّة) التي احتجّ بها ابنُ عباس على الخوارج، بهذا أسقط عليٌّ(ع) الزجّ بالمصحف بزعم أنّ “الحكم لله/للقرآن/للفقيه..” -الشعار الضبابي- كمرجعية للمتخالفين، ليؤصِّل مكانه ضرورة وجود قانون مدني مُتوافق سواء “اعتقده” البعض برًّا أو فاجراً (أمير برّ أو فاجر)، يحفظ حقوق الفئات ويمنع الاعتداءات، لئلاّ ينصب كلّ فريق مرجعيّته المفروضة الخاصة والمرفوضة من الآخرين، أو يُطالب بمرجعية مفتوحة على التأويلات (كالقرآن) تُفسّرها الفِرقُ والزعامات وفق هواها وحزازاتها وأفقها، فننقل معاركنا المذهبية والاعتقادية والتفسيرية إلى “الدستور” أيضاً لأنّ “القرآن دستورنا”! وتُباشر أسوأ فئاتنا إطلاق أوصاف الكفر على خصومها ثمّ تتلو سورة “براءة” وتفسّرها كمادّة دستورية تجوّز بها لنفسها اجتياح الآخرين تنجيساً وتقتيلاً!
وحيث أنّ القرآن لا نظام ثابتٌ وموحّدٌ لتفسيره يُوّحد نتائجنا، لذلك افترقنا مذاهب وطوائف وفرقاً كفّرت بعضها بعضا مستخدمة القرآن نفسه، ولها في الآية خمسون وجهاً تقول بالحكم ونقيضه، بدئاً بآية الوضوء والطلاق والإرث، وانتهاء بآيات القتال والدعوة، إذن ينبغي إيجاد نظام اجتماعي عاصم، ومرجعية “دستورية” واضحة (لا يجدون عنها محيصاً)، ليست خاصّة لفريقٍ وهواه وتفسيره واعتقاده وولائه، وهذا تُمثّله شرائع المتعاقدين؛ الجوامع الوفاقية لدى المختلفين: (ميثاق وطني، دستور تعاقديّ، منهج أخلاقي، قيم إنسانية، عهد دولي..الخ).